الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الخامس والعشرون : قوله تعالى : [ ص: 212 ] ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )   [ سورة المائدة : 54 ] قال الثعلبي : إنما [2] نزلت في علي ، وهذا يدل [3] على أنه أفضل ، فيكون هو الإمام " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا كذب على الثعلبي ، فإنه قال في تفسيره [ في ] هذه الآية [4] : " قال علي وقتادة والحسن : إنهم أبو بكر وأصحابه . وقال مجاهد : هم [5] أهل اليمن " . وذكر حديث عياض بن غنم : أنهم أهل اليمن ، وذكر الحديث : " أتاكم أهل اليمن " . فقد نقل الثعلبي أن عليا فسر هذه الآية بأنهم أبو بكر وأصحابه .

                  وأما أئمة التفسير ، فروى الطبري [6] عن المثنى ، حدثنا عبد الله بن هاشم [7] ، حدثنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، [ عن الضحاك ] [8] ، عن أبي أيوب ، عن علي [ في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ) [ سورة المائدة : 54 ] [9] قال : علم الله المؤمنين ، ووقع [10] معنى [11] السوء [ ص: 213 ] على الحشو الذي [12] فيهم [ من ] المنافقين [13] ومن في علمه أن يرتدوا [14] ، فقال : ( من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله ) [15] : المرتدة في دورهم [16] ، ( بقوم يحبهم ويحبونه ) : بأبي بكر وأصحابه - رضي الله عنهم - .

                  وذكر بإسناده هذا القول عن قتادة والحسن والضحاك وابن جريج [17] ، وذكر قوم أنهم الأنصار [18] ، وعن آخرين أنهم أهل اليمن [19] ، ورجح هذا الآخر وأنهم رهط أبي موسى [20] ، قال [21] : " ولولا صحة الخبر بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان القول عندي [ في ذلك ] إلا قول [22] من قال : هم أبو بكر وأصحابه " [23] قال : " لما ارتد المرتدون جاء الله بهؤلاء على عهد عمر - رضي الله عنه - [24] .

                  [ ص: 214 ] الثاني : أن هذا قول بلا حجة ، فلا يجب قبوله .

                  الثالث : أن هذا معارض بما [25] هو أشهر منه وأظهر ، وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه ، الذين قاتلوا معه أهل الردة . وهذا هو المعروف [ عند الناس ] [26] كما تقدم . لكن هؤلاء الكذابون أرادوا أن يجعلوا الفضائل التي جاءت في أبي بكر يجعلونها [27] لعلي ، وهذا من المكر السيئ الذي لا يحيق إلا بأهله .

                  وحدثني الثقة من أصحابنا أنه اجتمع بشيخ أعرفه ، وكان فيه دين وزهد وأحوال معروفة لكن كان فيه تشيع . قال : وكان عنده كتاب يعظمه ، ويدعي أنه من الأسرار ، وأنه أخذه من خزائن الخلفاء ، وبالغ في وصفه . فلما أحضره ، فإذا به كتاب [28] قد كتب بخط حسن ، وقد عمدوا إلى الأحاديث التي في البخاري ومسلم جميعها في فضائل أبي بكر وعمر ونحوهما جعلوها لعلي . ولعل هذا الكتاب كان من خزائن بني عبيد المصريين ، فإن خواصهم كانوا ملاحدة زنادقة غرضهم قلب الإسلام ، وكانوا قد وضعوا من الأحاديث المفتراة التي يناقضون بها الدين ما لا يعلمه إلا الله .

                  ومثل هؤلاء الجهال يظنون أن الأحاديث التي في البخاري ومسلم إنما أخذت عن البخاري ومسلم  ، كما يظن مثل ابن الخطيب ونحوه ممن لا يعرف حقيقة الحال ، وأن البخاري ومسلما كان الغلط يروج عليهما ، أو [ ص: 215 ] كانا يتعمدان [29] الكذب ، ولا يعلمون أن قولنا : رواه البخاري ومسلم علامة لنا على [ ثبوت ] [30] صحته ، لا أنه [31] كان صحيحا بمجرد رواية البخاري ومسلم ، بل أحاديث البخاري ومسلم رواها غيرهما [32] من العلماء والمحدثين من لا يحصي عدده إلا الله ، ولم ينفرد واحد منهما بحديث ، بل ما من حديث إلا وقد رواه قبل زمانه وفي زمانه وبعد زمانه طوائف ، ولو لم يخلق البخاري ومسلم لم ينقص من الدين شيء ، وكانت تلك الأحاديث موجودة بأسانيد يحصل بها المقصود وفوق المقصود .

                  وإنما قولنا : رواه [33] البخاري ومسلم كقولنا : قرأه [34] القراء السبعة . والقرآن منقول بالتواتر ، لم يختص هؤلاء السبعة بنقل شيء منه ، وكذلك التصحيح لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري ومسلما ، بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقى بالقبول  ، وكذلك في عصرهما وكذلك بعدهما قد نظر [35] أئمة هذا الفن في كتابيهما ، ووافقوهما [36] على تصحيح [37] ما صححاه ، إلا مواضع يسيرة ، نحو عشرين حديثا ، غالبها في مسلم ، انتقدها عليهما طائفة من الحفاظ ، وهذه [ ص: 216 ] المواضع المنتقدة غالبها في مسلم ، وقد انتصر طائفة لهما فيها ، وطائفة قررت قول المنتقدة [38] .

                  والصحيح التفصيل ; فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب ، مثل حديث أم حبيبة ، وحديث خلق الله البرية يوم السبت ، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر .

                  وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري ، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد ، ولا يكاد يروي لفظا فيه انتقاد ، إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد ، فما في كتابه لفظ منتقد ، إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد .

                  وفي الجملة من نقد سبعة آلاف درهم ، فلم يرج عليه [39] فيها إلا دراهم يسيرة ، ومع هذا فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة ، فهذا إمام في صنعته . والكتابان سبعة آلاف حديث وكسر [40] .

                  والمقصود أن أحاديثهما انتقدها [41] الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم ، ورواها خلائق لا يحصي عددهم إلا الله ، فلم ينفردا لا برواية ولا بتصحيح ، والله - سبحانه وتعالى - هو الكفيل بحفظ [42] هذا الدين ، كما قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ سورة الحجر : 9 ] .

                  وهذا مثل غالب المسائل التي توجد في الكتب المصنفة في مذاهب [43] الأئمة مثل القدوري والتنبيه والخرقي [44] والجلاب ، غالب ما فيها إذا [ ص: 217 ] قيل : ذكره فلان ، علم أنه مذهب ذلك الإمام ، وقد نقل ذلك سائر أصحابه ، وهم خلق كثير ينقلون مذهبه بالتواتر .

                  وهذه الكتب فيها مسائل انفرد بها بعض أهل المذهب ، وفيها نزاع بينهم ، لكن غالبا هو قول أهل المذهب . وأما البخاري ومسلم فجمهور ما فيهما اتفق عليه أهل العلم بالحديث ، الذين هم أشد عناية بألفاظ الرسول وضبطا لها ومعرفة بها من أتباع الأئمة لألفاظ أئمتهم ، وعلماء الحديث أعلم بمقاصد الرسول [ في ألفاظه ] [45] من أتباع الأئمة بمقاصد أئمتهم ، والنزاع بينهم [46] في ذلك أقل من تنازع أتباع الأئمة في مذاهب أئمتهم .

                  والرافضة - لجهلهم - يظنون أنهم إذا قبلوا ما في نسخة من ذلك ، وجعلوا فضائل الصديق لعلي ، أن ذلك يخفى على أهل العلم ، الذين حفظ الله بهم الذكر .

                  الرابع : أن يقال : إن الذي تواتر عند الناس أن الذي قاتل أهل الردة هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه   - الذي قاتل مسيلمة الكذاب المدعي للنبوة وأتباعه بني حنيفة وأهل اليمامة . قد قيل : كانوا نحو مائة ألف أو أكثر [47] ، وقاتل طليحة الأسدي ، وكان قد ادعى النبوة بنجد ، واتبعه من أسد وتميم وغطفان ما شاء الله ، ادعت النبوة سجاح ، امرأة تزوجها مسيلمة الكذاب ، فتزوج الكذاب بالكذابة .

                  [ ص: 218 ] وأيضا فكان من العرب من ارتد عن الإسلام ، ولم يتبع متنبئا كذابا .

                  ومنهم قوم أقروا بالشهادتين ، لكن امتنعوا من أحكامهما كمانعي الزكاة . وقصص هؤلاء مشهورة متواترة يعرفها كل من له بهذا الباب أدنى معرفة .

                  والمقاتلون للمرتدين [ هم من الذين يحبهم الله ويحبونه ] [48] ، وهم أحق الناس بالدخول في هذه الآية ، وكذلك الذين قاتلوا سائر الكفار من الروم والفرس . وهؤلاء أبو بكر وعمر ومن اتبعهما من أهل اليمن وغيرهم . ولهذا روي أن هذه الآية لما نزلت سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هؤلاء ، فأشار إلى أبي موسى الأشعري ، وقال : " هم قوم هذا " [49] .

                  فهذا أمر يعرف بالتواتر والضرورة : أن الذين أقاموا الإسلام وثبتوا عليه حين الردة ، وقاتلوا المرتدين والكفار ، هم داخلون في قوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) [ سورة المائدة : 54 ] .

                  وأما علي - رضي الله عنه - فلا ريب أنه ممن يحب الله ويحبه الله ، لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان ، ولا * كان جهاده للكفار والمرتدين أعظم من جهاد هؤلاء ، ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم * [50] مما حصل بهؤلاء ، بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام ، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير جزاء ، فهم [ ص: 219 ] الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون ، الذين قضوا بالحق ، وبه كانوا يعدلون .

                  وأما أن يأتي إلى أئمة الجماعة الذين كان نفعهم في الدين والدنيا أعظم ، فيجعلهم كفارا أو فساقا [51] ظلمة ، ويأتي إلى من لم يجر على يديه من الخير مثل ما جرى على يد واحد منهم ، * فيجعله الله أو شريكا لله ، أو شريك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو الإمام المعصوم الذي لا يؤمن إلا من * [52] جعله معصوما منصوصا عليه ، ومن خرج عن هذا فهو كافر ، ويجعل الكفار المرتدين الذي قاتلهم أولئك كانوا مسلمين ، ويجعل المسلمين الذين يصلون الصلوات الخمس ، ويصومون شهر رمضان ، ويحجون البيت ، ويؤمنون بالقرآن يجعلهم [53] كفارا لأجل قتال هؤلاء .

                  فهذا عمل أهل الجهل والكذب والظلم والإلحاد في دين الإسلام ، عمل من لا عقل له ولا دين ولا إيمان .

                  والعلماء دائما يذكرون أن الذي ابتدع الرفض كان زنديقا ملحدا ، مقصوده إفساد [ دين ] [54] الإسلام . ولهذا [ صار ] [55] الرفض مأوى الزنادقة الملحدين من الغالية والمعطلة [56] ، كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم .

                  وأول الفكرة [57] آخر العمل ، فالذي ابتدع الرفض كان مقصوده إفساد [58] [ ص: 220 ] دين الإسلام ، ونقض عراه  ، وقلعه بعروشه آخرا ، لكن صار يظهر منه ما يكنه [59] من ذلك ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .

                  وهذا معروف عن [60] ابن سبأ وأتباعه [61] ، وهو الذي ابتدع النص في علي ، وابتدع أنه معصوم . فالرافضة [62] الإمامية هم أتباع المرتدين ، وغلمان الملحدين ، وورثة المنافقين ، لم يكونوا أعيان المرتدين الملحدين .

                  الوجه الخامس : أن يقال : هب أن الآية نزلت في علي ، أيقول القائل : أنها مختصة به ، ولفظها يصرح بأنهم جماعة ؟ قال تعالى : ( من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) [ سورة المائدة : 54 ] إلى قوله : ( لومة لائم ) . أفليس هذا صريحا في أن هؤلاء ليسوا رجلا ، فإن الرجل [63] لا يسمى قوما في لغة العرب : لا حقيقة ولا مجازا .

                  ولو قال : المراد هو وشيعته .

                  لقيل : إذا كانت الآية أدخلت مع علي غيره ، فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها ممن لم يقاتل إلا أهل القبلة ، فلا ريب أن أهل اليمن ، الذين قاتلوا مع أبي بكر وعمر وعثمان أحق بالدخول فيها من الرافضة ، الذين يوالون اليهود والنصارى والمشركين ، ويعادون السابقين الأولين .

                  فإن قيل : الذين قاتلوا مع علي كان كثير منهم من أهل اليمن .

                  قيل : والذين قاتلوه أيضا كان كثير منهم من أهل اليمن . فكلا [ ص: 221 ] العسكرين كانت اليمانية والقيسية فيهم كثيرة [64] جدا ، وأكثر أذواء اليمن كانوا مع معاوية ، كذي كلاع [65] وذي عمرو ، وذي رعين ، ونحوهم . وهم الذين يقال لهم : الذوين .

                  كما قال الشاعر :


                  وما أعني بذلك أصغريهم ولكني أريد به الذوينا

                  .

                  الوجه السادس : قوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) لفظ مطلق ، ليس فيه تعيين . وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائنا ما كان ، لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعلي . وإذا لم يكن مختصا بإحداهما ، لم يكن هذا من خصائصه ، فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه ، فضلا عن أن يستوجب بذلك الإمامة .

                  بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد [ عن الدين ] [66] إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوما يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، يجاهدون هؤلاء المرتدين .

                  والردة قد تكون عن أصل الإسلام ، كالغالية من النصيرية والإسماعيلية ، فهؤلاء مرتدون باتفاق أهل السنة والشيعة ، وكالعباسية [67] .

                  [ ص: 222 ] وقد تكون الردة عن بعض الدين ، كحال أهل البدع الرافضة وغيرهم . والله تعالى يقيم قوما يحبهم ويحبونه ، ويجاهدون من ارتد عن الدين ، أو عن بعضه ، كما يقيم من يجاهد الرافضة المرتدين عن الدين ، أو عن بعضه ، في كل زمان .

                  والله سبحانه المسئول أن يجعلنا من الذين يحبهم ويحبونه ، الذين يجاهدون المرتدين [ وأتباع المرتدين ] [68] ، ولا يخافون لومة لائم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية