الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " الثاني : أنه كان أعبد الناس : يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل ، ونوافل النهار ، وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت ، وكان يصلي في ليله ونهاره [2] ألف ركعة ، ولم يخل في صلاة [3] الليل - حتى في ليلة الهرير - وقال ابن عباس : رأيته في حربه وهو يرقب الشمس ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، ماذا تصنع ؟ قال : أنظر إلى الزوال لأصلي ، فقلت : في هذا الوقت ؟ فقال : إنما نقاتلهم على الصلاة [4] . فلم يغفل عن فعل العبادات [5] في أول وقتها في أصعب الأوقات .

                  وكان إذا أريد إخراج الحديد [6] من جسده يترك إلى أن يدخل [ ص: 495 ] في الصلاة فيبقى متوجها إلى الله غافلا عما سواه غير مدرك للآلام التي تفعل به .

                  وجمع بين الصلاة والزكاة ، وتصدق [7] وهو راكع ، فأنزل الله تعالى فيه [8] قرآنا يتلى ، وتصدق بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام حتى أنزل الله فيهم [9] : ( هل أتى على الإنسان ) ( سورة الإنسان : 1 ) ، وتصدق ليلا ونهارا ، وسرا وعلانية [10] ، وناجى الرسول فقدم بين يدي نجواه صدقة [11] ، فأنزل الله فيه قرآنا ، وأعتق ألف عبد من كسب يده ، وكان يؤجر نفسه وينفق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، وإذا كان أعبد الناس كان أفضل ، فيكون هو الإمام " .

                  والجواب أن يقال : هذا الكلام فيه من الأكاذيب المختلفة ما لا يخفى إلا على أجهل الناس بأحوال القوم ، ومع أنه كذب ولا [12] مدح فيه ولا في عامة الأكاذيب ، فقوله : " إنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كذب عليه ، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .

                  [ ص: 496 ] وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ألم أخبر أنك تقول : لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت ؟ " قال : بلى . قال : " فلا تفعل " . وفي رواية [13] : " ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ " فقلت : يا نبي الله ، لم أرد بذلك إلا الخير . قال : " فإن حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام " ، فقلت : يا نبي الله ، إني أطيق أكثر من ذلك ، قال : " فإن لزوجك عليك حقا ، ولزورك عليك حقا ، ولجسدك عليك حقا " .

                  قال : " فصم صوم داود نبي الله ، فإنه كان أعبد الناس ، كان يصوم يوما ويفطر يوما ، واقرأ القرآن في كل شهر " قلت : إني أطيق أكثر من ذلك ، قال : " اقرأه في عشرين " إلى أن قال : " في سبع ، ولا تزد على ذلك
                  " وقال في الصوم : إني أطيق أفضل من ذلك " [14] .

                  وفي الصحيحين عن علي ، قال : طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة ، فقال : " ألا تقومان فتصليان ؟ " فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله : إذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال : " فولى وهو يضرب فخذه ويقول : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) ( سورة الكهف : 54 ) [15] فهذا [ ص: 497 ] الحديث دليل على نومه في الليل [16] مع إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم ، ومجادلته حتى ولى وهو يقول : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) ( سورة الكهف : 54 ) .

                  وقول القائل : " ومنه تعلم الناس صلاة الليل ونوافل النهار " .

                  إن أراد بذلك : أن بعض المسلمين تعلم ذلك منه ، فهكذا كل من الصحابة علم بعض الناس .

                  وإن أراد بذلك أن بعض المسلمين تعلموا ذلك منه ، فهذا من الكذب البارد [17] ، فأكثر المسلمين ما رأوه ، وقد كانوا يقومون الليل ويتطوعون بالنهار ، فأكثر بلاد المسلمين التي فتحت في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما ، كالشام ومصر والمغرب وخراسان ، ما رأوه ، فكيف يتعلمون منه ؟ والصحابة كانوا كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنه تعلموا ذلك ، ولا يمكن أن يدعى ذلك إلا في أهل [18] الكوفة .

                  ومعلوم أنهم كانوا تعلموا [19] ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه وغيره قبل أن يقدم إليهم * ، وكانوا من أكمل الناس علما [20] ودينا قبل قدوم علي رضي الله عنه إليهم ، والصحابة كانوا كذلك ، وأصحاب ابن مسعود كانوا كذلك قبل أن يقدم إليهم * [21] العراق .

                  [ ص: 998 ] وأما قوله : " الأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت " .

                  فعامتها كذب عليه ، وهو كان أجل قدرا من أن يدعو بهذه الأدعية التي لا تليق بحاله وحال الصحابة ، وليس لشيء من هذه إسناد ، والأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أفضل ما دعا به أحد ، وبها يدعو خيار هذه الأمة من الأولين والآخرين .

                  وكذلك قوله : " إنه كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة " .

                  من الكذب الذي لا مدح فيه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مجموع صلاته في اليوم والليلة أربعين ركعة : فرضا ونفلا ، والزمان لا يتسع لألف ركعة لمن ولي أمر المسلمين مع سياسة الناس وأهله ، إلا أن تكون صلاته نقرا كنقر الغراب ، وهي صلاة المنافقين التي نزه الله عنها عليا .

                  وأما ليالي صفين ، فالذي ثبت في الصحيح أنه قال الذكر الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة : قال : ما تركته منذ سمعته عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قيل : ولا ليلة [22] صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين ، ذكرته من السحر فقلته [23] .

                  وما ذكر من إخراج الحديد من جسده فكذب ، فإن عليا لم يعرف أنه [ ص: 499 ] دخل فيه حديد ، وما ذكره من جمعه بين الصلاة والزكاة ، فهذا كذب كما تقدم ولا مدح فيه ، فإن هذا لو كان مستحبا لشرع للمسلمين ، ولو كان يستحب للمسلمين أن يتصدقوا وهم في الصلاة لتصدقوا ، فلما لم يستحب هذا أحد من المسلمين علمنا أنه ليس عبادة بل مكروها .

                  وكذلك ما ذكره من أمر النذر والدراهم الأربعة قد تقدم أن هذا كله كذب ، وليس فيه كبير [24] مدح .

                  وقوله : " أعتق ألف عبد من كسب يده " .

                  من الكذب الذي لا يروج إلا على أجهل الناس ، فإن عليا لم يعتق ألف عبد ، بل [25] ولا مائة ، ولم يكن له كسب بيده يقوم بعشر هذا ، فإنه لم تكن له صناعة يعملها ، وكان مشغولا : إما بجهاد وإما بغيره .

                  وكذلك قوله : " كان يؤجر نفسه وينفق على النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب " .

                  كذب بين من وجوه :

                  أحدها : أنهم لم يكونوا يخرجون من الشعب ، ولم يكن في الشعب من يستأجره .

                  والثاني : أن أباه أبا طالب كان معهم في الشعب ، وكان ينفق عليه .

                  والثالث : أن خديجة كانت موسرة تنفق من مالها .

                  والرابع : أن عليا لم يؤجر نفسه بمكة قط ، وكان صغيرا حين كان في الشعب : إما مراهقا ، وإما [26] محتلما ، فكان علي في الشعب ممن ينفق [ ص: 500 ] عليه : إما النبي صلى الله عليه وسلم وإما أبوه ، لم يكن ممن يمكنه أن ينفق على نفسه ، فكيف ينفق على غيره ؟

                  فإن دخوله في الشعب كان في حياة أبي طالب بالنقل المتواتر ، وأبو طالب مات قبل ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف باتفاق الناس ، وكان موته وموت خديجة متقاربين ، فدخوله في الشعب كان في أول الإسلام .

                  فإنه قد ثبت أن ابن عباس ولد وهم في الشعب ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وابن عباس مراهق ، وعلي عاش بعد الهجرة أربعين سنة باتفاق الناس ، والمبعث قبل ذلك بثلاث عشرة ، وأقصى ما قيل في موته : إنه كان ابن ثلاث وستين ، فغايته أن يكون حين الإسلام كان له عشر سنين .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية