الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله [1] : إنه يفضل عنه العرش [2] من كل جانب أربع أصابع ; [ ص: 629 ] ( 1 فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا ، ولكن روي في 1 ) [3] حديث عبد الله بن خليفة [4] أنه : ما يفضل من العرش أربع أصابع ، يروى بالنفي ويروى بالإثبات ، والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن الجوزي ، [ ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه [5] .

                  ولفظ النفي لا يرد عليه شيء ، فإن مثل هذا اللفظ يرد [6] لعموم النفي كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وملك ] [7] قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد [8] " ، أي ما فيها موضع .

                  [ ص: 630 ] ومنه قول العرب : ما في السماء قدر كف سحابا ، وذلك لأن الكف تقدر [9] بها الممسوحات كما يقدر بالذراع ، وأصغر الممسوحات التي يقدرها الإنسان من أعضائه كفه [10] ، فصار هذا مثلا لأقل شيء .

                  فإذا قيل : إنه ما يفضل من العرش أربع أصابع ، كان المعنى : ما يفضل منه شيء ، والمقصود هنا بيان أن الله أعظم وأكبر من العرش .

                  ومن المعلوم أن الحديث إن لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ قد ] [11] قاله فليس علينا منه ، [ وإن كان [ قد ] [12] قاله فلم يجمع بين النفي والإثبات ] [13] ] ، وإن [14] كان قاله بالنفي لم يكن قاله بالإثبات ; [ والذين قالوه بالإثبات ] [15] ذكروا فيه ما يناسب أصولهم ، كما قد بسط في غير هذا الموضع .

                  فهذا وأمثاله - سواء كان حقا أو باطلا - لا يقدح في مذهب أهل السنة ولا يضرهم ، لأنه بتقدير أن يكون باطلا ليس هو قول جماعتهم ، بل غايته [ ص: 631 ] أنه [ قد ] [16] قالته طائفة ورواه بعض الناس ، وما كان [17] باطلا رده جمهور أهل السنة كما يردون غير ذلك ، فإن كثيرا من المسلمين يقول كثيرا من الباطل ، فما يكون هذا ضار لدين المسلمين ، وفي أقوال الإمامية من المنكرات ما يعرف مثل هذا فيه ، لو كان قد قاله [ بعض ] [18] أهل السنة . ( فصل )

                  قال الإمامي [19] : " وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد [20] راكبا على حمار ، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا يضع كل [21] ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا ، لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح ، فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء : هل من تائب ؟ هل من مستغفر ؟ [22] تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى [23] .

                  وحكي عن بعض المنقطعين المباركين [24] من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط [25] ومعه أمرد حسن الصورة قطط [ ص: 632 ] الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها ، فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه [26] فتوهم فيه النفاط فجاء إليه [27] ليلا وقال : أيها الشيخ رأيتك تلح بالنظر [28] إلى هذا الغلام وقد أتيتك به [29] ، فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم [30] . فحرد الشيخ عليه وقال : إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله ينزل على صورته [31] فتوهمت أنه الله تعالى ، فقال له النفاط : ما أنا عليه من [ النفاطة ] [32] أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة " .

                  فيقال : هذه الحكاية وأمثالها دائرة [33] بين أمرين : إما أن تكون كذبا محضا ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد [34] ، وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور [35] ليس بصاحب قول ولا مذهب ، وأدنى العامة أعقل منه وأفقه .

                  وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا ، لأنه من المعلوم لكل [ ص: 633 ] ذي علم [36] أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان ، الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان . ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا ، مع أنها صحيحة واقعة .

                  وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد [37] أنها كذب محض عليهم ، وضعها إما [38] هذا المصنف ، أو من حكاها له للشناعة ، وهذا هو الأقرب ، فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ما لا يروج عليهم معه [39] مثل هذا .

                  ومما يبين كذب ذلك عليهم أن هذا الحديث الذي ذكره لم يروه أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف [40] ، ولا روى أحد [ من أهل الحديث ] [41] أن الله تعالى ينزل ليلة الجمعة ، [ ولا أنه ينزل ليلة الجمعة ] [42] إلى الأرض [43] ، ولا أنه ينزل في شكل [ ص: 634 ] أمرد [44] بل لا يوجد في الآثار شيء من هذا الهذيان ، بل ولا في [ شيء [ ص: 635 ] من ] [45] الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ينزل إلى الأرض ، وكل حديث روي فيه هذا فإنه موضوع كذب ، مثل حديث الجمل الأورق ، وأن [ الله ] ينزل [46] عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة [47] ، وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف ، وحديث آخر أنه رأى ربه في بطحاء مكة ، وأمثال ذلك ، فإن هذه كلها أحاديث مكذوبة باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، والذين وضعوها منهم طائفة وضعوها على أهل الحديث ليقال : إنهم ينقلون مثل هذا ، ( * كما وضعوا [ مثل ] [48] حديث عرق الخيل عليهم [49] ، وطائفة من الجهال والضلال وضعوا مثل هذا * ) [50] الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما وضعت الروافض ما هو أعظم وأكثر من هذا الكذب ، ولو لم يكن إلا ما ذكره هذا الإمامي في مصنفه هذا من الأحاديث ، فإن فيها من الكذب الذي أجمع أهل العلم [ ص: 636 ] بالحديث [51] على كذبه ، ومن الكذب [52] الذي لا يخفى أنه كذب إلا على مفرط في الجهل ، ما قد ذكره في " منهاج الندامة " .

                  وقد قدمنا القول بأن أهل السنة متفقون على أن الله لا يراه أحد بعينه في الدنيا : لا نبي ولا غير نبي ، ولم يتنازع الناس في ذلك إلا في نبينا [ محمد ] [53] - صلى الله عليه وسلم - خاصة [54] ، مع أن أحاديث المعراج المعروفة [55] ليس في شيء منها أنه رآه أصلا ، وإنما روي ذلك بإسناد [ ضعيف ] [56] موضوع من طريق أبي عبيدة ذكره الخلال والقاضي أبو يعلى في كتاب " إبطال التأويل " ، وأهل العلم بالحديث [ متفقون ] [57] على أنه حديث موضوع [ كذب ] [58] .

                  وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر [ رضي الله عنه ] [59] قال : قلت [ ص: 637 ] يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه " [60] . ولم يثبت أن أحدا من الصحابة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرؤية إلا ما [61] في الحديث .

                  وما يرويه بعض العامة أن أبا بكر سأله ، فقال : رأيته ، وأن عائشة سألته فقال : لم أره ، كذب باتفاق أهل العلم ، لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد صحيح ولا ضعيف ; ولهذا اعتمد الإمام أحمد على قول أبي ذر في الرؤية ، [62] وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي [63] .

                  وأما أحاديث النزول [64] إلى السماء الدنيا [65] كل ليلة فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث [66] ، وكذلك حديث دنوه عشية [ ص: 638 ] عرفة " رواه مسلم في صحيحه [67] ، وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده [68] .

                  ثم إن جمهور أهل السنة يقولون : إنه ينزل ولا يخلو منه العرش ، كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه [69] وحماد بن زيد وغيرهما ، ونقلوه [ ص: 639 ] عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد [70] [ يقول ] [71] : " وهم متفقون على أن الله [72] ليس كمثله شيء ، وأنه لا يعلم كيف ينزل ، ولا تمثل صفاته بصفات خلقه " .

                  وقد تنازعوا في النزول هل هو [ صفة ] [73] فعل منفصل عن الرب في المخلوقات [74] أو فعل من يقوم به ، على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد [75] وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والتصوف .

                  وكذلك تنازعهم في الاستواء على العرش هل هو فعل [76] منفصل عنه [ ص: 640 ] يفعله بالعرش كتقريبه إليه ، أو فعل يقوم بذاته على قولين . والأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته [77] وأبي سليمان الخطابي [78] وأبي بكر البيهقي [79] وابن الزاغوني وابن عقيل [80] وغيرهم ممن يقول : إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته .

                  والثاني قول أئمة الحديث [81] وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد [82] والأوزاعي [83] والبخاري وحرب الكرماني [84] وابن خزيمة [85] ويحيى بن عمار السجستاني [86] وعثمان بن سعيد الدارمي [87] وابن حامد [88] وأبي بكر عبد العزيز [89] وأبي عبد الله بن منده [90] [ وأبي ] إسماعيل الأنصاري [91] [ ص: 641 ] وغيرهم ، وليس هذا موضعا لبسط الكلام في هذه المسائل ، وإنما المقصود التنبيه على أن ما ذكره هذا مما يعلم العقلاء أنه لا يقوله أحد من علماء أهل السنة ، ولا يعرف أنه قاله لا جاهل ولا عالم ، بل الكذب عليه ظاهر .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية