فصل
قال الرافضي [1] : " البرهان الثامن والعشرون : ما رواه أحمد بن [ ص: 232 ] حنبل عن ابن عباس قال : ليس من آية في القرآن : ( ياأيها الذين آمنوا ) إلا علي رأسها وأميرها ، وشريفها وسيدها ، ولقد عاتب الله تعالى أصحاب محمد [2] في القرآن ، وما ذكر عليا إلا بخير . وهذا [3] يدل على أنه أفضل ، فيكون هو الإمام " .
والجواب من وجوه : أحدها : المطالبة بصحة النقل . وليس هذا في مسند أحمد ، ولا مجرد روايته له - لو رواه - في " الفضائل " يدل على أنه صدق ، فكيف ولم يروه أحمد : لا في المسند ، ولا في " الفضائل " وإنما هو من زيادات القطيعي ، رواه [4] عن إبراهيم عن شريك الكوفي حدثنا زكريا بن يحيى الكسائي حدثنا عيسى [5] عن علي بن بذيمة [6] ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . ومثل هذا الإسناد لا يحتج به باتفاق أهل العلم ; فإن زكريا بن يحيى الكسائي : قال فيه يحيى : " رجل سوء يحدث بأحاديث يستأهل أن يحفر له بئر فيلقى فيها " وقال الدارقطني : " متروك " . وقال ابن عدي : " كان يحدث بأحاديث في مثالب الصحابة " [7] .
الثاني : أن هذا كذب على ابن عباس ، والمتواتر عنه أنه كان يفضل عليه أبا بكر وعمر ، وله معايبات يعيب بها عليا ، ويأخذ عليه في أشياء من [ ص: 233 ] أموره ، حتى إنه لما حرق الزنادقة الذين ادعوا فيه الإلهية قال : لو كنت أنا لم أحرقهم ، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعذب بعذاب الله ، ولضربت أعناقهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخاري وغيره [8] . ولما بلغ عليا ذلك قال : ويح أم ابن عباس .
ومن الثابت عن ابن عباس أنه كان يفتي - إذا لم يكن معه نص - بقول أبي بكر وعمر . فهذا اتباعه لأبي بكر وعمر ، وهذه معارضته لعلي .
وقد ذكر غير واحد ، منهم الزبير بن بكار مجاوبته لعلي لما أخذ ما أخذ من مال البصرة ، فأرسل إليه رسالة فيها تغليط عليه ، فأجاب عليا [9] بجواب يتضمن أن ما فعلته دون ما فعلته من سفك دماء المسلمين على الإمارة ونحو ذلك .
الثالث : أن هذا الكلام ليس فيه مدح لعلي ; فإن الله كثيرا ما يخاطب الناس بمثل هذا في مقام عتاب ، كقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) [ سورة الصف : 2 - 3 ] ، فإن كان علي رأس هذه الآية ; فقد وقع منه هذا الفعل الذي أنكره الله وذمه .
وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) [ سورة الممتحنة : 1 ] . وثبت في الصحاح أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بمكة ، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا والزبير ليأتيا بالمرأة [10] التي كان معها الكتاب [11] ، وعلي كان بريئا [ ص: 234 ] من ذنب حاطب ، فكيف يجعل رأس المخاطبين الملامين على هذا الذنب ؟ !
وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ) [ سورة النساء : 94 ] . وهذه الآية نزلت في الذين وجدوا رجلا في غنيمة له ، فقال : إني مسلم ، فلم يصدقوه وأخذوا غنمه ، فأمرهم الله - سبحانه وتعالى - بالتثبت والتبين ، ونهاهم عن تكذيب مدعي الإسلام طمعا في دنياه . وعلي - رضي الله عنه - بريء من ذنب هؤلاء ، فكيف يقال هو رأسهم ؟ ! وأمثال هذا كثير في القرآن .
الرابع : هو ممن شمله لفظ الخطاب ، وإن لم يكن هو سبب الخطاب ، فلا ريب أن اللفظ شمله كما يشمل [12] غيره . وليس في لفظ الآية تفريق بين مؤمن ومؤمن .
الخامس : أن قول القائل عن بعض الصحابة : أنه رأس الآيات وأميرها وشريفها وسيدها ، كلام لا حقيقة له . فإن أريد أنه أول من خوطب بها ، فليس كذلك ; فإن الخطاب يتناول المخاطبين تناولا واحدا ، لا يتقدم بعضهم بما تناوله عن بعض .
وإن قيل : إنه أول من عمل بها ، فليس كذلك ; فإن في الآيات آيات قد عمل بها من قبل علي ، وفيها آيات لم يحتج علي أن يعمل بها .
