الوجه السابع : أنه قد ثبت في الصحيح عن بعض الأنصار أنه آثر [ ص: 184 ] ضيفه بعشائهم ، ونوم الصبية ، وبات هو وامرأته طاويين . فأنزل الله سبحانه وتعالى : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ سورة الحشر : 9 ] [1] .
وهذا المدح أعظم من المدح بقوله : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ) [ سورة الإنسان : 8 ] ، فإن هذا كقوله : ( وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين ) [ سورة البقرة : 177 ] .
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [2] وأنت صحيح شحيح ، تأمل البقاء ، وتخاف الفقر ، ولا تمهل ، حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان " أنه سئل : أي الصدقة أفضل ؟ قال : " أن تصدق [3] .
.
وقال تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ سورة آل عمران : 92 ] . فالتصدق بما يحبه الإنسان جنس تحته أنواع كثيرة . وأما الإيثار [4] مع الخصاصة فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة ، فإنه ليس كل متصدق محبا مؤثرا ، ولا كل متصدق يكون به خصاصة ، بل قد يتصدق بما يحب ، مع اكتفائه ببعضه ، مع محبة لا تبلغ به الخصاصة .
[ ص: 185 ] فإذا كان الله مدح الأنصار بإيثار الضيف ليلة بهذا المدح ، والإيثار المذكور في قصة أهل البيت هو أعظم من ذلك ، فكان ينبغي أن يكون المدح عليه أكثر ، إن كان هذا مما يمدح عليه . وإن كان مما لا يمدح عليه ، فلا يدخل في المناقب .
الثامن : أن في هذه القصة ما لا ينبغي نسبته إلى علي - رضي الله عنهما - ; فإنه خلاف المأمور به المشروع ، وهو إبقاء الأطفال ثلاثة أيام جياعا ، ووصالهم ثلاثة أيام . ومثل هذا الجوع قد يفسد العقل والبدن والدين . وفاطمة
وليس هذا مثل قصة الأنصاري ; فإن ذلك [5] بيتهم ليلة واحدة بلا عشاء ، وهذا قد يحتمله الصبيان ، بخلاف ثلاثة أيام بلياليها .
التاسع : أن في هذه القصة أن اليتيم قال : " استشهد والدي يوم العقبة " وهذا من الكذب الظاهر ، فإن ليلة العقبة لم يكن فيها قتال ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع الأنصار ليلة العقبة قبل الهجرة ، وقبل أن يؤمر بالقتال .
وهذا يدل على أن الحديث ، مع أنه كذب ، فهو من كذب أجهل الناس بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولو قال : " استشهد والدي يوم أحد " لكان أقرب .
العاشر : أن يقال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكفي أولاد من قتل معه . ولهذا قال لما سألته خادما : " لا أدع يتامى بدر وأعطيك " . لفاطمة
[ ص: 186 ] فقول القائل : إنه كان من يتامى المجاهدين الشهداء من لا يكفيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كذب عليه وقدح فيه .
الحادي عشر : أنه لم يكن في المدينة قط أسير يسأل الناس ، بل كان المسلمون يقومون بالأسير الذي يستأسرونه . فدعوى المدعي أن أسراهم كانوا محتاجين إلى مسألة الناس كذب عليهم وقدح فيهم . والأسراء الكثيرون [ إنما ] [6] كانوا يوم بدر ، قبل أن يتزوج علي - رضي الله عنها - وبعد ذلك فالأسرى في غاية القلة . بفاطمة
الثاني عشر : أنه لو كانت هذه القصة صحيحة ، وهي من الفضائل ، لم تستلزم أن يكون صاحبها أفضل الناس ، ولا أن يكون هو الإمام دون غيره . فقد كان جعفر أكثر إطعاما للمساكين من غيره ، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : . " أشبهت خلقي وخلقي " [7] ، 5 - 29 وكان يقول : ما احتذى النعال بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أفضل من أبو هريرة جعفر ، يعني في الإحسان إلى المساكين ، إلى غير ذلك من الفضائل . فلم يكن بذلك [8] أفضل من ولا غيره ، فضلا عن أن يكون مستحقا للإمامة . علي
الثالث عشر : أنه من المعلوم أن إنفاق الصديق أمواله أعظم وأحب إلى الله ورسوله ، فإن إطعام الجائع [9] من جنس الصدقة المطلقة ، التي يمكن كل واحد فعلها إلى يوم القيامة ، بل وكل أمة يطعمون جياعهم من المسلمين وغيرهم ، وإن كانوا لا يتقربون إلى الله بذلك ، بخلاف المؤمنين ، [ ص: 187 ] فإنهم يفعلون ذلك لوجه الله ، بهذا تميزوا . كما قال تعالى عنهم : ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) [ سورة الإنسان : 9 ] .
وأما إنفاق الصديق ونحوه ، فإنه كان في أول الإسلام ، لتخليص من آمن ، والكفار يؤذونه أو يريدون قتله مثل اشترائه بماله سبعة كانوا يعذبون في الله ، منهم ، حتى قال بلال : عمر سيدنا وأعتق سيدنا ، يعني أبو بكر بلالا [10] .
وإنفاقه على المحتاجين من أهل الإيمان وفي [11] نصر الإسلام ، حيث كان أهل الأرض قاطبة أعداء الإسلام . وتلك النفقة ما بقي يمكن مثلها . ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " [12] وهذا في النفقة التي اختصوا بها ، وأما جنس إطعام الجائع مطلقا ، فهذا مشترك يمكن فعله إلى يوم القيامة .