الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 54 ] ( فصل ) قال الرافضي [1] : " ومنها إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم ، لأن النبي إذا قال للكافر : آمن بي وصدقني ، يقول [2] قل للذي بعثك يخلق في الإيمان أو القدرة [3] المؤثرة فيه حتى أتمكن من الإيمان وأومن بك [4] ، وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه ؟ بل خلق في الكفر [5] ، وأنا لا أتمكن من مقاهرة [6] الله تعالى ، فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه " .

                  فيقال : هذا مقام يكثر فيه خوض النفوس [7] ، فإن كثيرا من الناس إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر ، وقال : حتى يقدر الله لي [8] ذلك ، أو يقدرني الله [9] على ذلك ، أو حتى يقضي الله ذلك [10] ، وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال : الله قضى [11] علي بذلك ، أي حيلة لي في هذا ؟ ونحو [12] هذا الكلام .

                  [ ص: 55 ] والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة [13] باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين ، والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة إذا احتج بها في [14] ظلم ظلمه إياه ، أو ترك [15] ما يجب عليه من حقوقه ، بل يطلب منه [16] ما له عليه ، ويعاقبه على عدوانه عليه ، وإنما هو [17] من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم ، فكما أنك تعلم فسادها بالضرورة ، وإن كانت تعرض كثيرا لكثير من الناس [18] حتى قد يشك في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف [19] الضرورية ، فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة [20] في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك ، وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك ، ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة ، ولهذا لا يقبلها أحد من أحد [21] عند التحقيق ، ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله ، فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة ، وهو المأمور به [22] وهو الذي ينبغي فعله ، لم يحتج بالقدر ، وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله [23] ليس عليه أن يفعله ، أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به ، لم يحتج بالقدر ، بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم احتج بالقدر .

                  [ ص: 56 ] ولهذا لما قال المشركون : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء [ سورة الأنعام : 148 ] ، قال الله تعالى : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ سورة الأنعام : 148 ، 149 ] ، فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة باطلة [24] .

                  فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله ، أو فجر بامرأته [25] أو قتل ولده ، أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك ، فقال لو شاء الله لم أفعل هذا ، لم يقبلوا منه هذه الحجة ، ولا هو يقبلها من غيره ، وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه ، فقال الله لهم : هل [26] عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله وأنه مصلحة [27] ينبغي فعله ، إن تتبعون إلا الظن ، فإنه لا علم عندكم ، بذلك إن تظنون ذلك إلا ظنا ، وإن أنتم إلا تخرصون : تحرزون [28] وتفترون ، فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ، ليس عمدتكم [29] في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره ، فإن مجرد المشيئة والقدر لا يكون [30] عمدة لأحد في الفعل ، ولا حجة لأحد على أحد ، ولا [ ص: 57 ] عذرا لأحد [31] ، إذ الناس كلهم مشتركون في القدر [32] ، فلو كان هذا حجة وعمدة ، لم يحصل فرق بين العادل والظالم ، والصادق والكاذب ، والعالم والجاهل ، والبر والفاجر ، ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم ، وما ينفعهم وما يضرهم .

                  وهؤلاء المشركون المحتجون [33] بالقدر على ترك ما أرسل [ الله ] به رسله [34] من توحيده والإيمان به ، لو [35] احتج به بعضهم على بعض في إسقاط [36] حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه ، بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ، ويعادي بعضهم بعضا ، [ ويقاتل بعضهم بعضا ] [37] على فعل ما يرونه [38] تركا لحقهم أو ظلما ، فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة أمره احتجوا بالقدر ، فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حق ربهم ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم [39] وخالف أمرهم .

                  وفي الصحيحين عن معاذ [ بن جبل رضي الله عنه ] [40] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : [41] يا معاذ " أتدري [42] ما حق الله على عباده ؟ حقه على [ ص: 58 ] عباده [43] أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا . أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ [ حقهم عليه ] أن لا يعذبهم " [44] .

                  فالاحتجاج بالقدر حال أهل الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون ، إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون . وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره ، لا في ترك ما يرونه حقا لهم [ ولا في مخالفة أمرهم ] [45] .

                  ولهذا تجد [ كثيرا من ] [46] المحتجين به [47] والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء ، والعامة والجند والفقهاء وغيرهم ، يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس ، فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا ، بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم [48] .

                  [ ص: 59 ] وهذا أصل شريف من اعتنى به علم [49] منشأ الضلال والغي لكثير من الناس [50] . ولهذا تجد المشايخ والصالحين [51] المتبعين للأمر والنهي كثيرا ما يوصون أتباعهم باتباع العلم والشرع لأنه كثيرا [52] ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها ، فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنها دين الله [53] ، وليس معهم إلا الظن والذوق والوجد [54] الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها ، فيحتجون تارة بالقدر [55] ، وتارة بالظن والخرص ، وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة ، فإذا اتبعوا العلم ، وهو ما جاء به الشارع صلى الله عليه وسلم ، خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس ، واتبعوا ما ما جاءهم من ربهم ، وهو الهدى .

                  كما قال تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ سورة طه : 123 ] .

                  وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف ، كما قال تعالى : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ سورة الزخرف : 20 ] فبين [56] أنه لا علم لهم بذلك إن هم إلا يخرصون .

                  [ ص: 60 ] وقال في سورة الأنعام : قل فلله الحجة البالغة [ سورة الأنعام : 149 ] [ أي ] [57] بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، كما قال تعالى : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ سورة النساء : 165 ] ، ثم أثبت القدر بقوله : فلو شاء لهداكم أجمعين [ سورة الأنعام : 149 ] ، فأثبت الحجة الشرعية ، وبين المشيئة القدرية ، وكلاهما حق .

                  وقال في النحل : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين [ سورة النحل : 35 ] ، بين [58] سبحانه أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاءوهم به ليس حجة لهم ، فإن هذا لو كان حجة [59] لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم ، ففي فطرة [60] بني آدم أنه ليس حجة صحيحة ، بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن [61] ، كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة ، بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب .

                  كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أغير [ ص: 61 ] من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " . [62] . فبين أنه سبحانه يحب أن يمدح [63] وأن يعذر ويبغض الفواحش ، فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان ، وأن لا يوصف بالظلم [64] .

                  ومن المعلوم أنه من تقدم [65] إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا [66] وبين لهم وأزاح علتهم ، ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أموره [67] كان له أن يعذبهم وينتقم منهم .

                  فإذا قالوا : أليس الله قدر علينا هذا ؟ لو شاء الله ما فعلنا هذا .

                  قيل لهم : أنتم لا حجة لكم ، ولا عندكم ما تعتذرون به ، يبين [68] أن ما فعلتموه كان حسنا أو كنتم معذورين فيه ، فهذا الكلام غير مقبول منكم ، وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار .

                  [ ص: 62 ] ولو أن ولي الأمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد [69] آخر [70] فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد ، وباتوا في مكان بعيد منه ، وكان ولي الأمر قد أرسل جندا [ له ] [71] يغزون بعض الأعداء ، فاجتازوا تلك ، الطريق فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا ، لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين على تفريطهم [72] وتضييعهم حفظ ما أمرهم بحفظه [73] .

                  ولو قالوا له : أنت لم تعلمنا أنك تبعث خلفنا جندا حتى نحترز المال منهم . قال لهم [74] : هذا لا يجب علي ، ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم ، لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك ، كما تحفظ [75] الودائع والأمانات . وكانت حجته عليهم قائمة ، ولم يكن إن عاقبهم ظالما [76] وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند ، لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين .

                  والله تعالى وله المثل الأعلى حكيم [77] عدل في [ كل ] ما يفعله [78] ، ولا [ ص: 63 ] يخرج شيء عن مشيئته وقدرته . فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم ، كان ذلك من إحسانه إليهم ، وتعريفهم ما ينفعهم . وإذا خلق أمورا أخرى ، فإذا فرطوا واعتدوا بسبب خلقه لأمور أخرى [79] أوجبت [80] الضرر الحاصل من تفريطهم وعدوانهم ، وكان له في خلق المخلوق الثاني حكمة ومصلحة أخرى [81] ، كان عادلا حكيما [82] في خلق هذا وخلق هذا ، والأمر بهذا والأمر بهذا . وإن كان لم يمد الأولين بزيادة يحترسون [83] بها من التفريط والعدوان ، لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح منها [84] ، فإن الضدين لا يجتمعان .

                  والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل ، لعدم اتباع الحق الذي بينه العلم [85] ، فإن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة .

                  ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصدق الأسماء الحارث وهمام " [86] فالحارث الكاسب العامل ، والهمام الكثير الهم ، والهم مبدأ [ ص: 64 ] الإرادة [ والقصد ، فكل إنسان حارث همام ، وهو المتحرك بالإرادة ] [87] وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور ، فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد ، فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور ، وما هو [ من ] جنسه [88] ، كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور . فهذا الإدراك والشعور هو [89] مقدمة الإرادة والحب والطلب .

                  والحي مفطور على حب ما يلائمه وينفعه [90] ، وبغض ما يكرهه ويضره ، فإذا تصور الشيء الملائم النافع أراده وأحبه [91] وإذا [92] تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه ، لكن ذلك التصور قد يكون علما ، وقد يكون ظنا وخرصا ، فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع ، وهو المصلحة ، وهو الذي يلائمه ، كان على الهدى والحق ، وإذا لم يكن معه علم بذلك [93] ، كان متبعا للظن وما تهوى نفسه ، فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة ، أخذ يحتج بالقدر حجة لدد وتعريج [94] عن الحق [95] ، لا حجة اعتماد على الحق والعلم ، فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر ، إلا لعدم العلم بأن ما هو عليه هو الحق [96] .

                  [ ص: 65 ] وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرا بأن ما هو عليه ليس معه به علم ، [ وإنما تكلم بغير علم ] [97] ، ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه ، ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة ، فإما أن يكون جاهلا فعليه أن يتبع العلم ، وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه .

                  فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية