الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وآخرون في مقابلتهم من أهل الكلام ، القائلين بالجوهر الفرد ويزعمون أنه ما ثم من حادث يعلم حدوثه بالمشاهدة إلا الأعراض ، وأنهم لا يشهدون حدوث جوهر من الجواهر .

                  [ ص: 20 ] وكلا القولين ، خطأ وقد بسطنا الكلام عليهما في غير هذا الموضع .

                  وقد يراد بالمادة المادة الكلية المشتركة بين الأجسام ، وبالصورة [1] الصورة الكلية المشتركة بين الأجسام ، ويدعون أن كليهما جوهر عقلي ، وهو غلط ; فإن المشترك بين الأجسام أمر كلي ، والكليات لا توجد كليات [2] إلا في الأذهان لا في الأعيان ، وكل ما وجد في الخارج فهو مميز بنفسه عن غيره ، لا يشركه فيه غيره ، إلا في الذهن إذا أخذ كليا .

                  والأجسام يعرض لها الاتصال والانفصال ، وهو الاجتماع والافتراق ، وهما من الأعراض ، ليس الانفصال شيئا قائما بنفسه ، كما أن الحركة ليست شيئا قائما بنفسه ، غير الجسم المحسوس يرد عليه الاتصال والانفصال ، ويسمونه الهيولى والمادة ، وهذا وغيره مبسوط في غير هذا الموضع [3] .

                  وكثير من الناس قد لا يفهمون حقيقة ما يقولون وما يقول غيرهم ، وما جاءت به الرسل ، حتى يعرفوا ما فيه من حق وباطل ; فيعلمون هل هم موافقون لصريح المعقول ، أو هم مخالفون له . ومن أراد التظاهر بالإسلام منهم عبر عن ذلك بالعبارات الإسلامية ، فيعبر عن الجسم بعالم الملك ، وعن النفس بعالم الملكوت ، وعن العقل بعالم الجبروت ، أو بالعكس . ويقولون إن العقول والنفوس هي الملائكة ، [ ص: 21 ] وقد يجعلون قوى النفس التي تقتضي فعل الخير هي الملائكة ، وقواها التي تقتضي الشر هي الشياطين ، وأن الملائكة التي تنزل على الرسل ، والكلام الذي سمعه موسى بن عمران إنما هو في نفوس الأنبياء ، ليس في الخارج ، بمنزلة ما يراه النائم ، وما يحصل لكثير من الممرورين [4] وأصحاب الرياضة ; حيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية ، ويسمع في نفسه أصواتا ، فتلك هي عندهم ملائكة الله ، وذلك هو كلام الله ، ليس له كلام منفصل .

                  ولهذا يدعي أحدهم أن الله كلمه كما كلم موسى بن عمران ، أو أعظم مما كلم موسى ; لأن موسى كلم عندهم بحروف وأصوات في نفسه ، وهم يكلمون بالمعاني المجردة العقلية .

                  وصاحب " مشكاة الأنوار " و " الكتب المضنون بها على غير أهلها " [5] وقع في كلامه قطعة من هذا النمط ، وقد كفرهم بذلك في مواضع أخر ، ورجع عن ذلك ، واستقر أمره على مطالعة البخاري ومسلم وغيرهما .

                  ومن هنا سلك صاحب " خلع النعلين " ابن قسي [6] وأمثاله ، وكذلك [ ص: 22 ] ابن عربي صاحب " فصوص الحكم " و " الفتوحات المكية " ; ولهذا ادعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك ، الذي يوحى به إلى الأنبياء ، والنبي عنده يأخذ من الملك الذي يوحى به إلى الرسل ; لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني [7] العقلية في الصور [8] الخيالية ، وتلك الصور [9] عنده هي الملائكة ، وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالا ; ولهذا يفضل الولاية على النبوة ، ويقول :

                  مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

                  والولي على أصله الفاسد يأخذ عن الله بلا واسطة ; لأنه يأخذ عن عقله ، وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة [10] ; إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي [11] ، والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا [ ص: 23 ] للمخلوقات ، بل هو وجود مطلق ، أو مشروط بنفي [12] الأمور الثبوتية عن الله ، أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية ، وقد يقولون : هو وجود المخلوقات ، أو حال فيها ، أو لا هذا ولا هذا .

                  فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي [13] : النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية ، ويسمونها القوة القدسية ; فلهذا جعلوا الولاية فوق النبوة .

                  وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة ، لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله [14] ، وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة ، فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء ، وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة ، وهؤلاء يعظمون أمر الإمامة ، حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء ، والإمام أعظم من النبي ، كما يقوله الإسماعيلية .

                  وكلاهما أساطين الفلاسفة [15] الذين يجعلون النبي فيلسوفا ، ويقولون : إنه يختص بقوة قدسية ، ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف ، ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي . ويزعمون أن النبوة [ ص: 24 ] مكتسبة ، وهؤلاء يقولون [16] : إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات ، من حصلت له فهو نبي : أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم ، وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولى العالم ، وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله ، ومرئيا في نفسه ، ومسموعا في نفسه .

                  هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة ، وعنه أخذ ذلك الغزالي في كتبه " المضنون بها على غير أهلها " .

                  وهذا القدر الذي ذكروه يحصل لخلق كثير من آحاد الناس ومن المؤمنين ، وليس هو من أفضل عموم المؤمنين ، فضلا عن كونه نبيا ، كما بسط في موضعه .

                  وهؤلاء قالوا هذا لما احتاجوا إلى الكلام [17] في النبوة على أصول سلفهم الدهرية ، القائلين بأن الأفلاك قديمة أزلية ، لا مفعولة لفاعل بقدرته واختياره ، وأنكروا علمه بالجزئيات ، ونحو ذلك من أصولهم الفاسدة ; فتكلم هؤلاء في النبوة على أصول أولئك .

                  وأما القدماء - أرسطو وأمثاله - فليس لهم في النبوة كلام محصل . والواحد [18] من هؤلاء يطلب أن يصير نبيا ، كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبيا ، وكان قد جمع بين النظر والتأله ، وسلك نحوا من مسلك الباطنية ، وجمع بين فلسفة الفرس واليونان ، وعظم أمر الأنوار ، وقرب دين المجوس الأول ، وهي نسخة الباطنية الإسماعيلية ، وكان له [ ص: 25 ] يد في السحر والسيمياء ، فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين .

                  وكذلك ابن سبعين ، الذي جاء من المغرب إلى مكة ، وكان يطلب أن يصير نبيا ، وجدد غار حراء الذي نزل فيه الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء ، وحكي عنه أنه كان يقول : لقد ذرب ابن آمنة [19] حيث قال : " لا نبي بعدي " . ب وكان بارعا في الفلسفة ، وفي تصوف المتفلسفة ، وما يتعلق بذلك .

                  وهو ، وابن عربي ، وأمثالهما كالصدر القونوي ، وابن الفارض ، والتلمساني : منتهى أمرهم القول بوحدة الوجود ، وأن الوجود [20] الواجب القديم الخالق هو الوجود الممكن المحدث المخلوق ، ما ثم لا غير [21] ولا سوى ، لكن لما رأوا تعدد المخلوقات صاروا تارة يقولون : مظاهر ومجالي .

                  فإذا قيل لهم : فإن كانت المظاهر أمرا وجوديا تعدد [22] الوجود ، وإلا لم يكن لها حينئذ حقيقة . وما هو نحو هذا الكلام ، الذي يبين أن الوجود نوعان خالق ومخلوق .

                  قالوا : نحن نثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ، ومن [ ص: 26 ] أراد أن يكون محققا مثلنا فلا بد أن يلتزم [23] الجمع بين النقيضين ، وأن الجسم الواحد يكون في وقت واحد في موضعين .

                  وهؤلاء الأصناف قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع ، فإن هؤلاء يكثرون في الدول الجاهلية [24] ، وعامتهم تميل إلى التشيع ، كما عليه ابن عربي ، وابن سبعين وأمثالهما ; فاحتاج الناس إلى كشف حقائق هؤلاء ، وبيان أمورهم على الوجه الذي يعرف به الحق من الباطل ; فإن هؤلاء يدعون في أنفسهم أنهم أفضل أهل الأرض ، وأن الناس لا يفهمون حقيقة إشاراتهم ، فلما يسر الله أني بينت لهم حقائقهم ، وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم ، وتبين لهم بطلانه بالعقل الصريح والنقل الصحيح والكشف المطابق ، رجع عن ذلك من علمائهم [25] وفضلائهم من رجع ، وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم ، ويردونهم إلى الحق [26] .

                  وكان من أصول ضلالهم [27] ظنهم أن الوجود المطلق يوجد في الخارج ، إما : مطلق لا بشرط [28] ، ( * وإما مطلق بشرط ، فالمطلق لا [ ص: 27 ] بشرط * ) [29] الذي يسمونه الكلي الطبيعي ، إذا قيل : إنه موجود في الخارج : فإن الذي يوجد في الخارج مقيدا معينا هو مطلق في الذهن ، مقيد في الخارج . وأما من زعم أن في الذهن [30] شيئا مطلقا وهو مطلق حال تحققه في الخارج ، فهو غالط غلطا ضل فيه كثير من أهل المنطق والفلسفة .

                  وأما المطلق بشرط الإطلاق فهو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية والسلبية ، كما يوجد الإنسان مجردا عن كل قيد . فإذا قلت : موجود أو معدوم ، أو واحد أو كثير ، أو في الذهن أو في الخارج - كان ذلك قيدا زائدا على الحقيقة المطلقة بشرط الإطلاق .

                  وهكذا الوجود تأخذه مجردا عن كل قيد ثبوتي وسلبي ، فلا تصفه ، لا بالصفات السلبية ولا الثبوتية .

                  وهذا [31] هو واجب الوجود عند أئمة الباطنية ، كأبي يعقوب السجستاني صاحب " الأقاليد الملكوتية " وأمثاله . لكن من هؤلاء من لا يعرف : يرفع [32] النقيضين ، فيقول : لا موجود ولا معدوم ، ومنهم من يقول : بل أمسك عن إثبات أحد النقيضين ، فلا أقول : موجود ولا معدوم [33] ، كأبي يعقوب ، وهو منتهى تجريد هؤلاء القائلين بوحدة الوجود .

                  [ ص: 28 ] وابن سينا وأتباعه يقولون : الوجود الواجب هو الوجود المقيد بسلب الأمور الثبوتية دون السلبية ، وهذا أبعد عن الوجود في الخارج من المقيد بسلب الوجود والعدم ، وإن كان ذلك ممتنعا في الموجود والمعدوم .

                  فقلت لأولئك المدعين للتحقيق : أنتم بنيتم أمركم على القوانين المنطقية ، وهذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق ، المقيد بسلب النقيضين عنه ، لا يوجد في الخارج ( * باتفاق العقلاء ، وإنما يقدر في الذهن تقديرا ، وإلا فإذا قدرنا إنسانا مطلقا ، واشترطنا فيه أن لا يكون موجودا ولا معدوما ، ولا واحدا ولا كثيرا ، لم يوجد في الخارج ، بل نفرض في الذهن ، كما نفرض الجمع بين * ) [34] النقيضين ، ففرض رفع [35] النقيضين كفرض الجمع بين النقيضين .

                  ولهذا كان هؤلاء تارة يصفونه بجمع النقيضين أو الإمساك عنهما ، كما يفعل ابن عربي وغيره كثيرا [36] ، وتارة يجمعون بين هذا وهذا ، كما يوجد أيضا في كلام أصحاب " البطاقة " وغيرهم .

                  فإذا قالوا مع ذلك : إنه مبدع العالم ، وشرطوا فيه أنه لا يوصف بثبوت ولا انتفاء [37] - كان تناقضا ; فإن كونه مبدعا لا يخرج عن هذا وهذا .

                  وكذلك إذا قالوا موجود واجب ، وشرطوا فيه التجريد عن النقيضين - كان تناقضا .

                  [ ص: 29 ] وحقيقة قولهم : موجود لا موجود ، وواجب لا واجب ، وهذا منتهى أمرهم ، وهو الجمع بين النقيضين ، أو رفع النقيضين .

                  ولهذا يصيرون إلى الحيرة ويعظمونها ، وهي عندهم منتهى معرفة الأنبياء والأولياء ، والأئمة والفلاسفة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية