الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه السابع : أنه قد ثبت في الصحيح عن بعض الأنصار أنه آثر [ ص: 184 ] ضيفه بعشائهم ، ونوم الصبية ، وبات هو وامرأته طاويين . فأنزل الله سبحانه وتعالى : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة   ) [ سورة الحشر : 9 ] [1] .

                  وهذا المدح أعظم من المدح بقوله : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ) [ سورة الإنسان : 8 ] ، فإن هذا كقوله : ( وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين ) [ سورة البقرة : 177 ] .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الصدقة أفضل ؟ قال : " أن تصدق [2] وأنت صحيح شحيح ، تأمل البقاء ، وتخاف الفقر ، ولا تمهل ، حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان " [3] .

                  .

                  وقال تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ سورة آل عمران : 92 ] . فالتصدق بما يحبه الإنسان جنس تحته أنواع كثيرة . وأما الإيثار [4] مع الخصاصة فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة ، فإنه ليس كل متصدق محبا مؤثرا ، ولا كل متصدق يكون به خصاصة ، بل قد يتصدق بما يحب ، مع اكتفائه ببعضه ، مع محبة لا تبلغ به الخصاصة .

                  [ ص: 185 ] فإذا كان الله مدح الأنصار بإيثار الضيف ليلة بهذا المدح ، والإيثار المذكور في قصة أهل البيت هو أعظم من ذلك ، فكان ينبغي أن يكون المدح عليه أكثر ، إن كان هذا مما يمدح عليه . وإن كان مما لا يمدح عليه ، فلا يدخل في المناقب .

                  الثامن : أن في هذه القصة ما لا ينبغي نسبته إلى علي وفاطمة - رضي الله عنهما - ; فإنه خلاف المأمور به المشروع ، وهو إبقاء الأطفال ثلاثة أيام جياعا ، ووصالهم ثلاثة أيام . ومثل هذا الجوع قد يفسد العقل والبدن والدين .

                  وليس هذا مثل قصة الأنصاري ; فإن ذلك [5] بيتهم ليلة واحدة بلا عشاء ، وهذا قد يحتمله الصبيان ، بخلاف ثلاثة أيام بلياليها .

                  التاسع : أن في هذه القصة أن اليتيم قال : " استشهد والدي يوم العقبة " وهذا من الكذب الظاهر ، فإن ليلة العقبة لم يكن فيها قتال ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع الأنصار ليلة العقبة قبل الهجرة ، وقبل أن يؤمر بالقتال .

                  وهذا يدل على أن الحديث ، مع أنه كذب ، فهو من كذب أجهل الناس بأحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - . ولو قال : " استشهد والدي يوم أحد " لكان أقرب .

                  العاشر : أن يقال : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكفي أولاد من قتل معه . ولهذا قال لفاطمة لما سألته خادما : " لا أدع يتامى بدر وأعطيك " .

                  [ ص: 186 ] فقول القائل : إنه كان من يتامى المجاهدين الشهداء من لا يكفيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كذب عليه وقدح فيه .

                  الحادي عشر : أنه لم يكن في المدينة قط أسير يسأل الناس ، بل كان المسلمون يقومون بالأسير الذي يستأسرونه . فدعوى المدعي أن أسراهم كانوا محتاجين إلى مسألة الناس كذب عليهم وقدح فيهم . والأسراء الكثيرون [ إنما ] [6] كانوا يوم بدر ، قبل أن يتزوج علي بفاطمة - رضي الله عنها - وبعد ذلك فالأسرى في غاية القلة .

                  الثاني عشر : أنه لو كانت هذه القصة صحيحة ، وهي من الفضائل ، لم تستلزم أن يكون صاحبها أفضل الناس ، ولا أن يكون هو الإمام دون غيره . فقد كان جعفر أكثر إطعاما للمساكين من غيره ، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أشبهت خلقي وخلقي " . [7] ، 5 - 29 وكان أبو هريرة يقول : ما احتذى النعال بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أفضل من جعفر ، يعني في الإحسان إلى المساكين ، إلى غير ذلك من الفضائل . فلم يكن بذلك [8] أفضل من علي ولا غيره ، فضلا عن أن يكون مستحقا للإمامة .

                  الثالث عشر : أنه من المعلوم أن إنفاق الصديق أمواله أعظم وأحب إلى الله ورسوله ، فإن إطعام الجائع [9] من جنس الصدقة المطلقة ، التي يمكن كل واحد فعلها إلى يوم القيامة ، بل وكل أمة يطعمون جياعهم من المسلمين وغيرهم ، وإن كانوا لا يتقربون إلى الله بذلك ، بخلاف المؤمنين ، [ ص: 187 ] فإنهم يفعلون ذلك لوجه الله ، بهذا تميزوا . كما قال تعالى عنهم : ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) [ سورة الإنسان : 9 ] .

                  وأما إنفاق الصديق ونحوه ، فإنه كان في أول الإسلام ، لتخليص من آمن ، والكفار يؤذونه أو يريدون قتله مثل اشترائه بماله سبعة كانوا يعذبون في الله ، منهم بلال ، حتى قال عمر : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ، يعني بلالا [10] .

                  وإنفاقه على المحتاجين من أهل الإيمان وفي [11] نصر الإسلام ، حيث كان أهل الأرض قاطبة أعداء الإسلام . وتلك النفقة ما بقي يمكن مثلها . ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " [12] وهذا في النفقة التي اختصوا بها ، وأما جنس إطعام الجائع مطلقا ، فهذا مشترك يمكن فعله إلى يوم القيامة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية