الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 294 ] وأما قوله [1] . : إنه " عدل حكيم لا يظلم أحدا ، ولا يفعل القبيح - وإلا لزم الجهل أو الحاجة [2] ، تعالى الله عنهما " .

                  فيقال له : هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة : أن الله لا يفعل قبيحا ولا يظلم أحدا ، ولكن النزاع في تفسير ذلك ، فهو [3] . إذا كان خالقا لأفعال العباد هل [4] . يقال : إنه فعل ما هو قبيح منه وظلم أم لا ؟

                  فأهل السنة المثبتون للقدر [5] . يقولون : ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا ، والقدرية يقولون : لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا لما هو قبيح [6] . .

                  وأما كون الفعل قبيحا من فاعله فلا يقتضي أن يكون قبيحا من خالقه ، كما أن كونه أكلا وشربا لفاعله لا [7] . يقتضي أن يكون كذلك [8] . لخالقه ; لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته ، فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره ، كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما [9] [ ص: 295 ] كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم ، فهو المتحرك بتلك الحركة ، والمتلون بذلك اللون ، والعالم بذلك العلم ، والقادر بتلك القدرة ، فكذلك [10] . إذا خلق في غيره كلاما أو صلاة أو صياما [11] . أو طوافا كان [12] . ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام ، وهو المصلي ، وهو الصائم ، وهو الطائف .

                  [13] . [ وكذلك إذا خلق في غيره رائحة خبيثة منتنة كان هو الخبيث المنتن ، ولم يكن الرب تعالى موصوفا بما خلقه في غيره ، وإذا خلق الإنسان هلوعا جزوعا - كما أخبر تعالى بقوله : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ) [ سورة المعارج : 19 - 21 ] - لم يكن هو سبحانه لا هلوعا ولا جزوعا ولا منوعا ، كما تزعم القدرية أنه إذا جعل الإنسان ظالما كاذبا كان هو ظالما كاذبا ، تعالى عن ذلك !

                  وهذا يدل على قول جماهير المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق أفعال العباد ، فإنهم يقولون : إن الله تعالى خالق العبد وجميع ما يقوم به من إرادته وقدرته وحركاته وغير ذلك .

                  وذهبت طائفة منهم من الكرامية وغيرهم ، كالقاضي أبي خازم [14] . بن القاضي أبي يعلى ، إلى أن معنى كونه خالقا لأفعال العباد أنه خالق [ ص: 296 ] للأسباب التي عندها يكون العبد فاعلا ويمتنع ألا يكون فاعلا ، فما علم الله أن العبد يفعله خلق الأسباب التي يصير بها فاعلا ، ويقولون : إن أفعال العباد وجدت من جهته لا من جهة الله ، ويقولون : إن الله تعالى موجدها كما قالوا : إن الله خالقها ، ويقولون : إنه لم يكونها ولم يجعلها ، ويقولون : إن العبد تحدث له إرادة مكتسبة . لكن قد يقولون : إنها بإرادة ضرورية يخلقها الله ، كما ذكر ذلك القاضي أبو خازم [15] . وغيره ، وقد يقولون : بل العبد يحدث إرادته مطلقا ، كما قالته القدرية . لكن هؤلاء يقولون إن الرب يسر خلق الأسباب التي تبعث داعية على إيقاع ما يعلم أنه يوقعه ] [16] . .

                  ولكن [ على قول الجمهور ] [17] من قال : إن [18] . الفعل هو المفعول - [ كما يقوله الجهم بن صفوان ، ومن وافقه كالأشعري وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ] [19] - يقول : إن أفعال العباد هي فعل الله .

                  فإن قال أيضا : وهي فعل لهم [20] . لزمه أن يكون الفعل الواحد لفاعلين ، كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني [21] وإن لم يقل : هي فعل لهم [ ص: 297 ] لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده ، كما يقوله [ جهم بن صفوان ] والأشعري [22] ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم [23] الذين يقولون : إن الخلق هو المخلوق ، وإن أفعال العباد خلق لله [ عز وجل ] [24] . ، فتكون [25] هي فعل الله وهي مفعول الله [26] . ، كما أنها خلقه وهي مخلوقه .

                  ( * وهؤلاء [ لا ] يقولون [27] . : إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ، ولكن هم مكتسبون لها ، وإذا طولبوا [28] بالفرق بين الفعل والكسب لم يذكروا فرقا معقولا . ولهذا كان يقال : عجائب الكلام [ ثلاثة ] [29] . : أحوال أبي هاشم ، وطفرة النظام ، وكسب الأشعري * ) [30] .

                  [ ص: 298 ] وهذا الذي ينكره [ الأئمة ] وجمهور العقلاء [31] . ، ويقولون : إنه مكابرة للحس ومخالفة للشرع والعقل [32] .

                  [ وأما جمهور ] أهل السنة [33] [ المتبعون للسلف والأئمة ] [34] فيقولون : إن فعل العبد فعل له حقيقة ، ولكنه مخلوق لله ومفعول لله ; لا يقولون : هو نفس فعل الله ، ويفرقون بين الخلق والمخلوق ، والفعل والمفعول .

                  [35] . [ وهذا الفرق الذي حكاه البخاري في كتاب " خلق أفعال العباد " عن العلماء قاطبة [36] . ، وهو الذي ذكره غير واحد من السلف والأئمة ، وهو قول الحنفية وجمهور المالكية والشافعية والحنبلية ، وحكاه البغوي [37] \ 284 عن أهل السنة قاطبة ، وحكاه الكلاباذي صاحب " التعرف لمذهب التصوف " عن جميع الصوفية [38] . ، وهو قول أكثر طوائف أهل الكلام من الهشامية [ ص: 299 ] وكثير من المعتزلة والكرامية ، وهو قول الكلابية أيضا أئمة الأشعرية فيما ذكره أبو علي الثقفي وغيره على قول الكرامية : " وأثبتوا لله فعلا قائما بذاته غير المفعول ، كما أثبتوا له إرادة قديمة قائمة بذاته " [39] ، وذكر سائر الاعتقاد الذي صنفوه لما جرى بينهم وبين ابن خزيمة نزاع في مسألة القرآن ، لكن ما أدري هل ذلك قول ابن كلاب نفسه أو قالوه هم بناء على هذا الأصل المستقر عندهم ؟ ] [40] . .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية