الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الرابع : أن يقال : لا ريب أن ما ينقله الفقهاء عن مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم هو أصح مما ينقله الروافض عن [ مثل ] [1] العسكريين ومحمد بن علي الجواد وأمثالهم . ولا ريب أن هؤلاء أعلم بدين النبي - صلى الله عليه وسلم - من أولئك فمن عدل عن نقل الأصدق عن الأعلم إلى نقل الأكذب عن المرجوح كان مصابا في دينه أو عقله أو كليهما [2] .

                  فقد تبين أن ما حكاه عن الإمامية مفضلا لهم به ليس فيه [3] شيء من خصائصهم ، إلا القول بعصمة الأئمة [ وإنما شاركهم فيه [4] من هو شر منهم ] [5] ، وما سواه حقا كان أو باطلا فغيرهم [ من أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة ] [6] يقول به ، وما اختصت به الإمامية [7] من عصمة الأئمة فهو في غاية الفساد والبعد عن العقل والدين ، وهو أفسد من اعتقاد كثير [ ص: 477 ] من النساك في شيوخهم أنهم محفوظون ، وأضعف من اعتقاد كثير من قدماء [8] الشاميين [ أتباع بني أمية ] : [9] أن الإمام تجب طاعته في كل شيء ، وأن الله إذا استخلف إماما تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات ، لأن الغلاة في الشيوخ ، وإن غلوا في شيخ فلا يقصرون الهدى عليه ، ولا يمنعون اتباع غيره ، [ ولا يكفرون من لم يقل بمشيخته ] [10] ، ولا يقولون فيه من العصمة ما يقوله هؤلاء ، اللهم إلا من خرج [11] عن الدين بالكلية ، فذاك في الغلاة في الشيوخ : كالنصيرية والإسماعيلية والرافضة .

                  فبكل حال الشر فيهم أكثر [ من غيرهم ] [12] ، والغلو فيهم أعظم ، وشر غيرهم جزء من شرهم .

                  وأما غالية الشاميين [ أتباع بني أمية ] [13] ، فكانوا يقولون [14] : [ إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات ، وربما قالوا : إنه لا يحاسبه .

                  [15] .

                  [ ص: 477 ] ولهذا سأل الوليد بن عبد الملك عن ذلك بعض [16] العلماء ، فقالوا له [17] : يا أمير المؤمنين ، أنت أكرم على الله أم داود ، وقد قال له : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [ سورة ص : 26 ] .

                  وكذلك سؤال سليمان بن عبد الملك عن ذلك لأبي حازم المدني [18] في موعظته المشهورة [ له ] [19] فذكر له هذه الآية .

                  ومع خطأ هؤلاء وضلالهم فكانوا يقولون [20] ] ذلك في طاعة إمام منصوب [21] قد أوجب الله طاعته في موارد الاجتهاد ، كما يجب طاعة والي [ ص: 479 ] الحرب وقاضي الحكم : لا يجعلون أقواله [22] شرعا عاما يجب على كل أحد ، ولا يجعلونه معصوما من الخطأ ، ولا يقولون إنه يعرف جميع الدين ، لكن غلط من غلط منهم من جهتين : من جهة أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة ، ويقولون إن الله أمرنا بطاعتهم ، الثانية [23] : قول من قال منهم : إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات ، وأين خطأ هؤلاء من ضلال الرافضة القائلين بعصمة الأئمة ؟

                  ثم قد تبين مع ذلك أن ما انفردوا به عن جمهور أهل السنة كله خطأ ، وما كان معهم [24] من صواب فهو قول جمهور أهل السنة أو بعضهم ، ونحن لسنا نقول [25] : إن جميع طوائف أهل السنة مصيبون ، بل فيهم المصيب والمخطئ ، لكن صواب [ كل طائفة منهم ] [26] أكثر من صواب الشيعة ، وخطأ [27] الشيعة أكثر .

                  [ وأما ما انفردت به الشيعة عن جميع طوائف السنة فكله خطأ ، وليس معهم صواب إلا وقد قاله بعض أهل السنة ] [28] .

                  فهذا القدر في هذا المقام يبطل به ما ادعاه من رجحان قول الإمامية ، فإنه [29] بهذا القدر يتبين أن مذهب أهل السنة أرجح ، ولكل مقام مقال .

                  [ ص: 480 ] وقد يقال : إن الإيمان أرجح من الكفر إذا احتيج إلى المفاضلة عند من يظن أن ذلك أرجح ، [ وكذلك يقال في الخير والشر ] [30] .

                  قال تعالى [31] ] : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [ سورة النساء : 125 ] . وقال تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [ سورة الجمعة : 9 ] وقال تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم [ سورة النور : 0 ] وقال : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم [ سورة النور : 27 ] ، بل قد يفضل الله سبحانه نفسه على ما عبد من دونه ، كقوله : آلله خير أم ما يشركون [ سورة النمل : 59 ] ، وقول المؤمنين للسحرة : والله خير وأبقى [ سورة طه : 73 ] ] [32] .

                  وكذلك قد تبين أن الكفار أكثر جرما إذا وقعت المفاضلة . قال تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير [ سورة البقرة : 217 ] ، [ ثم قال ] : [33] وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل [ سورة البقرة : 217 ] ، وهذه الآية نزلت لما عير المشركون سرية [34] المسلمين بأنهم [ ص: 481 ] قتلوا رجلا في الشهر الحرام وهو ابن الحضرمي ، فقال الله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ، ثم بين أن ذنوب المشركين أعظم عند الله [35] .

                  ( * وأما في [36] جانب التفضيل فقال تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [ سورة النساء : 123 - 125 ] * ) [37] . وقال تعالى : قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل [ سورة المائدة : 59 ، 60 ] [38] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية