الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل

                  قال الرافضي [1] : " وأما النحو فهو واضعه ، قال لأبي [ ص: 529 ] الأسود [2] : الكلام كله ثلاثة أشياء : اسم ، وفعل ، وحرف ، وعلمه [3] وجوه الإعراب .

                  والجواب : أن يقال : أولا : هذا ليس من علوم النبوة ، وإنما هو علم مستنبط ، وهو وسيلة في حفظ قوانين اللسان الذي نزل به القرآن ، ولم يكن في زمن الخلفاء الثلاثة لحن [4] ، فلم يحتج إليه ، فلما سكن علي الكوفة ، وبها الأنباط روي أنه قال لأبي الأسود الدؤلي : " الكلام : اسم ، وفعل ، وحرف " ، وقال : " انح هذا النحو " ، ففعل هذا للحاجة ، كما أن من بعد علي أيضا استخرج للخط النقط والشكل ، وعلامة المد والشد [5] ، ونحوه للحاجة ، ثم بعد ذلك بسط النحو نحاة الكوفة والبصرة ، والخليل استخرج علم العروض .

                  فصل

                  قال الرافضي [6] : " وفي الفقه الفقهاء يرجعون إليه [7] " .

                  والجواب : أن هذا كذب بين ، فليس في الأئمة الأربعة - ولا غيرهم من أئمة الفقهاء [8] - من يرجع إليه في فقهه ، أما مالك ، فإن علمه عن [ ص: 530 ] أهل المدينة ، وأهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي ، بل أخذوا فقههم عن الفقهاء السبعة عن زيد ، وعمر ، وابن عمر ، ونحوهم .

                  أما الشافعي فإنه تفقه أولا على المكيين أصحاب ابن جريج ، كسعيد بن سالم القداح ، ومسلم بن خالد الزنجي . وابن جريج أخذ ذلك عن أصحاب ابن عباس ، ، كعطاء وغيره ، وابن عباس كان مجتهدا مستقلا ، وكان إذا أفتى بقول الصحابة أفتى بقول أبي بكر وعمر لا بقول علي ، وكان ينكر على علي أشياء .

                  ثم إن الشافعي أخذ عن مالك ، ثم كتب كتب أهل العراق ، وأخذ مذاهب [9] أهل الحديث ، واختار لنفسه .

                  وأما أبو حنيفة فشيخه الذي اختص به حماد بن أبي سليمان ، وحماد عن إبراهيم ، وإبراهيم عن علقمة ، وعلقمة عن ابن مسعود ، وقد أخذ أبو حنيفة عن عطاء ، وغيره .

                  وأما الإمام أحمد فكان على مذهب أهل الحديث ، أخذ عن ابن عيينة ، وابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، وأخذ عن هشام بن بشير ، وهشام عن أصحاب الحسن وإبراهيم النخعي ، وأخذ عن عبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع بن الجراح وأمثالهما ، وجالس الشافعي ، وأخذ عن أبي يوسف ، واختار لنفسه قولا ، وكذلك إسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد [10] ونحوهم .

                  [ ص: 531 ] والأوزاعي والليث أكثر فقههما عن أهل المدينة ، وأمثالهم ، لا عن الكوفيين .

                  فصل

                  قال الرافضي [11] : " أما المالكية فأخذوا علمهم عنه وعن أولاده " [12] .

                  والجواب : أن هذا كذب ظاهر ، فهذا موطأ مالك ليس فيه عنه ولا عن ( أحد ) [13] أولاده إلا قليل جدا ، وجمهور ما فيه عن غيرهم ، فيه عن جعفر تسعة أحاديث ، ولم يرو مالك عن أحد من ذريته إلا عن جعفر ، وكذلك الأحاديث التي في الصحاح ، والسنن ، والمساند منها قليل عن ولده ، وجمهور ما فيها عن غيرهم .

                  فصل

                  قال الرافضي [14] : " وأما أبو حنيفة فقرأ على الصادق [15] " .

                  [ ص: 532 ] والجواب : أن هذا من الكذب الذي يعرفه [16] من له أدنى علم ، فإن أبا حنيفة من أقران جعفر الصادق ، توفي الصادق سنة ثمان وأربعين ، وتوفي أبو حنيفة سنة خمسين ومائة ، وكان أبو حنيفة يفتي في حياة أبي جعفر والد الصادق ، وما يعرف أن أبا حنيفة أخذ عن جعفر الصادق ، ولا عن أبيه مسألة واحدة ، بل أخذ عمن كان أسن منهما كعطاء بن أبي رباح ، وشيخه الأصلي حماد بن أبي سليمان [17] ، وجعفر بن محمد كان بالمدينة [18] .

                  فصل .

                  قال الرافضي [19] : " وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن " .

                  والجواب : أن هذا ليس كذلك ، بل جالسه وعرف طريقته [20] وناظره ، وأول من أظهر الخلاف لمحمد بن الحسن ، والرد عليه ( هو ) الشافعي [21] ، [ ص: 533 ] فإن محمد بن الحسن أظهر الرد على مالك وأهل المدينة ، وهو أول من عرف منه [22] رد على مخالفيه [23] ، فنظر [24] الشافعي في كلامه ، وانتصر لما تبين له أنه الحق من قول أهل المدينة ، وكان انتصاره في الغالب لمذهب أهل الحجاز وأهل الحديث .

                  ثم إن عيسى بن أبان صنف كتابا تعرض فيه بالرد على الشافعي ، فصنف ابن سريج كتابا في الرد على عيسى بن أبان .

