وآخرون في مقابلتهم من أهل الكلام ، القائلين بالجوهر الفرد ويزعمون أنه ما ثم من حادث يعلم حدوثه بالمشاهدة إلا الأعراض ، وأنهم لا يشهدون حدوث جوهر من الجواهر .
[ ص: 20 ] وكلا القولين ، خطأ وقد بسطنا الكلام عليهما في غير هذا الموضع .
وقد يراد بالمادة المادة الكلية المشتركة بين الأجسام ، وبالصورة [1] الصورة الكلية المشتركة بين الأجسام ، ويدعون أن كليهما جوهر عقلي ، وهو غلط ; فإن المشترك بين الأجسام أمر كلي ، والكليات لا توجد كليات [2] إلا في الأذهان لا في الأعيان ، وكل ما وجد في الخارج فهو مميز بنفسه عن غيره ، لا يشركه فيه غيره ، إلا في الذهن إذا أخذ كليا .
والأجسام يعرض لها الاتصال والانفصال ، وهو الاجتماع والافتراق ، وهما من الأعراض ، ليس الانفصال شيئا قائما بنفسه ، كما أن الحركة ليست شيئا قائما بنفسه ، غير الجسم المحسوس يرد عليه الاتصال والانفصال ، ويسمونه الهيولى والمادة ، وهذا وغيره مبسوط في غير هذا الموضع [3] .
وكثير من الناس قد لا يفهمون حقيقة ما يقولون وما يقول غيرهم ، وما جاءت به الرسل ، حتى يعرفوا ما فيه من حق وباطل ; فيعلمون هل هم موافقون لصريح المعقول ، أو هم مخالفون له . ومن أراد التظاهر بالإسلام منهم عبر عن ذلك بالعبارات الإسلامية ، فيعبر عن الجسم بعالم الملك ، وعن النفس بعالم الملكوت ، وعن العقل بعالم الجبروت ، أو بالعكس . ويقولون إن العقول والنفوس هي الملائكة ، [ ص: 21 ] وقد يجعلون قوى النفس التي تقتضي فعل الخير هي الملائكة ، وقواها التي تقتضي الشر هي الشياطين ، وأن الملائكة التي تنزل على الرسل ، والكلام الذي سمعه موسى بن عمران إنما هو في نفوس الأنبياء ، ليس في الخارج ، بمنزلة ما يراه النائم ، وما يحصل لكثير من الممرورين [4] وأصحاب الرياضة ; حيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية ، ويسمع في نفسه أصواتا ، فتلك هي عندهم ملائكة الله ، وذلك هو كلام الله ، ليس له كلام منفصل .
ولهذا يدعي أحدهم أن الله كلمه كما كلم موسى بن عمران ، أو أعظم مما كلم موسى ; لأن موسى كلم عندهم بحروف وأصوات في نفسه ، وهم يكلمون بالمعاني المجردة العقلية .
وصاحب " مشكاة الأنوار " و " الكتب المضنون بها على غير أهلها " [5] وقع في كلامه قطعة من هذا النمط ، وقد كفرهم بذلك في مواضع أخر ، ورجع عن ذلك ، واستقر أمره على مطالعة البخاري وغيرهما . ومسلم
ومن هنا سلك صاحب " خلع النعلين " ابن قسي [6] وأمثاله ، وكذلك [ ص: 22 ] صاحب " فصوص الحكم " و " الفتوحات المكية " ; ولهذا ادعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك ، الذي يوحى به إلى الأنبياء ، والنبي عنده يأخذ من الملك الذي يوحى به إلى الرسل ; لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني ابن عربي [7] العقلية في الصور [8] الخيالية ، وتلك الصور [9] عنده هي الملائكة ، وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالا ; ولهذا يفضل الولاية على النبوة ، ويقول :
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
والولي على أصله الفاسد يأخذ عن الله بلا واسطة ; لأنه يأخذ عن عقله ، وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة [10] ; إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي [11] ، والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا [ ص: 23 ] للمخلوقات ، بل هو وجود مطلق ، أو مشروط بنفي [12] الأمور الثبوتية عن الله ، أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية ، وقد يقولون : هو وجود المخلوقات ، أو حال فيها ، أو لا هذا ولا هذا .
فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي [13] : النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية ، ويسمونها القوة القدسية ; فلهذا جعلوا الولاية فوق النبوة .
وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة ، لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله [14] ، وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة ، فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء ، وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة ، وهؤلاء يعظمون أمر الإمامة ، حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء ، والإمام أعظم من النبي ، كما يقوله الإسماعيلية .
وكلاهما أساطين الفلاسفة [15] الذين يجعلون النبي فيلسوفا ، ويقولون : إنه يختص بقوة قدسية ، ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف ، ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي . ويزعمون أن ، وهؤلاء يقولون النبوة [ ص: 24 ] مكتسبة [16] : إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات ، من حصلت له فهو نبي : أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم ، وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولى العالم ، وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله ، ومرئيا في نفسه ، ومسموعا في نفسه .
هذا كلام وأمثاله في النبوة ، وعنه أخذ ذلك ابن سينا في كتبه " المضنون بها على غير أهلها " . الغزالي
وهذا القدر الذي ذكروه يحصل لخلق كثير من آحاد الناس ومن المؤمنين ، وليس هو من أفضل عموم المؤمنين ، فضلا عن كونه نبيا ، كما بسط في موضعه .
وهؤلاء قالوا هذا لما احتاجوا إلى الكلام [17] في النبوة على أصول سلفهم الدهرية ، القائلين بأن ، لا مفعولة لفاعل بقدرته واختياره ، وأنكروا علمه بالجزئيات ، ونحو ذلك من أصولهم الفاسدة ; فتكلم هؤلاء في النبوة على أصول أولئك . الأفلاك قديمة أزلية
وأما القدماء - أرسطو وأمثاله - فليس لهم في النبوة كلام محصل . والواحد [18] من هؤلاء يطلب أن يصير نبيا ، كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبيا ، وكان قد جمع بين النظر والتأله ، وسلك نحوا من مسلك الباطنية ، وجمع بين فلسفة الفرس واليونان ، وعظم أمر الأنوار ، وقرب دين المجوس الأول ، وهي نسخة الباطنية الإسماعيلية ، وكان له [ ص: 25 ] يد في السحر والسيمياء ، فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين .
وكذلك ابن سبعين ، الذي جاء من المغرب إلى مكة ، وكان يطلب أن يصير نبيا ، وجدد غار حراء الذي نزل فيه الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء ، وحكي عنه أنه كان يقول : لقد ذرب ابن آمنة [19] حيث قال : " " . ب وكان بارعا في الفلسفة ، وفي تصوف المتفلسفة ، وما يتعلق بذلك . لا نبي بعدي
وهو ، وابن عربي ، وأمثالهما كالصدر القونوي ، وابن الفارض ، والتلمساني : منتهى أمرهم ، وأن الوجود القول بوحدة الوجود [20] الواجب القديم الخالق هو الوجود الممكن المحدث المخلوق ، ما ثم لا غير [21] ولا سوى ، لكن لما رأوا تعدد المخلوقات صاروا تارة يقولون : مظاهر ومجالي .
فإذا قيل لهم : فإن كانت المظاهر أمرا وجوديا تعدد [22] الوجود ، وإلا لم يكن لها حينئذ حقيقة . وما هو نحو هذا الكلام ، الذي يبين أن الوجود نوعان خالق ومخلوق .
قالوا : نحن نثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ، ومن [ ص: 26 ] أراد أن يكون محققا مثلنا فلا بد أن يلتزم [23] الجمع بين النقيضين ، وأن الجسم الواحد يكون في وقت واحد في موضعين .
وهؤلاء الأصناف قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع ، فإن هؤلاء يكثرون في الدول الجاهلية [24] ، وعامتهم تميل إلى التشيع ، كما عليه ، ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما ; فاحتاج الناس إلى كشف حقائق هؤلاء ، وبيان أمورهم على الوجه الذي يعرف به الحق من الباطل ; فإن هؤلاء يدعون في أنفسهم أنهم أفضل أهل الأرض ، وأن الناس لا يفهمون حقيقة إشاراتهم ، فلما يسر الله أني بينت لهم حقائقهم ، وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم ، وتبين لهم بطلانه بالعقل الصريح والنقل الصحيح والكشف المطابق ، رجع عن ذلك من علمائهم [25] وفضلائهم من رجع ، وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم ، ويردونهم إلى الحق [26] .
وكان من أصول ضلالهم [27] ظنهم أن الوجود المطلق يوجد في الخارج ، إما : مطلق لا بشرط [28] ، ( * وإما مطلق بشرط ، فالمطلق لا [ ص: 27 ] بشرط * ) [29] الذي يسمونه الكلي الطبيعي ، إذا قيل : إنه موجود في الخارج : فإن الذي يوجد في الخارج مقيدا معينا هو مطلق في الذهن ، مقيد في الخارج . وأما من زعم أن في الذهن [30] شيئا مطلقا وهو مطلق حال تحققه في الخارج ، فهو غالط غلطا ضل فيه كثير من أهل المنطق والفلسفة .
وأما المطلق بشرط الإطلاق فهو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية والسلبية ، كما يوجد الإنسان مجردا عن كل قيد . فإذا قلت : موجود أو معدوم ، أو واحد أو كثير ، أو في الذهن أو في الخارج - كان ذلك قيدا زائدا على الحقيقة المطلقة بشرط الإطلاق .
وهكذا الوجود تأخذه مجردا عن كل قيد ثبوتي وسلبي ، فلا تصفه ، لا بالصفات السلبية ولا الثبوتية .
وهذا [31] هو واجب الوجود عند أئمة الباطنية ، كأبي يعقوب السجستاني صاحب " الأقاليد الملكوتية " وأمثاله . لكن من هؤلاء من لا يعرف : يرفع [32] النقيضين ، فيقول : لا موجود ولا معدوم ، ومنهم من يقول : بل أمسك عن إثبات أحد النقيضين ، فلا أقول : موجود ولا معدوم [33] ، كأبي يعقوب ، وهو منتهى تجريد هؤلاء . القائلين بوحدة الوجود
[ ص: 28 ] وأتباعه يقولون : وابن سينا ، وهذا أبعد عن الوجود في الخارج من المقيد بسلب الوجود والعدم ، وإن كان ذلك ممتنعا في الموجود والمعدوم . الوجود الواجب هو الوجود المقيد بسلب الأمور الثبوتية دون السلبية
فقلت لأولئك المدعين للتحقيق : أنتم بنيتم أمركم على القوانين المنطقية ، وهذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق ، المقيد بسلب النقيضين عنه ، لا يوجد في الخارج ( * باتفاق العقلاء ، وإنما يقدر في الذهن تقديرا ، وإلا فإذا قدرنا إنسانا مطلقا ، واشترطنا فيه أن لا يكون موجودا ولا معدوما ، ولا واحدا ولا كثيرا ، لم يوجد في الخارج ، بل نفرض في الذهن ، كما نفرض الجمع بين * ) [34] النقيضين ، ففرض رفع [35] النقيضين كفرض الجمع بين النقيضين .
ولهذا كان هؤلاء تارة يصفونه بجمع النقيضين أو الإمساك عنهما ، كما يفعل وغيره كثيرا ابن عربي [36] ، وتارة يجمعون بين هذا وهذا ، كما يوجد أيضا في كلام أصحاب " البطاقة " وغيرهم .
فإذا قالوا مع ذلك : إنه مبدع العالم ، وشرطوا فيه أنه لا يوصف بثبوت ولا انتفاء [37] - كان تناقضا ; فإن كونه مبدعا لا يخرج عن هذا وهذا .
وكذلك إذا قالوا موجود واجب ، وشرطوا فيه التجريد عن النقيضين - كان تناقضا .
[ ص: 29 ] وحقيقة قولهم : موجود لا موجود ، وواجب لا واجب ، وهذا منتهى أمرهم ، وهو الجمع بين النقيضين ، أو رفع النقيضين .
ولهذا يصيرون إلى الحيرة ويعظمونها ، وهي عندهم منتهى معرفة الأنبياء والأولياء ، والأئمة والفلاسفة .