الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 174 ] فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الحادي والعشرون : سورة هل أتى  في تفسير الثعلبي من طرق مختلفة قال : مرض الحسن والحسين [2] ، فعادهما جدهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة العرب ، فقالوا [3] : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولديك . فنذر صوم ثلاثة أيام ، وكذا نذرت [4] أمهما فاطمة وجاريتهم فضة ، فبرئا ، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير [5] ، فاستقرض علي ثلاثة آصع [6] من شعير ، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته ، وخبزت [7] منه خمسة أقراص ، لكل واحد منهم قرصا [8] ، وصلى علي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه ; إذ أتاهم [9] مسكين ، فقال [10] : السلام عليكم أهل بيت محمد - صلى [ ص: 175 ] الله عليه وسلم - ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة . فسمعه علي ، فأمر بإعطائه ، فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح .

                  فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة فخبزت [11] صاعا ، وصلى علي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أتى المنزل [12] فوضع [13] الطعام بين يديه ، فأتاهم يتيم ، فوقف بالباب ، وقال : السلام عليكم أهل بيت محمد - صلى الله عليه وسلم - ، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فسمعه علي ، فأمر بإعطائه ، فأعطوه الطعام ، ومكثوا يومين وليلتين [14] لم يذوقوا إلا [15] الماء القراح .

                  فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الثالث ، فطحنته وخبزته [16] ، وصلى علي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه ، إذ أتى أسير فقال : أتأسروننا[17] وتشردوننا ولا تطعموننا ، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله من موائد الجنة . فسمعه علي ، فأمر بإعطائه ، فأعطوه الطعام ، [ ص: 176 ] ومكثوا ثلاثة أيام بلياليها [18] لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح .

                  فلما كان اليوم الرابع ; وقد وفوا نذورهم [19] ، أخذ علي الحسن بيده اليمنى [20] ، والحسين بيده [21] اليسرى ، وأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، فلما بصرهما [22] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا الحسن ، ما أشد ما يسوءني [23] ما أرى بكم ، انطلق بنا إلى منزل [24] ابنتي فاطمة ، فانطلقوا إليها ، وهي في حجرتها [25] ، قد [26] لصق بطنها بظهرها [27] من شدة الجوع ، وغارت عيناها ، فلما رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : واغوثاه ، بالله [28] أهل بيت محمد يموتون جوعا ! فهبط جبريل [29] على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا محمد ، خذ [ ص: 177 ] ما هنأك الله في أهل بيتك . فقال : " ما آخذ يا جبريل ؟ فأقرأه : ( هل أتى على الإنسان حين )
                  [30] [ سورة الإنسان : 1 ] .

                  وهي تدل على فضائل جمة لم يسبقه إليها أحد ، ولا يلحقه أحد ، فيكون أفضل من غيره ، فيكون هو الإمام " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل ، كما تقدم . ومجرد رواية الثعلبي والواحدي وأمثالهما لا تدل على أنه صحيح باتفاق أهل السنة والشيعة . ولو تنازع اثنان في مسألة من مسائل الأحكام والفضائل ، واحتج أحدهما بحديث [31] لم يذكر ما يدل على صحته ، إلا رواية الواحد من هؤلاء له في تفسيره ، لم يكن ذلك دليلا على صحته ولا حجة على منازعه باتفاق العلماء .

                  وهؤلاء من عادتهم يروون ما رواه غيرهم ، وكثير [32] من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف ، ويروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر ; لأن وصفهم [33] النقل لما نقل أو حكاية أقوال الناس ، وإن كان كثير من هذا وهذا - باطلا ، وربما تكلموا على صحة بعض المنقولات وضعفها ، ولكن لا يطردون هذا ولا يلتزمونه .

                  الثاني : أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، الذي هم أئمة هذا الشأن وحكامه . وقول هؤلاء هو المنقول في [ ص: 178 ] هذا الباب ، ولهذا لم يرو هذا الحديث في شيء من الكتب التي يرجع إليها في النقل [34] ، لا في الصحاح ، ولا في المساند [35] ، ولا في الجوامع ، ولا السنن [36] ، ولا رواه المصنفون في الفضائل ، وإن كانوا قد يتسامحون في رواية أحاديث ضعيفة ، كالنسائي فإنه صنف [37] خصائص علي ، وذكر فيها [38] عدة أحاديث ضعيفة ، ولم يرو [39] هذا وأمثاله [40] .

                  وكذلك أبو نعيم في " الخصائص " [41] ، وخيثمة بن سليمان [42] ، والترمذي في " جامعه " روى أحاديث كثيرة في فضائل علي ، كثير منها ضعيف ، ولم يرو مثل هذا لظهور كذبه .

                  وأصحاب السير ، كابن إسحاق وغيره ، يذكرون من فضائله أشياء ضعيفة ، ولم يذكروا مثل هذا ، ولا رووا ما قلنا فيه : إنه موضوع باتفاق أهل النقل ، من أئمة أهل التفسير ، الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة ، كتفسير ابن جريج ، وسعيد بن أبي عروبة ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، [ ص: 179 ] وأحمد ، وإسحاق وتفسير بقي بن مخلد وابن جرير الطبري ، ومحمد بن أسلم الطوسي ، وابن أبي حاتم ، وأبي بكر بن المنذر ، وغيرهم من العلماء الأكابر ، الذين لهم في الإسلام [43] لسان صدق ، وتفاسيرهم متضمنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير .

                  الوجه الثالث : أن الدلائل على كذب هذا كثيرة . منها : أن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة ، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر ، كما ثبت ذلك في الصحيح . والحسن والحسين ولدا بعد ذلك ، سنة ثلاث أو أربع ، والناس متفقون على أن عليا لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة ولم يولد له ولد إلا بالمدينة . وهذا من العلم العام المتواتر ، الذي يعرفه [ كل ] [44] من عنده طرف من العلم [45] بمثل هذه الأمور .

                  وسورة " هل أتى " مكية باتفاق أهل التفسير والنقل ، لم يقل أحد منهم : إنها مدنية . وهي على طريقة السور المكية في تقرير أصول الدين المشتركة بين الأنبياء ، كالإيمان بالله واليوم الآخر وذكر الخلق والبعث . ولهذا [ قيل : ] [46] إنه كان النبي [47] - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها مع : ( ألم تنزيل ) [48] [ ص: 180 ] في فجر يوم الجمعة ; لأن فيه خلق آدم ، وفيه دخل الجنة ، وفيه تقوم الساعة .

                  وهاتان السورتان متضمنتان لابتداء خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان إلى أن يدخل فريق الجنة وفريق النار . وإذا كانت السورة نزلت بمكة قبل أن يتزوج علي بفاطمة ، تبين أن نقل [49] أنها نزلت بعد مرض الحسن والحسين من الكذب والمين .

                  الوجه الرابع : أن سياق هذا الحديث وألفاظه من وضع جهال الكذابين . فمنه قوله : " فعادهما جدهما وعامة العرب " فإن عامة [50] العرب لم يكونوا بالمدينة ، والعرب الكفار ما كانوا يأتونهما يعودونهما .

                  ومنه قوله : " فقالوا [51] : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولديك " . وعلي لا يأخذ الدين من أولئك العرب ، بل يأخذه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن كان هذا أمرا بطاعة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يأمره به من أولئك العرب ، وإن لم يكن طاعة لم يكن علي يفعل ما يأمرون به . ثم كيف يقبل منهم ذلك من غير مراجعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ؟ !

                  الوجه الخامس : أن في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر ، وقال : إنه [52] لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل [53] " .

                  [ ص: 181 ] وفي طريق آخر : " إن النذر يرد ابن آدم إلى القدر * فيعطى على النذر ما لا يعطى غيره " [54] . وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النذر ويقول : إنه لا يأتي بخير وإنما يرد ابن آدم إلى القدر * [55] .

                  فإن كان علي وفاطمة وسائر أهلهما [56] لم يعلموا مثل هذا ، وعلمه عموم الأمة ، فهذا قدح في علمهم ، فأين المدعي للعصمة ؟

                  وإن كانوا [57] علموا ذلك ، وفعلوا ما لا طاعة فيه لله ولرسوله ، ولا فائدة لهما فيه ، بل قد نهيا عنه : إما نهي تحريم ، وإما نهي تنزيل - كان هذا قدحا إما [58] في دينهم [59] وإما في عقلهم وعلمهم .

                  فهذا الذي يروي مثل هذا في فضائلهم جاهل ، يقدح فيهم من حيث يمدحهم ، ويخفضهم من حيث يرفعهم ، ويذمهم من حيث يحمدهم .

                  ولهذا قال بعض أهل البيت للرافضة ما معناه : إن محبتكم لنا صارت معرة علينا . وفي المثل السائر [60] " عدو عاقل خير من صديق جاهل " [ ص: 182 ] والله تعالى إنما مدح على الوفاء بالنذر ، لا على نفس عقد النذر ، والرجل ينهى عن الظهار ، وإن ظاهر وجبت عليه كفارة للظهار ، وإذا عاود مدح [61] على فعل * الواجب ، وهو التكفير ، لا على نفس الظهار المحرم . وكذلك إذا طلق امرأته ففارقها بالمعروف ، مدح على فعل ما أوجبه الطلاق ، لا نفس الطلاق المكروه . وكذلك من باع أو اشترى فأعطى ما عليه ، مدح على فعل * [62] ما أوجبه العقد ، لا على نفس العقد الموجب . ونظائر هذا كثيرة .

                  الوجه السادس : أن عليا وفاطمة لم يكن لهما جارية اسمها فضة ، بل ولا لأحد من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولا نعرف أنه كان بالمدينة جارية اسمها فضة ، ولا ذكر ذلك [ أحد من ] [63] أهل العلم ، الذين ذكروا أحوالهم : دقها وجلها . ولكن فضة هذه بمنزلة ابن عقب الذي يقال : إنه كان معلم الحسن والحسين ، وأنه أعطي تفاحة كان فيها علم الحوادث المستقبلة ، ونحو ذلك من الأكاذيب التي تروج [64] على الجهال . وقد أجمع أهل العلم على أنهما [65] لم يكن لهما معلم ، ولم يكن [66] في الصحابة أحد يقال له : ابن عقب .

                  وهذه الملاحم المنظومة [67] المنسوبة إلى ابن عقب ، هي من نظم بعض [ ص: 183 ] متأخري الجهال [ الرافضة ] [68] ، الذين كانوا زمن نور الدين وصلاح الدين ، لما كان كثير من الشام بأيدي النصارى ، ومصر بأيدي القرامطة الملاحدة بقايا بني عبيد ، فذكر من الملاحم ما يناسب تلك الأمور بنظم جاهل عامي .

                  وهكذا هذه الجارية فضة . وقد ثبت في الصحيحين عن علي أن فاطمة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - خادما ، فعلمها أن تسبح عند المنام ثلاثا وثلاثين ، وتكبر ثلاثا وثلاثين وتحمد أربعا وثلاثين . وقال : " هذا خير لك من خادم " قال علي : فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي - صلى الله عليه وسلم - . قيل له : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين " . وهذا خبر صحيح باتفاق أهل العلم [69] ، وهو يقتضي أنه لم يعطها خادما . فإن كان بعد [70] ذلك حصل خادم [71] فهو ممكن ، لكن [ لم يكن ] [72] اسم خادمها فضة بلا ريب .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية