الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والجواب الثاني أن الذين قالوا : إن الله يرى [1] بلا مقابلة هم الذين قالوا : إن الله ليس فوق العالم ، فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين . وهذا قول طائفة من الكلابية والأشعرية  ، وليس هو قولهم كلهم [2] بل ولا قول أئمتهم ، بل أئمة القوم يقولون : إن الله بذاته فوق العرش ، ومن نفى ذلك منهم فإنما نفاه [ ص: 343 ] لموافقته [3] المعتزلة في نفي ذلك ونفي ملزوماته ، فإنهم لما وافقوهم على صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة على حدوث العالم ، وهو أن الجسم لا يخلو عن ( * الحركة والسكون ، وما لا يخلو عنهما فهو حادث ، لامتناع حوادث لا أول لها .

                  قالوا : فيلزم حدوث كل جسم ، فيمتنع أن يكون * ) [4] البارئ جسما ; لأنه قديم ، ويمتنع أن يكون في جهة ; لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم [5] ، فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي ; لأن المقابلة لا تكون إلا بين جسمين [6] .

                  ولا ريب أن جمهور [7] العقلاء من مثبتي الرؤية ونفاتها يقولون : إن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة ؛ ولهذا يذكر الرازي أن جميع فرق الأمة تخالفهم في ذلك .

                  لكن هم يقولون لهذا المشنع عليهم : نحن أثبتنا الرؤية ونفينا الجهة ، فلا يلزم ما ذكرته [8] ، فإن أمكن رؤية المرئي [9] لا في جهة من الرائي صح قولنا ، وإن لم يكن لزم خطؤنا في إحدى المسألتين : إما في نفي [10] الرؤية وإما في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهم .

                  [ ص: 344 ] وإذا لزم الخطأ في إحداهما ، لم يتعين الخطأ في نفي الرؤية ، بل يجوز [11] أن يكون الخطأ في نفي العلو والمباينة ، وليست موافقتنا لك حجة [12] لك ، فليس تناقضنا دليلا على صواب قولك في نفي علو الله على خلقه ، بل الرؤية ثابتة بالنصوص المستفيضة [13] وإجماع السلف ، مع دلالة العقل عليها   .

                  وحينئذ فلازم الحق حق . ونحن إذا أثبتنا هذا الحق ونفينا بعض لوازمه ، كان هذا [14] التناقض أهون من نفي الحق [15] ولوازمه . وأنتم نفيتم الرؤية ونفيتم العلو والمباينة ، فكان [16] قولكم أبعد عن المعقول والمنقول من قولنا ، وقولنا أقرب من قولكم ، وإن كان في قولنا تناقض فالتناقض في قولكم أكثر ومخالفتكم [17] لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ( 8 أظهر ، وهذا بين ؛ فإن ما في النصوص الإلهية ونصوص سلف الأمة 8 ) [18] من إثبات الصفات والرؤية [19] وعلو الله متواتر [20] مستفيض .

                  والنفاة لا يستندون لا إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى [ ص: 345 ] إجماع
                   [21] بل عارضوا برأيهم الفاسد [22] ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان [23] .

                  وأما التناقض فإن هؤلاء النفاة للرؤية يقولون : إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه [24] ولا مباين له ، ولا يقرب من شيء ، ولا يقرب منه [25] شيء ، ولا يراه أحد ، ولا يحجب عن رؤيته [26] شيء دون شيء [27] ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل من عنده شيء ، إلى أمثال ذلك .

                  وإذا قيل لهم [28] : هذا مخالف للعقل ، وهذا صفة المعلوم المعدوم الممتنع وجوده .

                  قالوا : هذا النفي من حكم الوهم .

                  فيقال لهم : إذا عرض على العقل موجود ليس بجسم قائم بنفسه يمكن رؤيته كان العقل قابلا لهذا لا ينكره . فإذا قيل مع ذلك : إنه يرى بلا مواجهة ، فإن قيل : هذا ممكن ، بطل قولهم . وإن قيل : هذا مما يمنعه العقل . قيل : منع العقل لما جعلتموه موجودا واجبا [29] أعظم .

                  [ ص: 346 ] فإن [30] قلتم : إنكار ذلك من حكم الوهم .

                  قيل لكم : وإنكار هذا حينئذ [31] أولى أن يكون من حكم الوهم .

                  وإن قلتم : بل [32] هذا الإنكار من حكم العقل .

                  قيل لكم : وذلك الإنكار من حكم العقل بطريق الأولى .

                  فإنكم تقولون : حكم الوهم الباطل أن يحكم فيما ليس بمحسوس بحكم المحسوس ، وحينئذ إذا قلتم : إن البارئ تعالى غير محسوس يمكن أن تقبلوا فيه الحكم الذي يمتنع في المحسوس [33] وهو امتناع الرؤية بدون [34] المقابلة .

                  وإن قلتم : إنه محسوس أي يمكن الإحساس به لم يبطل [35] فيه حكم الوهم ، فامتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه ، وحينئذ فيجوز [36] رؤيته .

                  وإن قلتم : إذا كان غير محسوس فهو غير مرئي .

                  قيل : إن أردتم بالمحسوس الحس المعتاد فالرؤية التي يثبتها [ ص: 347 ] مثبتة الرؤية [37] بلا مقابلة ليست هي الرؤية المعتادة ، بل [38] هي رؤية لا نعلم صفتها ، كما أثبتم وجود موجود [39] لا نعلم صفته ، فكل ما تلزمونهم به من الشناعات والمناقضات يلزمكم أكثر منه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية