الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الثامن عشر : قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة   [ ص: 160 ] [ سورة المجادلة : 12 ] [2] من طريق الحافظ أبي نعيم إلى ابن عباس ، قال : إن الله حرم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بتقديم الصدقة ، وبخلوا أن يتصدقوا قبل كلامه ، وتصدق علي ، ولم يفعل ذلك أحد من المسلمين غيره . ومن تفسير الثعلبي قال ابن عمر : كان لعلي ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه [3] الراية يوم خيبر ، وآية النجوى   .

                  وروى رزين بن معاوية في " الجمع بين الصحاح الستة " عن علي : ما عمل بهذه الآية غيري ، وبي خفف الله [4] عن هذه الأمة . وهذا يدل على فضيلته عليهم ، فيكون هو أحق بالإمامة " [5] .

                  والجواب أن يقال : أما الذي ثبت فهو أن عليا - رضي الله عنه - تصدق وناجى ، ثم نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره [6] ، لكن الآية لم توجب الصدقة عليهم ، لكن أمرهم إذا ناجوا أن يتصدقوا ، فمن لم يناج لم يكن عليه أن يتصدق . وإذا لم تكن المناجاة واجبة ، لم يكن أحد ملوما إذا ترك ما ليس بواجب ، ومن كان فيهم [7] عاجزا عن الصدقة ولكن لو قدر لناجى [ ص: 161 ] فتصدق ، فله نيته وأجره ، ومن لم يعرض له سبب يناجي لأجله لم يجعل ناقصا ، ولكن من عرض له سبب اقتضى المناجاة فتركه بخلا ، فهذا قد ترك المستحب . ولا يمكن أن يشهد على الخلفاء أنهم كانوا من هذا الضرب ، ولا يعلم أنهم كانوا ثلاثتهم [8] حاضرين عند نزول هذه الآية ، بل يمكن غيبة بعضهم ، ويمكن حاجة بعضهم ، ويمكن عدم الداعي إلى المناجاة .

                  ولم يطل زمان عدم نسخ الآية ، حتى يعلم أن الزمان الطويل لا بد أن تعرض فيه حاجة إلى المناجاة .

                  وبتقدير أن يكون أحدهم ترك المستحب ، فقد بينا غير مرة أن من فعل مستحبا لم يجب أن يكون أفضل من غيره مطلقا .

                  وقد ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ " فقال أبو بكر : أنا . قال : " فمن تبع منكم جنازة ؟ " قال أبو بكر : أنا . قال : " هل فيكم من عاد مريضا ؟ " قال أبو بكر : أنا . قال : " هل فيكم من تصدق بصدقة ؟ " فقال أبو بكر : أنا . قال : " ما اجتمع لعبد هذه الخصال إلا وهو من أهل الجنة " [9] . وهذه الأربعة لم ينقل مثلها لعلي ولا غيره في يوم .

                  وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فإن كان من [ ص: 162 ] أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة " . فقال أبو بكر : يا رسول الله ، فما على من يدعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة ، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال : " نعم ، وأرجو أن تكون منهم " [10] . ولم يذكر هذا لغير أبي بكر - رضي الله عنه - .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " بينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها ، فالتفتت إليه [11] فقالت : إني لم أخلق لهذا ، ولكني إنما خلقت للحرث " . فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ! ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : * فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر " و [ ما ] هما ثم [12] . قال أبو هريرة : وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - * [13] : " بينما راع في غنمه عدا عليها الذئب ، فأخذ منها شاة ، فطلبه الراعي حتى استنقذها منه ، فالتفت إليه الذئب ، فقال : من لها يوم السبع ، يوم ليس [ لها ] [14] راع غيري ؟ " . فقال الناس : سبحان الله ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فإني أؤمن بذلك : أنا وأبو بكر وعمر " وهما ثم " [15] .

                  [ ص: 163 ] وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما نفعني مال كمال أبي بكر " [16] . وهذا صريح في اختصاصه بهذه الفضيلة ، لم يشركه فيها علي ولا غيره .

                  وكذلك قوله في الصحيحين : " إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، لكن أخوة الإسلام ومودته . لا يبقين باب في المسجد إلا سد ، إلا باب أبي بكر " [17] .

                  وفي سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر : " أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي "

                  [18] [ ص: 164 ] وفي الترمذي وسنن أبي داود عن عمر - رضي الله عنه - ، قال : أمرنا [19] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق ، فوافق [20] مني مالا ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته . قال : فجئت بنصف مالي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما أبقيت لأهلك ؟ " قلت : مثله . وأتى أبو بكر بكل ما عنده . فقال : " يا أبا بكر ، ما أبقيت لأهلك ؟ " قال : الله ورسوله . قلت : لا أسابقه إلى شيء أبدا " [21] .

                  وفي البخاري عن أبي الدرداء ، قال : كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته [22] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما صاحبكم فقد غامر فسلم " . وقال : إنه [23] كان بيني وبين ابن الخطاب شيء ، فأسرعت إليه ، ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي ، فأبى علي ، فأقبلت إليك ، فقال : يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا . ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل [24] : أثم أبو بكر ؟ قالوا : لا . فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - [ فسلم عليه ] [25] فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر ، حتى أشفق أبو بكر ، فجثا على ركبتيه ، وقال : [ ص: 165 ] يا رسول الله ، [ والله ] [26] أنا كنت أظلم ، مرتين . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت [27] . وقال أبو بكر : صدق [28] ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ فهل أنتم تاركون لي صاحبي ؟ فما أوذي بعدها " وفي لفظ آخر : " [ إني ] [29] قلت [ : أيها الناس ] [30] إني رسول الله إليكم جميعا ، فقلتم : كذبت . وقال أبو بكر : صدقت " [31] .

                  وفي الترمذي مرفوعا : " لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره " [32] .

                  وتجهيز عثمان بألف بعير أعظم من صدقة علي بكثير كثير ، فإن الإنفاق في الجهاد كان فرضا ، بخلاف الصدقة أمام النجوى فإنه مشروط بمن يريد النجوى [33] ، فمن لم يردها لم يكن عليه أن يتصدق .

                  وقد أنزل الله في بعض الأنصار : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ سورة الحشر : 9 ] [ ص: 166 ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود . فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق نبيا [34] ما عندي إلا ماء . ثم إلى أخرى فقالت مثل ذلك ، حتى قلن كلهن مثل ذلك : لا [35] والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء . فقال : " من يضيفه هذه الليلة رحمه الله ؟ " فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله . وانطلق [36] به إلى رحله [37] ، فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ فقالت : لا إلا قوت صبياننا . فقال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج ، وأريه أنا نأكل ، فإذا أهوى [38] ليأكل [39] فقومي إلى السراج حتى تطفئيه [40] . قال : فقعدوا [ فأكل الضيف ] [41] فلما أصبح غدا على [42] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " قد عجب الله من صنعكما بضيفكما الليلة " . وفي رواية فنزلت هذه الآية : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ سورة الحشر : 9 ] ) [43] .

                  [ ص: 167 ] وبالجملة فباب الإنفاق في سبيل الله وغيره ، لكثير من المهاجرين والأنصار ، فيه من الفضيلة ما ليس لعلي ، فإنه لم يكن له مال على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية