الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الرابع [1] أن يقال : أما القول بأنه جسم أو ليس بجسم ، فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر ، وهي مسألة عقلية ، وقد تقدم أن الناس فها على ثلاثة أقوال : نفي وإثبات ، ووقف ، وتفصيل [2] ، وهذا هو الصواب الذي عليه السلف والأئمة .

                  ولهذا لما ذكر أبو عيسى برغوث لأحمد هذا في مناظرته إياه ، وأشار إلى أنه إذا قلت إن القرآن غير مخلوق ، لزم أن يكون الله جسما ; لأن [ ص: 610 ] القرآن صفة وعرض ، ولا يكون إلا بفعل ، والصفات والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأجسام ، أجابه الإمام أحمد بأنا نقول : إن الله أحد صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وأن هذا الكلام لا يدرى مقصود صاحبه به ، فلا نطلقه لا نفيا ولا إثباتا . أما [3] من جهة الشرع فلأن الله ورسوله [4] وسلف الأمة لم يتكلموا بذلك لا نفيا ولا إثباتا ، فلا قالوا [5] : هو جسم ، ولا قالوا : [ هو ] [6] ليس بجسم .

                  ولما سلك من سلك في الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام ، ودخلوا في هذا الكلام ، ذم السلف [7] الكلام وأهله ، حتى قال أبو يوسف : من طلب الدين بالكلام تزندق [8] ، وقال الشافعي : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام [9] ، وقال : لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله ، [ ص: 611 ] ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه [10] ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام [11] . وقد صنفت [12] في ذمهم مصنفات مثل كتاب أبي عبد الرحمن السلمي [13] ، وكتاب شيخ الإسلام الأنصاري [14] وغير ذلك .

                  وأما من جهة العقل فلأن هذا اللفظ مجمل يدخل فيه نافيه [15] معاني يجب إثباتها لله ، ويدخل فيه مثبته [16] ما ينزه الله تعالى عنه ، فإذا لم يدر مراد المتكلم [ به لم ينف ولم يثبت ، وإذا فسر ] [17] مراده قبل الحق وعبر عنه بالعبارات الشرعية ورد الباطل ، وإن تكلم بلفظ لم يرد عن الشارع [ ص: 612 ] للحاجة إلى إفهام المخاطب بلغته مع ظهور المعنى الصحيح لم يكن بذلك [ بأس ، فإنه يجوز ] [18] ترجمة القرآن والحديث للحاجة إلى الإفهام ، وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له [19] صحة القول وفساده ، وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول .

                  وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب : ترى أحدهم يذكر له [20] المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك ، فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ [21] بلغتهم ، وبين به [22] بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي ، خضعوا لذلك [23] وأذعنوا له ، كالتركي والبربري [ والرومي ] [24] والفارسي الذي يخاطبه بالقرآن العربي ويفسره فلا يفهمه حتى يترجم له شيئا بلغته [25] فيعظم سروره وفرحه ، ويقبل الحق ويرجع عن باطله ، لأن المعاني التي جاء بها الرسول أكمل المعاني وأحسنها وأصحها ، لكن هذا يحتاج إلى كمال المعرفة لهذا ولهذا ، كالترجمان الذي [ يريد أن ] يكون حاذقا في فهم اللغتين [26] .

                  [ ص: 613 ] وهذا الإمامي يناظر في ذلك أئمته كهشام [ بن الحكم ] [27] وأمثاله ، ولا يمكنه أن يقطعهم بوجه من الوجوه ، كما لا يمكنه أن يقطع الخوارج بوجه من الوجوه ، وإن كان في قول الخوارج والمجسمة من الفساد ما فيه فلا يقدر أن يدفعه إلا أهل السنة .

                  ونحن نذكر مثالا [28] فنقول : أهل السنة متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة ، [ لم يتنازع أهل السنة إلا في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أن أئمة السنة على أنه لم يره أحد بعينه في الدنيا مطلقا ] [29] ] ، وقد ذكر عن طائفة أنهم يقولون : إن الله [30] يرى في الدنيا ، وأهل السنة يردون على هذا بالكتاب والسنة مثل استدلالهم بأن موسى [ عليه السلام ] [31] منع منها ، فمن هو دونه أولى ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت " [ رواه مسلم في صحيحه . وروي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة ] [32] ، وبطرق عقلية : كبيانهم عجز الأبصار في الدنيا عن الرؤية ونحو ذلك .

                  [ ص: 614 ] وأما هذا وأمثاله فليست لهم على هؤلاء [33] حجة لا عقلية ولا شرعية ، فإن عمدتهم في نفي الرؤية أنه لو رئي لكان في جهة ولكان جسما [34] ، وهؤلاء [ يقولون : إنه يرى في الدنيا ، بل ] [35] يقولون : إنه في جهة [36] وهو جسم .

                  فإن أخذوا في الاستدلال على نفي الجهة ونفي الجسم ، كان منتهاهم معهم إلى أنه لا تقوم به الصفات [37] ، وهؤلاء يقولون : تقوم به الصفات . فإن استدلوا على ذلك ، كان منتهاهم معهم إلى أن الصفات أعراض ، وما قامت به الأعراض محدث . وهؤلاء يقولون : تقوم به الأعراض ، وهو قديم والأعراض عند هؤلاء تقوم بالقديم .

                  فإن قالوا : الجسم لا يخلو عن الحركة أو السكون [38] ، وما لا يخلو [ ص: 615 ] عنهما فهو محدث لامتناع حوادث لا أول لها ، فهذا منتهى ما عند المعتزلة وأتباعهم من الشيعة .

                  قال لهم أولئك : لا نسلم أن الجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون [ الوجوديين ] [39] ، بل يجوز خلوه عن الحركة ، لأن السكون عدم الحركة [ مطلقا [40] ، وعدم الحركة ] [41] عما من شأنه أن يقبلها ، فيجوز ثبوت [42] جسم قديم ساكن لا يتحرك .

                  وقالوا لهم [43] : لا نسلم امتناع حوادث لا أول لها ، وطعنوا في أدلة نفي ذلك بالمطاعن المعروفة ، حتى حذاق المتأخرين[44] كالرازي وأبي الحسن الآمدي وأبي الثناء الأرموي [45] وغيرهم طعنوا في ذلك ( * كله ، وطعن الرازي في ذلك في مواضع وإن كان اعتمد عليه * ) [46] في [ ص: 616 ] مواضع [47] . والآمدي طعن [48] في طرق الناس إلا طريقة ارتضاها [49] ، وهي [50] أضعف من غيرها طعن فيها غيره .

                  فهذان مقامان من المقامات العقلية لا يقدر هؤلاء أن يغلبوا فيها شيوخهم المتقدمين ، فإذا كانوا لا ينفون [51] رؤيته في الدنيا [52] إلا بهذه الطريق ، لم يكن لهم حجة إلا على من يقول [53] : إنه يرى ويصافح وأمثال [ ص: 617 ] ذلك من المقالات مع أن هذا [ من ] [54] أشنع المقالات عند أهل السنة والجماعة ، ولا يعرف له [55] قائل [ معدود ] [56] من أهل السنة والحديث .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية