الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الثامن والعشرون : ما رواه أحمد بن [ ص: 232 ] حنبل عن ابن عباس قال : ليس من آية في القرآن : ( ياأيها الذين آمنوا ) إلا علي رأسها وأميرها ، وشريفها وسيدها ، ولقد عاتب الله تعالى أصحاب محمد [2] في القرآن ، وما ذكر عليا إلا بخير . وهذا [3] يدل على أنه أفضل ، فيكون هو الإمام " .

                  والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل . وليس هذا في مسند أحمد ، ولا مجرد روايته له - لو رواه - في " الفضائل " يدل على أنه صدق ، فكيف ولم يروه أحمد : لا في المسند ، ولا في " الفضائل " وإنما هو من زيادات القطيعي ، رواه [4] عن إبراهيم عن شريك الكوفي حدثنا زكريا بن يحيى الكسائي حدثنا عيسى [5] عن علي بن بذيمة [6] ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . ومثل هذا الإسناد لا يحتج به باتفاق أهل العلم ; فإن زكريا بن يحيى الكسائي : قال فيه يحيى : " رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها " وقال الدارقطني : " متروك " . وقال ابن عدي : " كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة " [7] .

                  الثاني : أن هذا كذب على ابن عباس ، والمتواتر عنه أنه كان يفضل عليه أبا بكر وعمر ، وله معايبات يعيب بها عليا ، ويأخذ عليه في أشياء من [ ص: 233 ] أموره ، حتى إنه لما حرق الزنادقة الذين ادعوا فيه الإلهية قال : لو كنت أنا لم أحرقهم ، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعذب بعذاب الله ، ولضربت أعناقهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخاري وغيره [8] . ولما بلغ عليا ذلك قال : ويح أم ابن عباس .

                  ومن الثابت عن ابن عباس أنه كان يفتي - إذا لم يكن معه نص - بقول أبي بكر وعمر . فهذا اتباعه لأبي بكر وعمر ، وهذه معارضته لعلي .

                  وقد ذكر غير واحد ، منهم الزبير بن بكار مجاوبته لعلي لما أخذ ما أخذ من مال البصرة ، فأرسل إليه رسالة فيها تغليط عليه ، فأجاب عليا [9] بجواب يتضمن أن ما فعلته دون ما فعلته من سفك دماء المسلمين على الإمارة ونحو ذلك .

                  الثالث : أن هذا الكلام ليس فيه مدح لعلي ; فإن الله كثيرا ما يخاطب الناس بمثل هذا في مقام عتاب ، كقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ سورة الصف : 2 - 3 ] ، فإن كان علي رأس هذه الآية ; فقد وقع منه هذا الفعل الذي أنكره الله وذمه .

                  وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) [ سورة الممتحنة : 1 ] . وثبت في الصحاح أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بمكة ، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا والزبير ليأتيا بالمرأة [10] التي كان معها الكتاب [11] ، وعلي كان بريئا [ ص: 234 ] من ذنب حاطب ، فكيف يجعل رأس المخاطبين الملامين على هذا الذنب ؟ !

                  وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ) [ سورة النساء : 94 ] . وهذه الآية نزلت في الذين وجدوا رجلا في غنيمة له ، فقال : إني مسلم ، فلم يصدقوه وأخذوا غنمه ، فأمرهم الله - سبحانه وتعالى - بالتثبت والتبين ، ونهاهم عن تكذيب مدعي الإسلام طمعا في دنياه . وعلي - رضي الله عنه - بريء من ذنب هؤلاء ، فكيف يقال هو رأسهم ؟ ! وأمثال هذا كثير في القرآن .

                  الرابع : هو ممن شمله لفظ الخطاب ، وإن لم يكن هو سبب الخطاب ، فلا ريب أن اللفظ شمله كما يشمل [12] غيره . وليس في لفظ الآية تفريق بين مؤمن ومؤمن .

                  الخامس : أن قول القائل عن بعض الصحابة : أنه رأس الآيات وأميرها وشريفها وسيدها ، كلام لا حقيقة له . فإن أريد أنه أول من خوطب بها ، فليس كذلك ; فإن الخطاب يتناول المخاطبين تناولا واحدا ، لا يتقدم بعضهم بما تناوله عن بعض .

                  وإن قيل : إنه أول من عمل بها ، فليس كذلك ; فإن في الآيات آيات قد عمل بها من قبل علي ، وفيها آيات لم يحتج علي أن يعمل بها .

                  وإن قيل : إن تناولها لغيره أو عمل غيره بها مشروط به ، كالإمام في الجمعة ، فليس الأمر كذلك ، فإن شمول الخطاب لبعضهم ليس مشروطا [ ص: 235 ] بشموله لآخرين ، ولا وجوب العمل على بعضهم مشروط على آخرين بوجوبه .

                  وإن قيل : إنه أفضل من عني بها ، فهذا يبنى على كونه أفضل الناس . فإن ثبت ذلك فلا حاجة إلى الاستدلال بهذه الآية ، وإن لم يثبت لم يجز الاستدلال بها ، فكان الاستدلال بها باطلا على التقديرين .

                  وغاية ما عندكم أن تذكروا أن ابن عباس كان يفضل عليا ، وهذا مع أنه [13] هذا كذب على ابن عباس ، وخلاف المعلوم عنه ، فلو قدر أنه قال ذلك - مع مخالفة جمهور الصحابة - لم يكن حجة .

                  السادس : أن قول القائل : لقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير ، كذب معلوم ; فإنه لا يعرف أن الله عاتب أبا بكر في القرآن ، بل ولا أنه ساء رسول [14] الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال في خطبته : " أيها الناس ، اعرفوا لأبي بكر حقه ; فإنه لم يسؤني يوما قط " [15] .

                  والثابت من الأحاديث الصحيحة يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتصر لأبي بكر ، وينهى الناس عن معارضته ، ولم ينقل أنه ساءه ، كما نقل ذلك عن غيره ، فإن عليا لما خطب بنت أبي جهل خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطبة المعروفة [16] ، وما حصل مثل هذا في حق أبي بكر قط .

                  [ ص: 236 ] وأيضا فعلي لم يكن يدخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور العامة كما كان يدخل معه أبو بكر ، مثل المشاورة في ولايته وحروبه وإعطائه وغير ذلك ، فإن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الوزيرين له ، شاورهما [17] في أسرى بدر ما يصنع بهم ، وشاورهما [18] في وفد بني تميم لمن يولي عليهم ، وشاورهما [19] في غير ذلك من الأمور العامة يخصهما بالشورى .

                  وفي الصحيحين عن علي أن عمر لما مات قال له : " والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك ; فإني كنت كثيرا ما أسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر " [20] .

                  وكان يشاور أبا بكر [21] بأمور حروبه يخصه ، كما شاوره في قصة الإفك ، كما [22] استشار أسامة بن زيد ، وكما سأل بريرة . وهذا أمر يخصه ; فإنه لما اشتبه عليه أمر عائشة - رضي الله عنها - ، وتردد هل يطلق لما بلغه عنها أم يمسكها ، صار يسأل عنها بريرة لتخبره بباطن أمرها ، ويشاور فيها عليا : أيمسكها أم يطلقها ؟ فقال له أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وقال علي : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، واسأل الجارية تصدقك . ومع [ ص: 237 ] هذا فنزل القرآن ببراءتها وإمساكها ، موافقة لما أشار به أسامة بن زيد حب النبي - صلى الله عليه وسلم - [23] ، وكان عمر يدخل في مثل هذه الشورى ، ويتكلم مع نسائه فيما يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى قالت له أم سلمة : يا عمر لقد دخلت في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين نسائه .

                  وأما الأمور العامة الكلية التي تعم المسلمين ، إذا لم يكن فيها وحي خاص ، فكان يشاور فيها أبا بكر وعمر ، وإن دخل غيرهما في الشورى ، لكن هما الأصل في الشورى ، وكان عمر تارة ينزل القرآن بموافقته فيما يراه ، وتارة يتبين له الحق في خلاف ما رآه فيرجع عنه .

                  وأما أبو بكر فلم يعرف أنه أنكر عليه شيئا [24] ، ولا كان أيضا يتقدم في شيء ، اللهم إلا لما تنازع هو وعمر فيمن يولى من بني تميم ، حتى ارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله هذه الآية : ( ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ) الآية [ سورة الحجرات : 2 ] ، وليس تأذي النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بأكثر من تأذيه في قصة فاطمة .

                  وقد قال تعالى : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) [ سورة الأحزاب : 23 ] . وقد أنزل الله تعالى في علي : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ سورة النساء : 43 ] لما صلى فقرأ وخلط [25] .

                  [ ص: 238 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) لما قال له ولفاطمة : " ألا تصليان ؟ " فقال : إنما أنفسنا بيد الله - سبحانه وتعالى - " [26] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية