فصل
قال الرافضي [1] : " البرهان الثامن عشر : قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة [ ص: 160 ] [ سورة المجادلة : 12 ] [2] من طريق الحافظ أبي نعيم إلى ابن عباس ، قال : إن الله حرم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بتقديم الصدقة ، وبخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه ، وتصدق علي ، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره . ومن تفسير الثعلبي قال ابن عمر : كان لعلي ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه [3] الراية يوم خيبر ، وآية النجوى .
وروى رزين بن معاوية في " الجمع بين الصحاح الستة " عن علي : ما عمل بهذه الآية غيري ، وبي خفف الله [4] عن هذه الأمة . وهذا يدل على فضيلته عليهم ، فيكون هو أحق بالإمامة " [5] .
والجواب أن يقال : أما الذي ثبت فهو أن عليا - رضي الله عنه - تصدق وناجى ، ثم نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره [6] ، لكن الآية لم توجب الصدقة عليهم ، لكن أمرهم إذا ناجوا أن يتصدقوا ، فمن لم يناج لم يكن عليه أن يتصدق . وإذا لم تكن المناجاة واجبة ، لم يكن أحد ملوما إذا ترك ما ليس بواجب ، ومن كان فيهم [7] عاجزا عن الصدقة ولكن لو قدر لناجى [ ص: 161 ] فتصدق ، فله نيته وأجره ، ومن لم يعرض له سبب يناجي لأجله لم يجعل ناقصا ، ولكن من عرض له سبب اقتضى المناجاة فتركه بخلا ، فهذا قد ترك المستحب . ولا يمكن أن يشهد على الخلفاء أنهم كانوا من هذا الضرب ، ولا يعلم أنهم كانوا ثلاثتهم [8] حاضرين عند نزول هذه الآية ، بل يمكن غيبة بعضهم ، ويمكن حاجة بعضهم ، ويمكن عدم الداعي إلى المناجاة .
ولم يطل زمان عدم نسخ الآية ، حتى يعلم أن الزمان الطويل لا بد أن تعرض فيه حاجة إلى المناجاة .
وبتقدير أن يكون أحدهم ترك المستحب ، فقد بينا غير مرة أن من فعل مستحبا لم يجب أن يكون أفضل من غيره مطلقا .
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ " فقال أبو بكر : أنا . قال : " فمن تبع منكم جنازة ؟ " قال أبو بكر : أنا . قال : " هل فيكم من عاد مريضا ؟ " قال أبو بكر : أنا . قال : " هل فيكم من تصدق بصدقة ؟ " فقال أبو بكر : أنا . قال : " ما اجتمع لعبد هذه الخصال إلا وهو من أهل الجنة " [9] . وهذه الأربعة لم ينقل مثلها لعلي ولا غيره في يوم .
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فإن كان من [ ص: 162 ] أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، فما على من يدعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة ، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال : " نعم ، وأرجو أن تكون منهم " [10] . ولم يذكر هذا لغير أبي بكر - رضي الله عنه - .
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها ، فالتفتت إليه [11] فقالت : إني لم أخلق لهذا ، ولكني إنما خلقت للحرث " . فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ! ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : * فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر " و [ ما ] هما ثم [12] . قال أبو هريرة : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - * [13] : " بينما راع في غنمه عدا عليها الذئب ، فأخذ منها شاة ، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه ، فالتفت إليه الذئب ، فقال : من لها يوم السبع ، يوم ليس [ لها ] [14] راع غيري ؟ " . فقال الناس : سبحان الله ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فإني أؤمن بذلك : أنا وأبو بكر وعمر " وهما ثم " [15] .
[ ص: 163 ] وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما نفعني مال كمال أبي بكر " [16] . وهذا صريح في اختصاصه بهذه الفضيلة ، لم يشركه فيها علي ولا غيره .
وكذلك قوله في الصحيحين : " إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، لكن أخوة الإسلام ومودته . لا يبقين باب في المسجد إلا سد ، إلا باب أبي بكر " [17] .
وفي سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر : " أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي "
[18] [ ص: 164 ] وفي الترمذي وسنن أبي داود عن عمر - رضي الله عنه - ، قال : أمرنا [19] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق ، فوافق [20] مني مالا ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته . قال : فجئت بنصف مالي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما أبقيت لأهلك ؟ " قلت : مثله . وأتى أبو بكر بكل ما عنده . فقال : " يا أبا بكر ، ما أبقيت لأهلك ؟ " قال : الله ورسوله . قلت : لا أسابقه إلى شيء أبدا " [21] .
وفي البخاري عن أبي الدرداء ، قال : كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته [22] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما صاحبكم فقد غامر فسلم " . وقال : إنه [23] كان بيني وبين ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ، ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي ، فأبى علي ، فأقبلت إليك ، فقال : يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا . ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل [24] : أثم أبو بكر ؟ قالوا : لا . فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - [ فسلم عليه ] [25] فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر ، حتى أشفق أبو بكر ، فجثا على ركبتيه ، وقال : [ ص: 165 ] يا رسول الله ، [ والله ] [26] أنا كنت أظلم ، مرتين . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت [27] . وقال أبو بكر : صدق [28] ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ فهل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ فما أوذي بعدها " وفي لفظ آخر : " [ إني ] [29] قلت [ : أيها الناس ] [30] إني رسول الله إليكم جميعا ، فقلتم : كذبت . وقال أبو بكر : صدقت " [31] .
وفي الترمذي مرفوعا : " لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره " [32] .
وتجهيز عثمان بألف بعير أعظم من صدقة علي بكثير كثير ، فإن الإنفاق في الجهاد كان فرضا ، بخلاف الصدقة أمام النجوى فإنه مشروط بمن يريد النجوى [33] ، فمن لم يردها لم يكن عليه أن يتصدق .
وقد أنزل الله في بعض الأنصار : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ سورة الحشر : 9 ] [ ص: 166 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود . فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق نبيا [34] ما عندي إلا ماء . ثم إلى أخرى فقالت مثل ذلك ، حتى قلن كلهن مثل ذلك : لا [35] والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . فقال : " من يضيفه هذه الليلة رحمه الله ؟ " فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . وانطلق [36] به إلى رحله [37] ، فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ فقالت : لا إلا قوت صبياننا . فقال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج ، وأريه أنا نأكل ، فإذا أهوى [38] ليأكل [39] فقومي إلى السراج حتى تطفئيه [40] . قال : فقعدوا [ فأكل الضيف ] [41] فلما أصبح غدا على [42] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " قد عجب الله من صنعكما بضيفكما الليلة " . وفي رواية فنزلت هذه الآية : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ سورة الحشر : 9 ] ) [43] .
[ ص: 167 ] وبالجملة فباب الإنفاق في سبيل الله وغيره ، لكثير من المهاجرين والأنصار ، فيه من الفضيلة ما ليس لعلي ، فإنه لم يكن له مال على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .


