وأما [1] : إنه يفضل عنه العرش [2] من كل جانب أربع أصابع ; [ ص: 629 ] ( 1 فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا ، ولكن روي في 1 ) قوله [3] حديث عبد الله بن خليفة [4] أنه : ما يفضل من العرش أربع أصابع ، يروى بالنفي ويروى بالإثبات ، والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي ، [ ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه وابن الجوزي [5] .
ولفظ النفي لا يرد عليه شيء ، فإن مثل هذا اللفظ يرد [6] لعموم النفي كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " [7] قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وملك ] [8] " ، أي ما فيها موضع .
[ ص: 630 ] ومنه قول العرب : ما في السماء قدر كف سحابا ، وذلك لأن الكف تقدر [9] بها الممسوحات كما يقدر بالذراع ، وأصغر الممسوحات التي يقدرها الإنسان من أعضائه كفه [10] ، فصار هذا مثلا لأقل شيء .
فإذا قيل : إنه ما يفضل من العرش أربع أصابع ، كان المعنى : ما يفضل منه شيء ، والمقصود هنا بيان أن الله أعظم وأكبر من العرش .
ومن المعلوم أن الحديث إن لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ قد ] [11] قاله فليس علينا منه ، [ وإن كان [ قد ] [12] قاله فلم يجمع بين النفي والإثبات ] [13] ] ، وإن [14] كان قاله بالنفي لم يكن قاله بالإثبات ; [ والذين قالوه بالإثبات ] [15] ذكروا فيه ما يناسب أصولهم ، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
فهذا وأمثاله - سواء كان حقا أو باطلا - لا يقدح في مذهب أهل السنة ولا يضرهم ، لأنه بتقدير أن يكون باطلا ليس هو قول جماعتهم ، بل غايته [ ص: 631 ] أنه [ قد ] [16] قالته طائفة ورواه بعض الناس ، وما كان [17] باطلا رده جمهور أهل السنة كما يردون غير ذلك ، فإن كثيرا من المسلمين يقول كثيرا من الباطل ، فما يكون هذا ضار لدين المسلمين ، وفي أقوال الإمامية من المنكرات ما يعرف مثل هذا فيه ، لو كان قد قاله [ بعض ] [18] أهل السنة . ( فصل )
[19] : " وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد قال الإمامي [20] راكبا على حمار ، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا يضع كل [21] ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا ، لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح ، فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء : هل من تائب ؟ هل من مستغفر ؟ [22] تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى [23] .
وحكي عن بعض المنقطعين المباركين [24] من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط [25] ومعه أمرد حسن الصورة قطط [ ص: 632 ] الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها ، فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه [26] فتوهم فيه النفاط فجاء إليه [27] ليلا وقال : أيها الشيخ رأيتك تلح بالنظر [28] إلى هذا الغلام وقد أتيتك به [29] ، فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم [30] . فحرد الشيخ عليه وقال : إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله ينزل على صورته [31] فتوهمت أنه الله تعالى ، فقال له النفاط : ما أنا عليه من [ النفاطة ] [32] أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة " .
فيقال : هذه الحكاية وأمثالها دائرة [33] بين أمرين : إما أن تكون كذبا محضا ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد [34] ، وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور [35] ليس بصاحب قول ولا مذهب ، وأدنى العامة أعقل منه وأفقه .
وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا ، لأنه من المعلوم لكل [ ص: 633 ] ذي علم [36] أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان ، الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان . ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا ، مع أنها صحيحة واقعة .
وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد [37] أنها كذب محض عليهم ، وضعها إما [38] هذا المصنف ، أو من حكاها له للشناعة ، وهذا هو الأقرب ، فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ما لا يروج عليهم معه [39] مثل هذا .
ومما يبين كذب ذلك عليهم أن هذا الحديث الذي ذكره لم يروه أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف [40] ، ولا روى أحد [ من أهل الحديث ] [41] أن الله تعالى ينزل ليلة الجمعة ، [ ولا أنه ينزل ليلة الجمعة ] [42] إلى الأرض [43] ، ولا أنه ينزل في شكل [ ص: 634 ] أمرد [44] بل لا يوجد في الآثار شيء من هذا الهذيان ، بل ولا في [ شيء [ ص: 635 ] من ] [45] الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله ينزل إلى الأرض ، وكل حديث روي فيه هذا فإنه موضوع كذب ، مثل حديث الجمل الأورق ، وأن [ الله ] ينزل [46] عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة [47] ، وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف ، وحديث آخر أنه رأى ربه في بطحاء مكة ، وأمثال ذلك ، فإن هذه كلها أحاديث مكذوبة باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، والذين وضعوها منهم طائفة وضعوها على أهل الحديث ليقال : إنهم ينقلون مثل هذا ، ( * كما وضعوا [ مثل ] [48] حديث عرق الخيل عليهم [49] ، وطائفة من الجهال والضلال وضعوا مثل هذا * ) [50] الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما وضعت الروافض ما هو أعظم وأكثر من هذا الكذب ، ولو لم يكن إلا ما ذكره هذا الإمامي في مصنفه هذا من الأحاديث ، فإن فيها من الكذب الذي أجمع أهل العلم [ ص: 636 ] بالحديث [51] على كذبه ، ومن الكذب [52] الذي لا يخفى أنه كذب إلا على مفرط في الجهل ، ما قد ذكره في " منهاج الندامة " .
وقد قدمنا القول بأن أهل السنة متفقون على أن : لا نبي ولا غير نبي ، ولم يتنازع الناس في ذلك إلا في نبينا [ الله لا يراه أحد بعينه في الدنيا محمد ] [53] - صلى الله عليه وسلم - خاصة [54] ، مع أن أحاديث المعراج المعروفة [55] ليس في شيء منها أنه رآه أصلا ، وإنما روي ذلك بإسناد [ ضعيف ] [56] موضوع من طريق أبي عبيدة ذكره الخلال في كتاب " إبطال التأويل " ، وأهل العلم بالحديث [ متفقون ] والقاضي أبو يعلى [57] على أنه حديث موضوع [ كذب ] [58] .
وقد ثبت في صحيح عن مسلم [ رضي الله عنه ] أبي ذر [59] قال : قلت [ ص: 637 ] يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه " [60] . ولم يثبت أن أحدا من الصحابة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرؤية إلا ما [61] في الحديث .
وما يرويه بعض العامة أن سأله ، فقال : رأيته ، وأن أبا بكر سألته فقال : لم أره ، كذب باتفاق أهل العلم ، لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد صحيح ولا ضعيف ; ولهذا اعتمد عائشة على قول الإمام أحمد في الرؤية ، أبي ذر [62] وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي [63] .
وأما أحاديث النزول [64] إلى السماء الدنيا [65] كل ليلة فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث [66] ، وكذلك حديث دنوه عشية [ ص: 638 ] عرفة " رواه في صحيحه مسلم [67] ، وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده [68] .
ثم إن جمهور أهل السنة يقولون : إنه ينزل ولا يخلو منه العرش ، كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه [69] وغيرهما ، ونقلوه [ ص: 639 ] عن وحماد بن زيد في رسالته إلى أحمد بن حنبل مسدد [70] [ يقول ] [71] : " وهم متفقون على أن الله [72] ليس كمثله شيء ، وأنه لا يعلم كيف ينزل ، ولا تمثل صفاته بصفات خلقه " .
وقد تنازعوا في [73] فعل منفصل عن الرب في المخلوقات [74] أو فعل من يقوم به ، على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب النزول هل هو [ صفة ] مالك والشافعي وأحمد [75] وغيرهم من أهل الحديث والتصوف . وأبي حنيفة
وكذلك تنازعهم في الاستواء على العرش هل هو فعل [76] منفصل عنه [ ص: 640 ] يفعله بالعرش كتقريبه إليه ، أو فعل يقوم بذاته على قولين . والأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته [77] وأبي سليمان الخطابي [78] وأبي بكر البيهقي [79] وابن الزاغوني وابن عقيل [80] وغيرهم ممن يقول : إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته .
والثاني قول أئمة الحديث [81] وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد [82] والأوزاعي [83] والبخاري وحرب الكرماني [84] وابن خزيمة [85] ويحيى بن عمار السجستاني [86] وعثمان بن سعيد الدارمي [87] وابن حامد [88] وأبي بكر عبد العزيز [89] وأبي عبد الله بن منده [90] [ وأبي ] إسماعيل الأنصاري [91] [ ص: 641 ] وغيرهم ، وليس هذا موضعا لبسط الكلام في هذه المسائل ، وإنما المقصود التنبيه على أن ما ذكره هذا مما يعلم العقلاء أنه لا يقوله أحد من علماء أهل السنة ، ولا يعرف أنه قاله لا جاهل ولا عالم ، بل الكذب عليه ظاهر .