                  وكذلك أحمد بن حنبل لم يقرأ على الشافعي لكن جالسه ، كما جالس الشافعي محمد بن الحسن ، واستفاد كل منهما من صاحبه .

                  وكان الشافعي وأحمد يتفقان في أصولهما ، أكثر من اتفاق الشافعي ومحمد بن الحسن ، وكان الشافعي أسن من أحمد ببضع عشرة سنة .

                  وكان الشافعي قدم بغداد أولا سنة بضع وثمانين في حياة محمد بن الحسن بعد موت أبي يوسف ، ثم قدمها ثانية سنة بضع وتسعين ، وفي هذه القدمة اجتمع به أحمد .

                  وبالجملة فهؤلاء الأئمة الأربعة ليس فيهم من أخذ عن جعفر شيئا من قواعد الفقه ، لكن رووا عنه أحاديث ، كما رووا عن غيره ، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه ، وليس بين حديث الزهري وحديثه نسبة ، لا في القوة ولا في الكثرة .

                  وقد استراب البخاري في بعض حديثه لما بلغه عن يحيى بن سعيد [ ص: 534 ] القطان فيه كلام ، فلم يخرج له . ولم يكذب على أحد ما كذب على جعفر الصادق - مع براءته - كما كذب عليه ، فنسب إليه علم البطاقة ، والهفت ، والجدول ، واختلاج الأعضاء ، ومنافع القرآن ، والكلام على الحوادث ، وأنواع من الإشارات [25] في تفسير القرآن ، وتفسير قراءة السورة في المنام ، وكل ذلك كذب عليه .

                  وأيضا فجعفر الصادق أخذ عن أبيه وعن غيره ، كما قدمنا .

                  وكذلك أبوه أخذ عن علي بن الحسين وغيره ، وكذلك علي بن الحسين ( * أخذ العلم عن غير الحسين أكثر مما أخذ عن الحسين ، فإن الحسين * ) [26] قتل سنة إحدى وستين ، وعلي صغير فلما رجع إلى المدينة أخذ عن علماء أهل المدينة ، فإن علي بن الحسين أخذ عن أمهات المؤمنين عائشة ، وأم سلمة ، وصفية ، وأخذ عن ابن عباس ، والمسور بن مخرمة ، وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومروان بن الحكم ، وسعيد بن المسيب ، وغيرهم .

                  وكذلك الحسن كان يأخذ عن أبيه ، وغيره حتى أخذ عن التابعين ، وهذا من علمه ودينه رضي الله عنه .

                  وأما ثناء العلماء على علي بن الحسين ومناقبه فكثيرة ، وقال الزهري : لم أدرك بالمدينة أفضل من علي بن الحسين ، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : هو أفضل هاشمي رأيته بالمدينة ، وقال حماد بن زيد : سمعت عن علي بن الحسين - وكان أفضل هاشمي أدركته - يقول : " أيها [ ص: 535 ] الناس أحبونا حب الإسلام ، فما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارا " . ذكره محمد بن سعد في " الطبقات " [27] .

                  أنبأنا عارم بن الفضل ، أنبأنا حماد [28] .

                  ثم قال ابن سعد [29] : " قالوا : وكان علي بن الحسين ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا [30] ، وروى [31] " عن شيبة بن نعامة ، قال : كان علي بن الحسين يبخل ، فلما مات وجدوه يقوت [32] أهل مائة بيت [33] بالمدينة في السر " .

                  فصل

                  قال الرافضي [34] : " ومالك قرأ على ربيعة ، وربيعة على عكرمة ، وعكرمة على ابن عباس ، وابن عباس تلميذ علي " [35] .

                  والجواب : أن هذا من الكذب ، فإن ربيعة لم يأخذ عن عكرمة شيئا ، [ ص: 536 ] بل ولا ذكر مالك عن عكرمة [36] في كتبه إلا أثرا أو أثرين ، ولا ذكر اسم عكرمة في كتبه أصلا ; لأنه بلغه عن ابن عمر وابن المسيب أنهما تكلما فيه فتركه لذلك .

                  وكذلك لم يخرج له مسلم ، ولكن ربيعة أخذ عن سعيد بن المسيب ، وأمثاله من فقهاء أهل المدينة ، وسعيد كان يرجع علمه إلى عمر ، وكان قد أخذ عن زيد بن ثابت وأبي هريرة ، وتتبع قضايا عمر من أصحابه ، وكان ابن عمر يسأله عنها .

                  ولهذا يقال : إن موطأ مالك أخذت أصوله [37] عن ربيعة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر ، وقال الرشيد لمالك : قد أكثرت في موطئك عن ابن عمر ، وأقللت عن ابن عباس ، فقال : " كان أورع الرجلين يا أمير المؤمنين " فهذا موطأ مالك يبين أن ما ذكره عن مالك من أظهر الكذب .

                  وقوله : " ابن عباس تلميذ علي " كلام باطل ، فإن رواية ابن عباس عن علي قليلة ، وغالب أخذه عن عمر ، وزيد بن ثابت ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة ، وكان يفتي بقول أبي بكر وعمر ، ونازع عليا في مسائل ، مثل ما أخرج البخاري في صحيحه ، قال : " أتي علي بقوم زنادقة فحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس ، فقال : أما لو كنت لم أحرقهم ، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه [38] " فبلغ ذلك عليا ، فقال : ويح ابن عباس ، ما أسقطه على الهنات !

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية