الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان التاسع والعشرون : قوله تعالى [ ص: 239 ] : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) [ سورة الأحزاب : 56 ] من صحيح البخاري عن كعب بن عجرة قال : سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا [2] : يا رسول الله ، كيف الصلاة عليكم أهل البيت ، فإن الله علمنا كيف نسلم ؟ قال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " . وفي صحيح [3] مسلم : قلنا : يا رسول الله ، أما السلام عليك فقد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ فقال : " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد [4] ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم " . ولا شك أن عليا أفضل آل محمد ، فيكون أولى بالإمامة " .

                  والجواب : أنه لا ريب أن هذا الحديث صحيح متفق عليه ، وأن عليا من آل محمد الداخلين في قوله : " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " [5] ، ولكن ليس هذا من خصائصه ; فإن جميع بني هاشم داخلون في هذا ، كالعباس وولده والحارث بن عبد المطلب وولده [6] ، وكبنات النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجتي عثمان : رقية وأم كلثوم ، وبنته فاطمة . وكذلك [ ص: 240 ] أزواجه ، كما في الصحيحين عنه قوله : " اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته " [7] بل يدخل فيه سائر أهل بيته إلى يوم القيامة ، ويدخل فيه إخوة علي كجعفر وعقيل .

                  ومعلوم أن دخول هؤلاء في الصلاة والتسليم لا يدل على أنه أفضل من كل من لم يدخل في ذلك ، ولا أنه يصلح بذلك للإمامة ، فضلا عن أن يكون مختصا بها ، ألا ترى أن عمارا والمقداد وأبا ذر وغيرهم ممن اتفق [ أهل ] السنة [8] والشيعة على فضلهم لا يدخلون في الصلاة على الآل ، ويدخل فيها [9] عقيل والعباس وبنوه ، وأولئك أفضل من هؤلاء باتفاق [ أهل ] [10] السنة والشيعة ، وكذلك يدخل فيها عائشة وغيرها من أزواجه ، ولا تصلح امرأة للإمامة ، وليست أفضل الناس باتفاق أهل السنة والشيعة ، فهذه فضيلة مشتركة بينه وبين غيره ، وليس كل من اتصف بها أفضل ممن لم يتصف بها .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم " [11] . التابعون أفضل من القرن الثالث .

                  وتفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم تفصيل الأفراد على كل فرد ; فإن القرن الثالث والرابع فيهم من هو أفضل من كثير ممن أدرك الصحابة ، [ ص: 241 ] كالأشتر النخعي وأمثاله من رجال الفتن ، وكالمختار بن أبي عبيد [12] وأمثاله من الكذابين والمفترين ; والحجاج بن يوسف وأمثاله من أهل الظلم والشر .

                  وليس علي أفضل أهل البيت ، بل أفضل أهل البيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه داخل في أهل البيت .

                  كما قال للحسن : " أما علمت أنا أهل بيت لا نأكل الصدقة " [13] وهذا الكلام يتناول المتكلم ومن معه .

                  وكما قالت الملائكة : ( رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ) [ سورة هود : 73 ] وإبراهيم فيهم .

                  وكما قال : " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ; كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم " ، [ وإبراهيم ] [14] داخل فيهم .

                  وكما في قوله تعالى : ( إلا آل لوط نجيناهم ) [ سورة القمر : 34 ] ، فإن لوطا دخل فيهم .

                  وكذلك قوله : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ سورة آل عمران : 33 ] ، فقد دخل إبراهيم في الاصطفاء [15] .

                  [ ص: 242 ] وكذلك قوله : ( سلام على إل ياسين ) [ سورة الصافات : 130 ] [ فقد ] دخل ياسين في السلام [16] .

                  وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم صل على آل أبي أوفى " دخل في ذلك أبو أوفى . [17]

                  وكذلك قوله : " لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود " [18] .

                  وليس إذا كان علي أفضل أهل البيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون أفضل الناس بعده ; لأن بني هاشم أفضل من غيرهم ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم ، وأما إذا خرج منهم فلا يجب أن يكون أفضلهم بعده أفضل ممن سواهم .

                  كما أن التابعين إذا كانوا أفضل من تابعي التابعين ، وكان فيهم واحد أفضل ، لم يجب أن يكون الثاني أفضل من أفضل تابعي التابعين .

                  بل الجملة إذا فضلت على الجملة ، فكان أفضلهما [19] أفضل من الجملة الأخرى ، حصل مقصود التفضيل ، وما [20] بعد ذلك فموقوف على الدليل .

                  بل قد يقال : لا يلزم أن يكون أفضلها أفضل من فاضل الأخرى إلا بدليل .

                  [ ص: 243 ] وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله اصطفى كنانة من بني [21] إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم [22] ، واصطفاني من بني هاشم " [23] . فإذا كان جملة قريش أفضل من غيرها [24] لم يلزم أن يكون كل منهم أفضل من غيرهم ، بل في سائر العرب وغيرهم من المؤمنين من هو أفضل من أكثرقريش ، والسابقون الأولون من قريش نفر معدودون [25] ، وغالبهم إنما أسلموا عام الفتح [26] ، وهم الطلقاء .

                  وليس كل المهاجرين من قريش ، بل المهاجرون من قريش وغيرهم [27] - كابن مسعود الهذلي [28] ، وعمران بن حصين الخزاعي ، والمقداد بن الأسود الكندي - وهؤلاء وغيرهم من البدريين أفضل من أكثر بني هاشم ، فالسابقون من بني هاشم : حمزة وعلي وجعفر وعبيدة بن الحارث أربعة أنفس . وأهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ، فمنهم من بني هاشم ثلاثة ، وسائرهم أفضل من سائر بني هاشم .

                  وهذا كله بناء على أن الصلاة والسلام على آل محمد [29] وأهل بيته تقتضي [ ص: 244 ] أن يكونوا أفضل من سائر أهل البيوت . وهذا مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقولون : بنو هاشم أفضل قريش ، وقريش أفضل العرب ، والعرب أفضل بني آدم .

                  وهذا هو المنقول عن أئمة السنة ، كما ذكره حرب الكرماني عمن لقيهم مثل أحمد وإسحاق وسعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي وغيرهم .

                  وذهبت طائفة إلى منع التفضيل بذلك ، كما ذكره القاضي أبو بكر ، والقاضي أبو يعلى في " المعتمد " وغيرهما .

                  والأول أصح ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح [30] أنه قال : " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى هاشما من قريش ، واصطفاني من بني هاشم " [31] . وروي : " إن الله اصطفى بني إسماعيل " وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية