فصل
قال الرافضي [1] : البرهان الثالث والعشرون : قوله تعالى : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) [ سورة الأنفال : 62 ] من طريق أبي نعيم عن قال : مكتوب على العرش لا إله إلا الله وحده لا شريك له أبي هريرة [2] ، محمد عبدي ورسولي أيدته بعلي بن أبي طالب [3] ، وذلك قوله في كتابه : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) ، يعني بعلي [4] ، وهذه من أعظم الفضائل التي لم تحصل لغيره من الصحابة [5] ، فيكون هو الإمام " .
[ ص: 195 ] والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل . وأما مجرد العزو إلى رواية أبي نعيم فليس [6] حجة بالاتفاق . وأبو نعيم له كتاب مشهور في " فضائل الصحابة " [7] ، وقد ذكر قطعة من الفضائل في أول " الحلية " ، فإن كانوا يحتجون بما رواه ، فقد روى في فضائل أبي بكر وعمر ما ينقض بنيانهم ويهدم أركانهم ، وإن كانوا [ لا ] وعثمان [8] يحتجون بما رواه فلا يعتمدون على نقله ، ونحن نرجع فيما رواه - هو وغيره - إلى أهل العلم بهذا الفن والطرق التي بها يعلم صدق الحديث وكذبه ، من النظر في إسناده ورجاله ، وهل هم ثقات سمع بعضهم من بعض أم لا ؟ وننظر إلى شواهد الحديث وما يدل [ عليه ] [9] على أحد الأمرين ، لا فرق عندنا بين ما يروى في فضائل أو فضائل غيره ، فما ثبت أنه صدق صدقناه ، وما كان كذبا كذبناه . علي
فنحن نجيء بالصدق ونصدق به ، لا نكذب ، ولا نكذب صادقا . وهذا معروف عند أئمة السنة . وأما من افترى على الله كذبا أو كذب [10] بالحق ، فعلينا أن نكذبه في كذبه وتكذيبه للحق ، كأتباع مسيلمة [ ص: 196 ] الكذاب والمكذبين بالحق الذي جاء به الرسول واتبعه عليه المؤمنون به : صديقه الأكبر وسائر المؤمنين .
ولهذا نقول في الوجه الثاني : إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث [11] . وهذا الحديث - وأمثاله - مما جزمنا أنه كذب موضوع نشهد أنه [12] كذب موضوع ، فنحن والله الذي لا إله إلا هو - نعلم علما ضروريا في قلوبنا ، لا سبيل لنا إلى دفعه ، أن هذا الحديث [ كذب ] [13] ما حدث به ، وهكذا نظائره أبو هريرة [14] مما نقول فيه مثل ذلك .
وكل من كان عارفا بعلم الحديث وبدين الإسلام يعرف ، وكل من لم يكن له بذلك علم لا يدخل معنا ، كما أن أهل الخبرة بالصرف يحلفون على ما يعلمون أنه مغشوش ، وإن كان من لا خبرة له لا يميز بين المغشوش والصحيح .
الثالث : أن الله تعالى قال : ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) [ سورة الأنفال : 62 - 63 ] . وهذا نص في أن المؤمنين عدد مؤلف بين قلوبهم ، واحد [ منهم ] وعلي [15] ليس له قلوب يؤلف بينها .
والمؤمنون [16] صيغة [17] جمع ، فهذا نص صريح لا يحتمل أنه أراد به واحدا [ ص: 197 ] معينا ، وكيف يجوز أن يقال : المراد بهذا وحده ؟ علي
الوجه الرابع : أن يقال : من المعلوم بالضرورة والتواتر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان قيام دينه بمجرد موافقة ، فإن علي كان عليا [18] من أول من أسلم ، فكان الإسلام ضعيفا ، فلولا أن الله هدى من هداه إلى الإيمان والهجرة والنصرة ، لم يحصل وحده شيء من التأييد ، ولم يكن بعلي [19] إيمان الناس وهجرتهم ولا نصرتهم على يد ، ولم يكن علي منتصبا : لا علي بمكة ولا بالمدينة للدعوة إلى الإيمان ، كما كان منتصبا لذلك ، ولم ينقل أنه أسلم على يد أبو بكر أحد من السابقين الأولين ، لا من علي المهاجرين ولا من الأنصار ، بل لا نعرف أنه أسلم على يد أحد من الصحابة ، لكن لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي اليمن قد يكون قد أسلم على يديه [20] من أسلم ، إن كان وقع ذلك وليس أولئك من الصحابة ، وإنما أسلم أكابر الصحابة على يد ، ولا كان يدعو المشركين ويناظرهم ، كما كان أبي بكر يدعوهم ويناظرهم ، ولا كان المشركون يخافونه ، كما يخافون أبو بكر أبا بكر . وعمر
بل قد ثبت في الصحاح والمساند والمغازي ، واتفق عليه الناس ، أنه أحد وانهزم المسلمون ، صعد على أبو سفيان [21] الجبل وقال : أفي القوم محمد ؟ [ أفي القوم محمد ؟ ] [22] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 198 ] " لا تجيبوه " . فقال : أفي القوم ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تجيبوه " فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة ابن الخطاب ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تجيبوه " . فقال لأصحابه : أما هؤلاء فقد كفيتموهم . فلم يملك عمر [23] - رضي الله عنه - نفسه أن قال : كذبت يا عدو الله ، إن الذين عددت [24] لأحياء ، وقد بقي لك ما يسوءك . فقال : يوم بيوم بدر . فقال : لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . ثم أخذ عمر يرتجز ويقول : أبو سفيان
اعل هبل . . اعل هبل .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألا تجيبوه [25] ؟ " فقالوا : وما نقول ؟ قال : " قولوا : الله أعلى وأجل " فقال : إن لنا العزى ولا عزى لكم . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ألا تجيبوه [26] " فقالوا : وما نقول ؟ قال : " قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم " فقال : ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني " لما كان يوم [27] .
فهذا جيش المشركين إذ ذاك لا يسأل إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، فلو كان القوم خائفين من وعمر أو علي أو عثمان أو طلحة أو نحوهم ، أو كان للرسول تأييد بهؤلاء ، كتأييده الزبير بأبي بكر ، لكان يسأل عنهم كما يسأل عن هؤلاء ، فإن المقتضي للسؤال وعمر [28] قائم ، والمانع [ ص: 199 ] منتف ، ومع وجود القدرة والداعي وانتفاء الصارف [29] يجب معه [30] وجود الفعل .
الوجه الخامس : أنه لم يكن في الإسلام أثر حسن ، إلا ولغيره من الصحابة مثله ، ولبعضهم آثار أعظم من آثاره . وهذا معلوم لمن عرف السيرة الصحيحة الثابتة بالنقل . وأما من يأخذ بنقل الكذابين وأحاديث الطرقية ، فباب الكذب مفتوح ، وهذا الكذب لعلي [31] يتعلق بالكذب على الله ، ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه ) [ سورة العنكبوت : 68 ] .
ومجموع المغازي التي كان فيها القتال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع مغاز ، والمغازي كلها بضع وعشرون غزاة [32] ، وأما السرايا فقد قيل : إنها تبلغ سبعين [33] .
ومجموع من قتل من الكفار في غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبلغون ألفا أو أكثر أو أقل ، ولم يقتل [ ] علي [34] منهم عشرهم ولا نصف عشرهم ، وأكثر السرايا لم يكن يخرج فيها . وأما بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يشهد شيئا من الفتوحات : لا هو ولا ولا عثمان ، [ ص: 200 ] ولا طلحة ، إلا أن يخرجوا مع الزبير حين خرج عمر [35] إلى الشام . وأما فقد شهد فتح الزبير مصر ، وسعد شهد فتح القادسية ، وأبو عبيدة فتح الشام .
فكيف يكون تأييد الرسول بواحد من أصحابه [36] دون سائرهم والحال هذه ؟ وأين تأييده بالمؤمنين كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه تحت الشجرة والتابعين لهم بإحسان ؟
وقد كان المسلمون يوم بدر ثلاثمائة وثلاث عشر ، ويوم أحد نحو [37] سبعمائة ، ويوم الخندق أكثر من ألف أو قريبا من ذلك ، ويوم بيعة الرضوان ألفا وأربعمائة ، وهم الذين شهدوا فتح خيبر ، ويوم فتح مكة كانوا عشرة آلاف ، ويوم حنين كانوا اثني عشر ألفا : تلك العشرة [38] ، والطلقاء ألفان .
وأما تبوك فلا يحصى من شهدها ، بل كانوا أكثر من ثلاثين [ ألفا ] [39] . وأما حجة الوداع فلا يحصى من شهدها معه ، وكان قد أسلم على عهده [40] أضعاف [41] من رآه وكان من أصحابه ، وأيده الله بهم في حياته باليمن وغيرها . وكل هؤلاء من المؤمنين الذين أيده الله بهم ، بل كل من آمن وجاهد إلى يوم القيامة دخل في هذا المعنى [42] .