وإن قيل : إن تناولها لغيره أو عمل غيره بها مشروط به ، كالإمام في الجمعة ، فليس الأمر كذلك ، فإن شمول الخطاب لبعضهم ليس مشروطا [ ص: 235 ] بشموله لآخرين ، ولا وجوب العمل على بعضهم مشروط على آخرين بوجوبه .
وإن قيل : إنه أفضل من عني بها ، فهذا يبنى على كونه أفضل الناس . فإن ثبت ذلك فلا حاجة إلى الاستدلال بهذه الآية ، وإن لم يثبت لم يجز الاستدلال بها ، فكان الاستدلال بها باطلا على التقديرين .
وغاية ما عندكم أن تذكروا أن ابن عباس كان يفضل عليا ، وهذا مع أنه [13] هذا كذب على ابن عباس ، وخلاف المعلوم عنه ، فلو قدر أنه قال ذلك - مع مخالفة جمهور الصحابة - لم يكن حجة .
السادس : أن قول القائل : لقد عاتب الله أصحاب محمد في القرآن وما ذكر عليا إلا بخير ، كذب معلوم ; فإنه لا يعرف أن الله عاتب أبا بكر في القرآن ، بل ولا أنه ساء رسول [14] الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال في خطبته : " أيها الناس ، اعرفوا لأبي بكر حقه ; فإنه لم يسؤني يوما قط " [15] .
والثابت من الأحاديث الصحيحة يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتصر لأبي بكر ، وينهى الناس عن معارضته ، ولم ينقل أنه ساءه ، كما نقل ذلك عن غيره ، فإن عليا لما خطب بنت أبي جهل خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطبة المعروفة [16] ، وما حصل مثل هذا في حق أبي بكر قط .
[ ص: 236 ] وأيضا فعلي لم يكن يدخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور العامة كما كان يدخل معه أبو بكر ، مثل المشاورة في ولايته وحروبه وإعطائه وغير ذلك ، فإن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الوزيرين له ، شاورهما [17] في أسرى بدر ما يصنع بهم ، وشاورهما [18] في وفد بني تميم لمن يولي عليهم ، وشاورهما [19] في غير ذلك من الأمور العامة يخصهما بالشورى .
وفي الصحيحين عن علي أن عمر لما مات قال له : " والله إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك ; فإني كنت كثيرا ما أسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر " [20] .
وكان يشاور أبا بكر [21] بأمور حروبه يخصه ، كما شاوره في قصة الإفك ، كما [22] استشار أسامة بن زيد ، وكما سأل بريرة . وهذا أمر يخصه ; فإنه لما اشتبه عليه أمر عائشة - رضي الله عنها - ، وتردد هل يطلق لما بلغه عنها أم يمسكها ، صار يسأل عنها بريرة لتخبره بباطن أمرها ، ويشاور فيها عليا : أيمسكها أم يطلقها ؟ فقال له أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وقال علي : لم يضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، واسأل الجارية تصدقك . ومع [ ص: 237 ] هذا فنزل القرآن ببراءتها وإمساكها ، موافقة لما أشار به أسامة بن زيد حب النبي - صلى الله عليه وسلم - [23] ، وكان عمر يدخل في مثل هذه الشورى ، ويتكلم مع نسائه فيما يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى قالت له أم سلمة : يا عمر لقد دخلت في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين نسائه .
وأما الأمور العامة الكلية التي تعم المسلمين ، إذا لم يكن فيها وحي خاص ، فكان يشاور فيها أبا بكر وعمر ، وإن دخل غيرهما في الشورى ، لكن هما الأصل في الشورى ، وكان عمر تارة ينزل القرآن بموافقته فيما يراه ، وتارة يتبين له الحق في خلاف ما رآه فيرجع عنه .
وأما أبو بكر فلم يعرف أنه أنكر عليه شيئا [24] ، ولا كان أيضا يتقدم في شيء ، اللهم إلا لما تنازع هو وعمر فيمن يولى من بني تميم ، حتى ارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله هذه الآية : ( ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول ) الآية [ سورة الحجرات : 2 ] ، وليس تأذي النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بأكثر من تأذيه في قصة فاطمة .
وقد قال تعالى : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ) [ سورة الأحزاب : 23 ] . وقد أنزل الله تعالى في علي : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ سورة النساء : 43 ] لما صلى فقرأ وخلط [25] .
[ ص: 238 ] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) لما قال له ولفاطمة : " ألا تصليان ؟ " فقال : إنما أنفسنا بيد الله - سبحانه وتعالى - " [26] .


