[ ص: 174 ] فصل
قال الرافضي [1] : " البرهان الحادي والعشرون : في تفسير سورة هل أتى من طرق مختلفة قال : الثعلبي مرض الحسن والحسين [2] ، فعادهما جدهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة العرب ، فقالوا [3] : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولديك . فنذر صوم ثلاثة أيام ، وكذا نذرت [4] أمهما وجاريتهم فاطمة فضة ، فبرئا ، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير [5] ، فاستقرض ثلاثة آصع علي [6] من شعير ، فقامت إلى صاع فطحنته ، وخبزت فاطمة [7] منه خمسة أقراص ، لكل واحد منهم قرصا [8] ، وصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه ; إذ أتاهم علي [9] مسكين ، فقال [10] : السلام عليكم أهل بيت محمد - صلى [ ص: 175 ] الله عليه وسلم - ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة . فسمعه ، فأمر بإعطائه ، فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح . علي
فلما كان اليوم الثاني قامت فخبزت فاطمة [11] صاعا ، وصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أتى المنزل علي [12] فوضع [13] الطعام بين يديه ، فأتاهم يتيم ، فوقف بالباب ، وقال : السلام عليكم أهل بيت محمد - صلى الله عليه وسلم - ، يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فسمعه ، فأمر بإعطائه ، فأعطوه الطعام ، ومكثوا يومين وليلتين علي [14] لم يذوقوا إلا [15] الماء القراح .
فلما كان اليوم الثالث قامت إلى الصاع الثالث ، فطحنته وخبزته فاطمة [16] ، وصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه ، إذ أتى أسير فقال : أتأسروننا علي [17] وتشردوننا ولا تطعموننا ، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله من موائد الجنة . فسمعه ، فأمر بإعطائه ، فأعطوه الطعام ، [ ص: 176 ] ومكثوا ثلاثة أيام بلياليها علي [18] لم يذوقوا شيئا إلا الماء القراح .
فلما كان اليوم الرابع ; وقد وفوا نذورهم [19] ، أخذ علي بيده اليمنى الحسن [20] ، بيده والحسين [21] اليسرى ، وأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، فلما بصرهما [22] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أبا الحسن ، ما أشد ما يسوءني [23] ما أرى بكم ، انطلق بنا إلى منزل [24] ابنتي ، فانطلقوا إليها ، وهي في حجرتها فاطمة [25] ، قد [26] لصق بطنها بظهرها [27] من شدة الجوع ، وغارت عيناها ، فلما رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : واغوثاه ، بالله [28] أهل بيت محمد يموتون جوعا ! فهبط جبريل [29] على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا محمد ، خذ [ ص: 177 ] ما هنأك الله في أهل بيتك . فقال : " ما آخذ يا جبريل ؟ فأقرأه : ( هل أتى على الإنسان حين ) [30] [ سورة الإنسان : 1 ] .
وهي تدل على فضائل جمة لم يسبقه إليها أحد ، ولا يلحقه أحد ، فيكون أفضل من غيره ، فيكون هو الإمام " .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل ، كما تقدم . ومجرد رواية الثعلبي وأمثالهما لا تدل على أنه صحيح باتفاق أهل السنة والشيعة . ولو تنازع اثنان في مسألة من مسائل الأحكام والفضائل ، واحتج أحدهما بحديث والواحدي [31] لم يذكر ما يدل على صحته ، إلا رواية الواحد من هؤلاء له في تفسيره ، لم يكن ذلك دليلا على صحته ولا حجة على منازعه باتفاق العلماء .
وهؤلاء من عادتهم يروون ما رواه غيرهم ، وكثير [32] من ذلك لا يعرفون هل هو صحيح أم ضعيف ، ويروون من الأحاديث الإسرائيليات ما يعلم غيرهم أنه باطل في نفس الأمر ; لأن وصفهم [33] النقل لما نقل أو حكاية أقوال الناس ، وإن كان كثير من هذا وهذا - باطلا ، وربما تكلموا على صحة بعض المنقولات وضعفها ، ولكن لا يطردون هذا ولا يلتزمونه .
الثاني : أن هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، الذي هم أئمة هذا الشأن وحكامه . وقول هؤلاء هو المنقول في [ ص: 178 ] هذا الباب ، ولهذا لم يرو هذا الحديث في شيء من الكتب التي يرجع إليها في النقل [34] ، لا في الصحاح ، ولا في المساند [35] ، ولا في الجوامع ، ولا السنن [36] ، ولا رواه المصنفون في الفضائل ، وإن كانوا قد يتسامحون في رواية أحاديث ضعيفة ، فإنه صنف كالنسائي [37] خصائص ، وذكر فيها علي [38] عدة أحاديث ضعيفة ، ولم يرو [39] هذا وأمثاله [40] .
وكذلك أبو نعيم في " الخصائص " [41] ، وخيثمة بن سليمان [42] ، في " جامعه " روى أحاديث كثيرة في فضائل والترمذي ، كثير منها ضعيف ، ولم يرو مثل هذا لظهور كذبه . علي
وأصحاب السير ، كابن إسحاق وغيره ، يذكرون من فضائله أشياء ضعيفة ، ولم يذكروا مثل هذا ، ولا رووا ما قلنا فيه : إنه موضوع باتفاق أهل النقل ، من أئمة أهل التفسير ، الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة ، كتفسير ، ابن جريج ، وسعيد بن أبي عروبة وعبد الرزاق ، ، [ ص: 179 ] وعبد بن حميد ، وأحمد وإسحاق وتفسير بقي بن مخلد ، وابن جرير الطبري ومحمد بن أسلم الطوسي ، ، وابن أبي حاتم ، وغيرهم من العلماء الأكابر ، الذين لهم في الإسلام وأبي بكر بن المنذر [43] لسان صدق ، وتفاسيرهم متضمنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير .
الوجه الثالث : أن الدلائل على كذب هذا كثيرة . منها : أن إنما تزوج عليا فاطمة بالمدينة ، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر ، كما ثبت ذلك في الصحيح . والحسن ولدا بعد ذلك ، سنة ثلاث أو أربع ، والناس متفقون على أن والحسين لم يتزوج عليا إلا فاطمة بالمدينة ولم يولد له ولد إلا بالمدينة . وهذا من العلم العام المتواتر ، الذي يعرفه [ كل ] [44] من عنده طرف من العلم [45] بمثل هذه الأمور .
وسورة " هل أتى " مكية باتفاق أهل التفسير والنقل ، لم يقل أحد منهم : إنها مدنية . وهي على طريقة السور المكية في تقرير أصول الدين المشتركة بين الأنبياء ، كالإيمان بالله واليوم الآخر وذكر الخلق والبعث . ولهذا [ قيل : ] [46] إنه كان النبي [47] - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها مع : ( ألم تنزيل ) [48] [ ص: 180 ] في فجر يوم الجمعة ; لأن فيه خلق آدم ، وفيه دخل الجنة ، وفيه تقوم الساعة .
وهاتان السورتان متضمنتان لابتداء خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان إلى أن يدخل فريق الجنة وفريق النار . وإذا كانت السورة نزلت بمكة قبل أن يتزوج علي ، تبين أن نقل بفاطمة [49] أنها نزلت بعد مرض الحسن من الكذب والمين . والحسين
الوجه الرابع : أن سياق هذا الحديث وألفاظه من وضع جهال الكذابين . فمنه قوله : " فعادهما جدهما وعامة العرب " فإن عامة [50] العرب لم يكونوا بالمدينة ، والعرب الكفار ما كانوا يأتونهما يعودونهما .
ومنه قوله : " فقالوا [51] : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولديك " . لا يأخذ الدين من أولئك العرب ، بل يأخذه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن كان هذا أمرا بطاعة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يأمره به من أولئك العرب ، وإن لم يكن طاعة لم يكن وعلي يفعل ما يأمرون به . ثم كيف يقبل منهم ذلك من غير مراجعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ؟ ! علي
الوجه الخامس : أن في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [52] لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل نهى عن النذر ، وقال : إنه [53] " .
[ ص: 181 ] وفي طريق آخر : " إن النذر يرد ابن آدم إلى القدر * فيعطى على النذر ما لا يعطى غيره " [54] . وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النذر ويقول : إنه لا يأتي بخير وإنما يرد ابن آدم إلى القدر * [55] .
فإن كان علي وسائر أهلهما وفاطمة [56] لم يعلموا مثل هذا ، وعلمه عموم الأمة ، فهذا قدح في علمهم ، فأين المدعي للعصمة ؟
وإن كانوا [57] علموا ذلك ، وفعلوا ما لا طاعة فيه لله ولرسوله ، ولا فائدة لهما فيه ، بل قد نهيا عنه : إما نهي تحريم ، وإما نهي تنزيل - كان هذا قدحا إما [58] في دينهم [59] وإما في عقلهم وعلمهم .
فهذا الذي يروي مثل هذا في فضائلهم جاهل ، يقدح فيهم من حيث يمدحهم ، ويخفضهم من حيث يرفعهم ، ويذمهم من حيث يحمدهم .
ولهذا قال بعض أهل البيت للرافضة ما معناه : إن محبتكم لنا صارت معرة علينا . وفي المثل السائر [60] " عدو عاقل خير من صديق جاهل " [ ص: 182 ] والله تعالى إنما مدح على الوفاء بالنذر ، لا على نفس عقد النذر ، والرجل ينهى عن الظهار ، وإن ظاهر وجبت عليه كفارة للظهار ، وإذا عاود مدح [61] على فعل * الواجب ، وهو التكفير ، لا على نفس الظهار المحرم . وكذلك إذا طلق امرأته ففارقها بالمعروف ، مدح على فعل ما أوجبه الطلاق ، لا نفس الطلاق المكروه . وكذلك من باع أو اشترى فأعطى ما عليه ، مدح على فعل * [62] ما أوجبه العقد ، لا على نفس العقد الموجب . ونظائر هذا كثيرة .
الوجه السادس : أن عليا لم يكن لهما جارية اسمها وفاطمة فضة ، بل ولا لأحد من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولا نعرف أنه كان بالمدينة جارية اسمها فضة ، ولا ذكر ذلك [ أحد من ] [63] أهل العلم ، الذين ذكروا أحوالهم : دقها وجلها . ولكن فضة هذه بمنزلة ابن عقب الذي يقال : إنه كان معلم الحسن ، وأنه أعطي تفاحة كان فيها علم الحوادث المستقبلة ، ونحو ذلك من الأكاذيب التي تروج والحسين [64] على الجهال . وقد أجمع أهل العلم على أنهما [65] لم يكن لهما معلم ، ولم يكن [66] في الصحابة أحد يقال له : ابن عقب .
وهذه الملاحم المنظومة [67] المنسوبة إلى ابن عقب ، هي من نظم بعض [ ص: 183 ] متأخري الجهال [ الرافضة ] [68] ، الذين كانوا زمن نور الدين وصلاح الدين ، لما كان كثير من الشام بأيدي النصارى ، ومصر بأيدي القرامطة الملاحدة بقايا بني عبيد ، فذكر من الملاحم ما يناسب تلك الأمور بنظم جاهل عامي .
وهكذا هذه الجارية فضة . وقد ثبت في الصحيحين عن علي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - خادما ، فعلمها أن تسبح عند المنام ثلاثا وثلاثين ، وتكبر ثلاثا وثلاثين وتحمد أربعا وثلاثين . وقال : " هذا خير لك من خادم " قال فاطمة : فما تركتهن منذ سمعتهن من النبي - صلى الله عليه وسلم - . قيل له : ولا ليلة علي صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين " . وهذا خبر صحيح باتفاق أهل العلم أن [69] ، وهو يقتضي أنه لم يعطها خادما . فإن كان بعد [70] ذلك حصل خادم [71] فهو ممكن ، لكن [ لم يكن ] [72] اسم خادمها فضة بلا ريب .