الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " البرهان الثلاثون : قوله تعالى : ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ) [ سورة الرحمن : 19 - 20 ] [2] . [ ص: 245 ] [3] من تفسير الثعلبي وطريق أبي نعيم عن ابن عباس في قوله : ( مرج البحرين يلتقيان [4] قال : علي وفاطمة [5] ( بينهما برزخ لا يبغيان ) : النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله [6] : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) [ سورة الرحمن : 22 ] : الحسن والحسين [7] ، ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة ، فيكون أولى بالإمامة " [8] .

                  والجواب أن هذا وأمثاله إنما يقوله من لا يعقل ما يقول ، وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن ، وهو من جنس تفسير الملاحدة والقرامطة الباطنية للقرآن ، بل هو شر من كثير منه . والتفسير بمثل هذا طريق للملاحدة على القرآن والطعن فيه [9] ، بل تفسير القرآن بمثل هذا من أعظم القدح فيه والطعن فيه .

                  ولجهال المنتسبين [10] إلى السنة تفاسير في الأربعة ، وهي إن كانت باطلة فهي أمثل من هذا ، كقولهم : الصابرين : محمد ، والصادقين : أبو بكر ، والقانتين : عمر ، والمنفقين : عثمان ، والمستغفرين بالأسحار : علي .

                  وكقوله : محمد رسول الله ، والذين معه : أبو بكر ، أشداء على الكفار : عمر ، رحماء بينهم : عثمان ، تراهم ركعا سجدا : علي .

                  [ ص: 246 ] وكقولهم : والتين : أبو بكر ، والزيتون : عمر ، وطور سينين : عثمان ، وهذا البلد الأمين : علي .

                  وكقولهم : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) : أبو بكر ( وعملوا الصالحات ) : عمر ، ( وتواصوا بالحق ) : عثمان ( وتواصوا بالصبر ) علي .

                  فهذه التفاسير من جنس [ تلك ] [11] التفاسير ، وهي أمثل من إلحادات الرافضة كقولهم : ( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) [ سورة يس : ] علي ، وكقولهم : ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) [ سورة الزخرف : 4 ] : إنه علي بن أبي طالب ، ( والشجرة الملعونة في القرآن ) [ سورة الإسراء : 60 ] : بنو أمية ، وأمثال هذا الكلام الذي لا يقوله [12] من يرجو لله وقارا ، ولا يقوله من [13] يؤمن بالله وكتابه .

                  وكذلك قول القائل : ( مرج البحرين يلتقيان ) [ سورة الرحمن : 19 ] : علي وفاطمة ، ( بينهما برزخ لا يبغيان ) [ سورة الرحمن : 20 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) [ سورة الرحمن : 22 ] : الحسن والحسين . وكل من له أدنى علم وعقل يعلم بالاضطرار بطلان هذا التفسير ، وأن ابن عباس لم يقل هذا .

                  وهذا من [14] التفسير الذي في تفسير الثعلبي ، وذكره بإسناد رواته مجهولون لا يعرفون ، عن سفيان الثوري . وهو كذب على سفيان . قال [ ص: 247 ] : " الثعلبي أخبرني الحسن بن محمد الدينوري ، حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ، قال : قرأ أبي على أبي محمد [15] بن الحسن بن علوية القطان من كتابه وأنا أسمع ، حدثنا بعض أصحابنا ، حدثنا رجل من أهل مصر يقال له طسم ، حدثنا أبو حذيفة ، عن أبيه ، عن سفيان الثوري في قوله : ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ) قال : فاطمة وعلي ، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان : الحسن والحسين .

                  وهذا الإسناد ظلمات بعضها فوق بعض ، لا يثبت بمثله شيء .

                  ومما يبين كذب ذلك وجوه : أحدهما : أن هذا في سورة الرحمن ، وهي مكية بإجماع المسلمين ، والحسن والحسين إنما ولدا بالمدينة .

                  الثاني : أن تسمية هذين بحرين ، وهذا لؤلؤا ، وهذا مرجانا ، وجعل النكاح مرجا - أمر لا تحتمله لغة العرب بوجه ، لا حقيقة ولا مجازا ، بل كما أنه كذب على الله وعلى القرآن ، فهو كذب على اللغة [16] .

                  الثالث : أنه ليس في هذا شيء زائد على ما يوجد في سائر بني آدم ، فإن كل من تزوج امرأة وولد لهما ولدان * فهما من هذا الجنس ، فليس في ذكر [ ص: 248 ] هذا ما يستعظم من قدرة الله وآياته ، إلا ما في نظائره من خلق الآدميين * [17] فلا موجب [18] للتخصيص ، وإن كان ذلك لفضيلة الزوجين والولدين ، فإبراهيم وإسحاق ويعقوب أفضل من علي .

                  وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الناس أكرم ؟ فقال : " أتقاهم " . فقالوا : ليس عن هذا نسألك . فقال : " يوسف نبي الله ، ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله " [19] .

                  وآل إبراهيم الذين أمرنا أن نسأل لمحمد وأهل بيته من الصلاة مثل ما صلى الله عليهم ، ونحن - وكل مسلم - نعلم أن آل إبراهيم أفضل من آل علي ، لكن محمد أفضل من إبراهيم . * ولهذا ورد هنا سؤال مشهور ، وهو أنه إذا كان محمد أفضل ، فلم [20] قيل : كما صليت على إبراهيم * [21] [22] ، والمشبه دون المشبه به .

                  وقد أجيب عن ذلك بأجوبة : منها : أن يقال : إن آل إبراهيم فيهم الأنبياء ، ومحمد [23] فيهم . قال ابن عباس : محمد من آل إبراهيم . فمجموع آل إبراهيم بمحمد أفضل من آل محمد ، ومحمد قد دخل في الصلاة على [ ص: 249 ] آل إبراهيم ، ثم طلبنا له من الله ولأهل بيته مثل ما صلى على آل إبراهيم ، فيأخذ أهل بيته ما يليق بهم ، ويبقى سائر ذلك لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون قد طلب له من الصلاة ما جعل [24] للأنبياء من آل إبراهيم . والذي يأخذه الفاضل من أهل بيته لا يكون مثلما يحصل لنبي ، فتعظم الصلاة عليه بهذا الاعتبار ، - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : إن التشبيه [25] في الأصل لا في القدر .

                  الرابع : أن الله ذكر أنه مرج البحرين في آية أخرى ، فقال في الفرقان : ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ) [ سورة الفرقان : 53 ] فلو أريد بذلك علي [26] وفاطمة لكان ذلك ذما لأحدهما ، وهذا باطل [27] بإجماع أهل السنة والشيعة .

                  الخامس : أنه قال : ( بينهما برزخ لا يبغيان ) فلو أريد بذلك علي وفاطمة ; لكان البرزخ الذي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - بزعمهم - أو غيره هو المانع لأحدهما أن يبغي على الآخر . وهذا بالذم أشبه منه بالمدح .

                  السادس : أن أئمة التفسير متفقون على خلاف هذا ، كما ذكره ابن جرير وغيره . فقال ابن عباس : بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام . وقال الحسن : مرج البحرين ، يعني بحر فارس والروم ، بينهما برزخ : هو الجزائر [28] . [ ص: 250 ] وقوله : ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) [ سورة الرحمن : 22 ] قال الزجاج : إنما يخرج [29] من البحر الملح ، وإنما جمعهما لأنه إذا خرج من أحدهما فقد خرج [30] منهما ، مثل : ( وجعل القمر فيهن نورا ) . وقال الفارسي : أراد من أحدهما فحذف المضاف . وقال ابن جرير : إنما قال منهما ; لأنه يخرج من أصداف البحر عن قطر السماء .

                  وأما اللؤلؤ والمرجان ففيهما قولان : أحدهما : أن المرجان ما صغر من اللؤلؤ ، واللؤلؤ العظام . قاله الأكثرون ، منهم ابن عباس وقتادة والفراء والضحاك . وقال الزجاج : اللؤلؤ اسم جامع للحب الذي يخرج من البحر ، والمرجان صغاره . الثاني : أن اللؤلؤ الصغار ، والمرجان الكبار . قاله مجاهد والسدي ومقاتل . قال ابن عباس : إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها ، فما وقع فيها من المطر فهو لؤلؤ . وقال ابن جرير [31] : حيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة . وقال ابن مسعود : المرجان الخرز الأحمر . وقال الزجاج : المرجان أبيض شديد البياض . وحكي عن أبي يعلى أن المرجان ضرب من اللؤلؤ كالقضبان [32] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية