فصل 
قال الرافضي [1]  : " الثاني : أنه كان أعبد الناس : يصوم النهار ، ويقوم الليل  ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، ونوافل النهار ، وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت ، وكان يصلي في ليله ونهاره [2] ألف ركعة ، ولم يخل في صلاة [3] الليل - حتى في ليلة الهرير - وقال  ابن عباس   : رأيته في حربه وهو يرقب الشمس ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ماذا تصنع ؟ قال : أنظر إلى الزوال لأصلي ، فقلت : في هذا الوقت ؟ فقال : إنما نقاتلهم على الصلاة [4]  . فلم يغفل عن فعل العبادات [5] في أول وقتها في أصعب الأوقات . 
وكان إذا أريد إخراج الحديد [6] من جسده يترك إلى أن يدخل  [ ص: 495 ] في الصلاة فيبقى متوجها إلى الله غافلا عما سواه غير مدرك للآلام التي تفعل به . 
وجمع بين الصلاة والزكاة ، وتصدق [7] وهو راكع ، فأنزل الله تعالى فيه [8] قرآنا يتلى ، وتصدق بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام حتى أنزل الله فيهم [9]  : ( هل أتى على الإنسان   ) ( سورة الإنسان : 1 ) ، وتصدق ليلا ونهارا ، وسرا وعلانية [10] ، وناجى الرسول فقدم بين يدي نجواه صدقة [11] ، فأنزل الله فيه قرآنا ، وأعتق ألف عبد من كسب يده ، وكان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، وإذا كان أعبد الناس كان أفضل ، فيكون هو الإمام " . 
والجواب أن يقال : هذا الكلام فيه من الأكاذيب  المختلفة ما لا يخفى إلا على أجهل الناس بأحوال القوم ، ومع أنه كذب ولا [12] مدح فيه ولا في عامة الأكاذيب ، فقوله : " إنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كذب عليه ، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني  " . 
 [ ص: 496 ] وفي الصحيحين عن  عبد الله بن عمرو  ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ألم أخبر أنك تقول : لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت ؟ " قال : بلى . قال : " فلا تفعل "  . وفي رواية [13]  : " ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ " فقلت : يا نبي الله ، لم أرد بذلك إلا الخير . قال : " فإن حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام " ، فقلت : يا نبي الله ، إني أطيق أكثر من ذلك ، قال : " فإن لزوجك عليك حقا ، ولزورك عليك حقا ، ولجسدك عليك حقا " . 
قال : " فصم صوم داود نبي الله ، فإنه كان أعبد الناس ، كان يصوم يوما ويفطر يوما ، واقرأ القرآن في كل شهر " قلت : إني أطيق أكثر من ذلك ، قال : " اقرأه في عشرين " إلى أن قال : " في سبع ، ولا تزد على ذلك  " وقال في الصوم : إني أطيق أفضل من ذلك " [14]  . 
وفي الصحيحين عن  علي  ، قال : طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة ، فقال : " ألا تقومان فتصليان ؟ " فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله : إذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال : " فولى وهو يضرب فخذه ويقول : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا   )  ( سورة الكهف : 54 ) [15] فهذا  [ ص: 497 ] الحديث دليل على نومه في الليل [16] مع إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم ، ومجادلته حتى ولى وهو يقول : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا   ) ( سورة الكهف : 54 ) . 
وقول القائل : " ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار " . 
إن أراد بذلك : أن بعض المسلمين تعلم ذلك منه ، فهكذا كل من الصحابة علم بعض الناس . 
وإن أراد بذلك أن بعض المسلمين تعلموا ذلك منه ، فهذا من الكذب البارد [17] ، فأكثر المسلمين ما رأوه ، وقد كانوا يقومون الليل ويتطوعون بالنهار ، فأكثر بلاد المسلمين التي فتحت في خلافة  عمر   وعثمان  رضي الله عنهما ، كالشام  ومصر  والمغرب  وخراسان  ، ما رأوه ، فكيف يتعلمون منه ؟ والصحابة كانوا كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه تعلموا ذلك ، ولا يمكن أن يدعى ذلك إلا في أهل [18] الكوفة   . 
ومعلوم أنهم كانوا تعلموا [19] ذلك من  ابن مسعود  رضي الله عنه وغيره قبل أن يقدم إليهم * ، وكانوا من أكمل الناس علما [20] ودينا قبل قدوم  علي  رضي الله عنه إليهم ، والصحابة كانوا كذلك ، وأصحاب  ابن مسعود  كانوا كذلك قبل أن يقدم إليهم * [21] العراق   . 
 [ ص: 998 ] وأما قوله : " الأدعية المأثورة  عنه تستوعب الوقت " . 
فعامتها كذب عليه ، وهو كان أجل قدرا من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله وحال الصحابة ، وليس لشيء من هذه إسناد ، والأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أفضل ما دعا به أحد ، وبها يدعو خيار هذه الأمة من الأولين والآخرين . 
وكذلك قوله : " إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة " . 
من الكذب الذي لا مدح فيه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مجموع صلاته في اليوم والليلة أربعين ركعة : فرضا ونفلا ، والزمان لا يتسع لألف ركعة لمن ولي أمر المسلمين مع سياسة الناس وأهله ، إلا أن تكون صلاته نقرا كنقر الغراب ، وهي صلاة المنافقين التي نزه الله عنها  عليا   . 
وأما ليالي صفين  ، فالذي ثبت في الصحيح أنه قال الذكر الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم  لفاطمة   : قال : ما تركته منذ سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قيل : ولا ليلة [22] صفين  ؟ قال : ولا ليلة صفين  ، ذكرته من السحر فقلته [23]  . 
وما ذكر من إخراج الحديد من جسده فكذب ، فإن  عليا  لم يعرف أنه  [ ص: 499 ] دخل فيه حديد ، وما ذكره من جمعه بين الصلاة والزكاة ، فهذا كذب كما تقدم ولا مدح فيه ، فإن هذا لو كان مستحبا لشرع للمسلمين ، ولو كان يستحب للمسلمين أن يتصدقوا وهم في الصلاة لتصدقوا ، فلما لم يستحب هذا أحد من المسلمين علمنا أنه ليس عبادة بل مكروها . 
وكذلك ما ذكره من أمر النذر والدراهم الأربعة قد تقدم أن هذا كله كذب ، وليس فيه كبير [24] مدح . 
وقوله : " أعتق ألف عبد من كسب يده " . 
من الكذب الذي لا يروج إلا على أجهل الناس ، فإن  عليا  لم يعتق ألف عبد ، بل [25] ولا مائة ، ولم يكن له كسب بيده يقوم بعشر هذا ، فإنه لم تكن له صناعة يعملها ، وكان مشغولا : إما بجهاد وإما بغيره . 
وكذلك قوله : " كان يؤجر نفسه وينفق على النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب " . 
كذب بين من وجوه : 
أحدها : أنهم لم يكونوا يخرجون من الشعب ، ولم يكن في الشعب من يستأجره . 
والثاني : أن أباه أبا طالب  كان معهم في الشعب ، وكان ينفق عليه . 
والثالث : أن  خديجة  كانت موسرة تنفق من مالها . 
والرابع : أن  عليا  لم يؤجر نفسه بمكة  قط ، وكان صغيرا حين كان في الشعب : إما مراهقا ، وإما [26] محتلما ، فكان  علي  في الشعب ممن ينفق  [ ص: 500 ] عليه : إما النبي صلى الله عليه وسلم وإما أبوه ، لم يكن ممن يمكنه أن ينفق على نفسه ، فكيف ينفق على غيره ؟ 
فإن دخوله في الشعب كان في حياة أبي طالب  بالنقل المتواتر ، وأبو طالب  مات قبل ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف  باتفاق الناس ، وكان موته وموت  خديجة  متقاربين ، فدخوله في الشعب كان في أول الإسلام . 
فإنه قد ثبت أن  ابن عباس  ولد وهم في الشعب ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم  وابن عباس  مراهق ،  وعلي  عاش بعد الهجرة أربعين سنة باتفاق الناس ، والمبعث قبل ذلك بثلاث عشرة ، وأقصى ما قيل في موته : إنه كان ابن ثلاث وستين ، فغايته أن يكون حين الإسلام كان له عشر سنين . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					