الوجه الرابع [1] أن يقال : أما ، فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر ، وهي مسألة عقلية ، وقد تقدم أن الناس فها على ثلاثة أقوال : نفي وإثبات ، ووقف ، وتفصيل القول بأنه جسم أو ليس بجسم [2] ، وهذا هو الصواب الذي عليه السلف والأئمة .
ولهذا لما ذكر أبو عيسى برغوث هذا في مناظرته إياه ، وأشار إلى أنه إذا قلت إن القرآن غير مخلوق ، لزم أن يكون الله جسما ; لأن [ ص: 610 ] القرآن صفة وعرض ، ولا يكون إلا بفعل ، والصفات والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأجسام ، أجابه لأحمد بأنا نقول : إن الله أحد صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وأن هذا الكلام لا يدرى مقصود صاحبه به ، فلا نطلقه لا نفيا ولا إثباتا . أما الإمام أحمد [3] من جهة الشرع فلأن الله ورسوله [4] وسلف الأمة لم يتكلموا بذلك لا نفيا ولا إثباتا ، فلا قالوا [5] : هو جسم ، ولا قالوا : [ هو ] [6] ليس بجسم .
ولما سلك من سلك في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام ، ودخلوا في هذا الكلام ، ذم السلف [7] الكلام وأهله ، حتى قال أبو يوسف : من طلب الدين بالكلام تزندق [8] ، وقال : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام الشافعي [9] ، وقال : لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله ، [ ص: 611 ] ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه [10] ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام [11] . وقد صنفت [12] في ذمهم مصنفات مثل كتاب أبي عبد الرحمن السلمي [13] ، وكتاب شيخ الإسلام الأنصاري [14] وغير ذلك .
وأما من جهة العقل فلأن هذا اللفظ مجمل يدخل فيه نافيه [15] معاني يجب إثباتها لله ، ويدخل فيه مثبته [16] ما ينزه الله تعالى عنه ، فإذا لم يدر مراد المتكلم [ به لم ينف ولم يثبت ، وإذا فسر ] [17] مراده قبل الحق وعبر عنه بالعبارات الشرعية ورد الباطل ، وإن تكلم بلفظ لم يرد عن الشارع [ ص: 612 ] للحاجة إلى إفهام المخاطب بلغته مع ظهور المعنى الصحيح لم يكن بذلك [ بأس ، فإنه يجوز ] [18] ، وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له ترجمة القرآن والحديث للحاجة إلى الإفهام [19] صحة القول وفساده ، وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول .
وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب : ترى أحدهم يذكر له [20] المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك ، فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ [21] بلغتهم ، وبين به [22] بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي ، خضعوا لذلك [23] وأذعنوا له ، كالتركي والبربري [ والرومي ] [24] والفارسي الذي يخاطبه بالقرآن العربي ويفسره فلا يفهمه حتى يترجم له شيئا بلغته [25] فيعظم سروره وفرحه ، ويقبل الحق ويرجع عن باطله ، لأن المعاني التي جاء بها الرسول أكمل المعاني وأحسنها وأصحها ، لكن هذا يحتاج إلى كمال المعرفة لهذا ولهذا ، كالترجمان الذي [ يريد أن ] يكون حاذقا في فهم اللغتين [26] .
[ ص: 613 ] وهذا الإمامي يناظر في ذلك أئمته ] كهشام [ بن الحكم [27] وأمثاله ، ولا يمكنه أن يقطعهم بوجه من الوجوه ، كما لا يمكنه أن يقطع الخوارج بوجه من الوجوه ، وإن كان في قول الخوارج والمجسمة من الفساد ما فيه فلا يقدر أن يدفعه إلا أهل السنة .
ونحن نذكر مثالا [28] فنقول : أهل السنة متفقون على ، [ لم يتنازع أهل السنة إلا في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أن أئمة السنة على أنه لم يره أحد بعينه في الدنيا مطلقا ] أن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة [29] ] ، وقد ذكر عن طائفة أنهم يقولون : إن الله [30] يرى في الدنيا ، وأهل السنة يردون على هذا بالكتاب والسنة مثل استدلالهم بأن موسى [ عليه السلام ] [31] منع منها ، فمن هو دونه أولى ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " [ رواه مسلم في صحيحه . وروي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة ] واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت [32] ، وبطرق عقلية : كبيانهم عجز الأبصار في الدنيا عن الرؤية ونحو ذلك .
[ ص: 614 ] وأما هذا وأمثاله فليست لهم على هؤلاء [33] حجة لا عقلية ولا شرعية ، فإن عمدتهم في نفي الرؤية أنه لو رئي لكان في جهة ولكان جسما [34] ، وهؤلاء [ يقولون : إنه يرى في الدنيا ، بل ] [35] يقولون : إنه في جهة [36] وهو جسم .
فإن أخذوا في الاستدلال على نفي الجهة ونفي الجسم ، كان منتهاهم معهم إلى أنه لا تقوم به الصفات [37] ، وهؤلاء يقولون : تقوم به الصفات . فإن استدلوا على ذلك ، كان منتهاهم معهم إلى أن الصفات أعراض ، وما قامت به الأعراض محدث . وهؤلاء يقولون : تقوم به الأعراض ، وهو قديم والأعراض عند هؤلاء تقوم بالقديم .
فإن قالوا : الجسم لا يخلو عن الحركة أو السكون [38] ، وما لا يخلو [ ص: 615 ] عنهما فهو محدث لامتناع حوادث لا أول لها ، فهذا منتهى ما عند المعتزلة وأتباعهم من الشيعة .
قال لهم أولئك : لا نسلم أن الجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون [ الوجوديين ] [39] ، بل يجوز خلوه عن الحركة ، لأن السكون عدم الحركة [ مطلقا [40] ، وعدم الحركة ] [41] عما من شأنه أن يقبلها ، فيجوز ثبوت [42] جسم قديم ساكن لا يتحرك .
وقالوا لهم [43] : لا نسلم امتناع حوادث لا أول لها ، وطعنوا في أدلة نفي ذلك بالمطاعن المعروفة ، حتى حذاق المتأخرين[44] كالرازي وأبي الحسن الآمدي وأبي الثناء الأرموي [45] وغيرهم طعنوا في ذلك ( * كله ، وطعن الرازي في ذلك في مواضع وإن كان اعتمد عليه * ) [46] في [ ص: 616 ] مواضع [47] . والآمدي طعن [48] في طرق الناس إلا طريقة ارتضاها [49] ، وهي [50] أضعف من غيرها طعن فيها غيره .
فهذان مقامان من المقامات العقلية لا يقدر هؤلاء أن يغلبوا فيها شيوخهم المتقدمين ، فإذا كانوا لا ينفون [51] رؤيته في الدنيا [52] إلا بهذه الطريق ، لم يكن لهم حجة إلا على من يقول [53] : إنه يرى ويصافح وأمثال [ ص: 617 ] ذلك من المقالات مع أن هذا [ من ] [54] أشنع المقالات عند أهل السنة والجماعة ، ولا يعرف له [55] قائل [ معدود ] [56] من أهل السنة والحديث .