الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قول الرافضي : " إن واصل بن عطاء أخذ عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية " .

                  فيقال : إن [ الحسن بن ] محمد بن الحنفية [1] قد وضع كتابا في الإرجاء ، نقيض قول المعتزلة . ذكر هذا غير واحد من أهل العلم [2] ، وهذا يناقض مذهب المعتزلة الذي يقول به واصل بن عطاء ، ويقال إنه أخذه عن أبي هاشم [3] .

                  [ ص: 8 ] وقيل : إن أبا هاشم هذا صنف كتابا أنكر عليه ، لم يوافقه عليه أخوه ولا أهل بيته ، ولا أخذه عن أبيه .

                  وبكل حال الكتاب الذي نسب إلى الحسن يناقض ما ينسب [4] إلى أبي هاشم ، وكلاهما قد قيل : إنه رجع عن ذلك [5] ، ويمتنع أن يكونا أخذا هذين المتناقضين عن أبيهما محمد بن الحنفية ، وليس نسبة أحدهما إلى محمد بأولى من الآخر ; فبطل القطع بكون محمد بن الحنفية كان يقول بهذا وبهذا .

                  بل المقطوع به [6] أن محمدا ، مع براءته من قول المرجئة ، فهو من قول المعتزلة أعظم براءة ، وأبوه علي أعظم براءة من المعتزلة والمرجئة منه .

                  وأما الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذا لأبي علي الجبائي ، لكنه [ ص: 9 ] فارقه ورجع عن جمل [7] مذهبه ، وإن كان قد بقي عليه شيء من أصول مذهبه ، لكنه خالفه في نفي الصفات ، وسلك فيها طريقة ابن كلاب ، وخالفهم في القدر ومسائل الإيمان والأسماء والأحكام ، وناقضهم في ذلك ، أكثر من مناقضة حسين النجار وضرار بن عمرو ، ونحوهما ممن هو متوسط في هذا الباب ، كجمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث ، حتى مال في ذلك إلى قول جهم ، وخالفهم في الوعيد ، وقال بمذهب الجماعة ، وانتسب إلى مذهب أهل الحديث والسنة ، كأحمد بن حنبل وأمثاله ، وبهذا اشتهر عند الناس .

                  فالقدر الذي يحمد من مذهبه ، ( * هو ما وافق فيه أهل السنة والحديث ، كالجمل الجامعة . وأما القدر الذي يذم من مذهبه ، فهو ما وافق فيه المخالفين للسنة والحديث ، من المعتزلة والمرجئة ، والجهمية والقدرية ، ونحو ذلك .

                  وأخذ مذهب أهل الحديث عن * ) [8] زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة [9] ، وعن طائفة ببغداد من أصحاب أحمد وغيرهم ، وذكر في المقالات ما اعتقد أنه مذهب أهل السنة والحديث ، وقال [10] : " بكل ما ذكرنا من قولهم نقول ، وإليه نذهب " .

                  [ ص: 10 ] وهذا المذهب هو من أبعد المذاهب عن مذهب الجهمية والقدرية . وأما الرافضة [11] - كهذا المصنف وأمثاله من متأخري الإمامية - فإنهم جمعوا أخس المذاهب : مذهب الجهمية في الصفات ، ومذهب القدرية في أفعال العباد ، ومذهب الرافضة في الإمامة والتفضيل .

                  فتبين أن ما نقل عن علي من الكلام فهو كذب عليه ، ولا مدح فيه . وأعظم من ذلك أن القرامطة الباطنية ينسبون قولهم إليه ، وأنه أعطي علما باطنا مخالفا للظاهر .

                  وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال : " والذي فلق [12] الحبة ، وبرأ النسمة ، ما عهد إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا لم يعهده [13] إلى الناس ، إلا ما في هذه الصحيفة ، وكان فيها : العقل ، وفكاك الأسرى ، وأن لا يقتل مسلم بكافر ، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في الكتاب " [14] .

                  ومن الناس من ينسب إليه الكلام في الحوادث ، كالجفر وغيره ، وآخرون ينسبون إليه البطاقة وأمورا أخرى ، يعلم أن عليا بريء منها .

                  [ ص: 11 ] وكذلك جعفر الصادق قد كذب عليه من الأكاذيب ما لا يعلمه إلا الله ، حتى نسب إليه القول في أحكام النجوم والرعود ، والبروق والقرعة ، التي هي من الاستقسام بالأزلام ، ونسب إليه كتاب " منافع سور القرآن " ، وغير ذلك مما يعلم العلماء أن جعفرا - رضي الله عنه - بريء من ذلك ، وحتى نسب إليه أنواع من تفسير القرآن على طريقة الباطنية ، كما ذكر ذلك عنه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب " حقائق التفسير " ، فذكر قطعة من التفاسير التي هي من تفاسيره ، وهي من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، وتبديل مراد الله تعالى من الآيات بغير مراده [15] .

                  وكل ذي علم بحاله يعلم أنه كان بريئا من هذه الأقوال ، والكذب على الله في تفسير كتابه العزيز .

                  وكذلك قد نسب إليه بعضهم الكتاب الذي يسمى " رسائل إخوان الكدر " [16] ، وهذا الكتاب صنف بعد جعفر الصادق بأكثر من مائتي سنة ; فإن جعفرا توفي سنة ثمان وأربعين ومائة ، وهذا الكتاب صنف في أثناء الدولة العبيدية الباطنية الإسماعيلية ، لما استولوا على مصر ، وبنوا [17] القاهرة ، صنفه طائفة من الذين أرادوا أن يجمعوا بين الفلسفة والشريعة والتشيع ، كما كان يسلكه هؤلاء العبيديون ، الذين كانوا يدعون أنهم من ولد علي .

                  [ ص: 12 ] وأهل العلم بالنسب يعلمون أن نسبهم باطل ، وأن جدهم [18] يهودي في الباطن وفي الظاهر ، وجدهم ديصاني من المجوس ، تزوج امرأة هذا اليهودي ، وكان ابنه ربيبا لمجوسي ; فانتسب إلى زوج أمه المجوسي ، وكانوا ينتسبون إلى باهلة ، على أنهم من مواليهم ، وادعى هو أنه من ذرية محمد بن إسماعيل بن جعفر ، وإليه انتسب الإسماعيلية ، وادعوا أن الحق معهم دون الاثني عشرية ; فإن الاثني عشرية يدعون إمامة موسى بن جعفر ، وهؤلاء يدعون إمامة إسماعيل بن جعفر .

                  وأئمة هؤلاء في الباطن ملاحدة زنادقة ، شر من الغالية ، ليسوا من جنس الاثني عشرية ، لكن إنما طرقهم على [19] هذه المذاهب الفاسدة ونسبتها إلى علي ما فعلته الاثنا عشرية وأمثالهم ، كذب أولئك عليه نوعا من الكذب [20] ، ففرعه هؤلاء ، وزادوا عليه ، حتى نسبوا الإلحاد إليه ، كما نسب هؤلاء إليه مذهب الجهمية والقدرية وغير ذلك .

                  ولما كان هؤلاء الملاحدة ، من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ، ينتسبون [21] إلى علي ، وهم طرقية وعشرية وغرباء ، وأمثال هؤلاء صاروا يضيفون إلى علي ما برأه الله منه ، حتى صار اللصوص من العشرية يزعمون أن معهم كتابا من علي ، بالإذن لهم في سرقة أموال الناس ، كما ادعت اليهود الخيابرة أن معهم كتابا من علي بإسقاط الجزية عنهم ، [ ص: 13 ] وإباحة عشر أموال أنفسهم [22] ، وغير ذلك من الأمور المخالفة لدين الإسلام .

                  وقد أجمع العلماء على أن هذا كله كذب على علي ، وهو من أبرأ الناس من [23] هذا كله .

                  ثم صار هؤلاء يعدون ما افتروه عليه من هذه الأمور مدحا له ، يفضلونه بها على الخلفاء قبله ، ويجعلون تنزه أولئك من مثل الأباطيل [24] عيبا فيهم وبغضا ، حتى صار [25] رؤوس الباطنية تجعل منتهى الإسلام وغايته هو الإقرار [26] بربوبية الأفلاك ، وأنه ليس وراء الأفلاك صانع لها ولا خالق ، ويجعلون هذا هو باطن دين الإسلام الذي بعث به الرسول ، وأن هذا هو تأويله ، وأن هذا التأويل ألقاه علي إلى الخواص ، حتى اتصل بمحمد بن إسماعيل بن جعفر ، وهو عندهم القائم ، ودولته هي القائمة عندهم ، وأنه ينسخ ملة محمد بن عبد الله ، ويظهر التأويلات الباطنة التي يكتمها التي أسرها إلى علي .

                  وصار هؤلاء يسقطون عن خواص أصحابهم الصلاة والزكاة والصيام والحج ، ويبيحون لهم المحرمات من الفواحش والظلم والمنكر [27] وغير ذلك .

                  [ ص: 14 ] وصنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا معروفة ; لما علموه من إفسادهم الدين والدنيا ، وصنف فيهم القاضي عبد الجبار ، والقاضي أبو بكر بن الطيب ، وأبو يعلى ، والغزالي ، وابن عقيل ، وأبو عبد الله الشهرستاني ، وطوائف غير هؤلاء .

                  وهم الملاحدة الذين ظهروا بالمشرق والمغرب ، واليمن والشام ، ومواضع متعددة ، كأصحاب الألموت [28] وأمثالهم .

                  وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء على المسلمين [29] وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة ; لفرط جهلهم وأهوائهم ، وبعدهم من دين الإسلام .

                  وبهذا وصوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع ، وصاروا يستعينون [30] بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ، ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء ، حتى فعلوا في أهل الإيمان ما لم يفعله عبدة الأوثان والصلبان ، وكان حقيقة أمرهم دين فرعون ، الذي هو شر [31] من دين اليهود والنصارى وعباد [32] الأصنام .

                  وأول دعوتهم التشيع ، وآخرها الانسلاخ من الإسلام ، بل من الملل كلها .

                  ومن عرف أحوال الإسلام ، وتقلب الناس فيه ; فلا بد أنه قد عرف شيئا من هذا .

                  [ ص: 15 ] وهذا تصديق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه : " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " . قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن " [33] .

                  وفي الحديث الآخر المتفق عليه : " لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع " . قالوا : يا رسول الله ، فارس والروم ؟ قال : " ومن الناس إلا هؤلاء ؟ " [34] .

                  وهذا بعينه صار في هؤلاء المنتسبين إلى التشيع ; فإن هؤلاء الإسماعيلية أخذوا من مذاهب الفرس ، وقولهم بالأصلين : النور والظلمة ، وغير ذلك أمورا ، وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية ، وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان ، وقولهم بالنفس والعقل ، وغير ذلك أمورا ، ومزجوا هذا بهذا ، وسموا ذلك باصطلاحهم : السابق والتالي ، وجعلوه هو القلم واللوح ، وأن القلم هو العقل ، الذي يقول هؤلاء : إنه أول المخلوقات ، واحتجوا بحديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أول ما خلق الله العقل ، قال له : أقبل ، فأقبل . فقال له : أدبر فأدبر . فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك ، فبك آخذ ، وبك أعطي ، وبك الثواب ، وبك العقاب .

                  وهذا الحديث رواه بعض من صنف في فضائل العقل ، كداود بن [ ص: 16 ] المحبر [35] ونحوه ، وهو حديث موضوع كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل المعرفة بالحديث ، كما ذكر ذلك أبو حاتم بن حبان البستي ، والدارقطني ، وابن الجوزي وغيرهم [36] ، لكن [37] لما وافق رأي هؤلاء استدلوا به على عادتهم ، مع أن لفظ الحديث يناقض مذهبهم .

                  فإن لفظه " أول " بالنصب . وروي أنه " لما خلق الله العقل " أي أنه قال له هذا الكلام في أول أوقات خلقه ، فالمراد به أنه خاطبه حين خلقه ، لا أنه أول المخلوقات ; ولهذا قال في أثنائه : " ما خلقت خلقا أكرم علي منك " فدل على أنه خلق قبله غيره ، ووصفه بأنه " يقبل ويدبر " [ ص: 17 ] والعقل الأول [38] عندهم يمتنع عليه هذا . وقال : " بك ، آخذ ، وبك أعطي ، وبك الثواب " وهذا العقل عندهم ( * هو رب العالم كله ، هو المبدع له كله ، وهو معلول الأول ، لا يختص به أربعة أعراض ، بل هو عندهم * ) [39] مبدع الجواهر كلها : العلوية ، والسفلية ، والحسية [40] ، والعقلية .

                  والعقل في لغة المسلمين عرض قائم بغيره وإما قوة في النفس [41] .

                  وأما مصدر [ العقل ] [42] : عقل يعقل عقلا ، وأما العاقل فلا يسمى في لغتهم العقل .

                  وهؤلاء في اصطلاحهم العقل جوهر قائم بنفسه . وقد بسطنا الكلام على هذا ، وبينا حقيقة أمرهم بالمعقول والمنقول ، وأن ما يثبتونه من المفارقات عند التحقيق لا يرجع إلا إلى أمر وجودها في الأذهان لا في الأعيان ، إلا النفس الناطقة ، وقد أخطئوا في بعض صفاتها [43] .

                  وهؤلاء قولهم : إن العالم معلول علة قديمة أزلية واجبة الوجود ، وإن العالم لازم لها ، لكن حقيقة قولهم : إنه علة غائية ، وإن الأفلاك تتحرك حركة إرادية شوقية للتشبه به ، وهو محرك لها ، كما يحرك [ ص: 18 ] المحبوب المتشبه به لمحبه الذي يتشبه به ، ومثل هذا لا يوجب أن يكون هو المحدث لتصوراته وإرادته وحركاته .

                  فقولهم في حركة الفلك من جنس قول القدرية في أفعال [44] الحيوان ، لكن هؤلاء يقولون : حركة الفلك هي سبب الحوادث . فحقيقة قولهم : إن الحوادث كلها تحدث بلا محدث أصلا ، وإن الله لا يفعل شيئا . ولكل مقام مقال .

                  وهم جعلوا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الباطن في الوجود ولواحقه ، وقسموا الوجود إلى جوهر وعرض ، ثم قسموا الأعراض إلى تسعة أجناس ، ومنهم من ردها إلى خمسة ، ومنهم من ردها إلى ثلاثة ; فإنه لم يقم لها دليل على الحصر . وقسموا الجواهر [45] إلى خمسة أنواع : العقل ، والنفس ، والمادة ، والصورة ، والجسم .

                  وواجب الوجود تارة يسمونه جوهرا ، وهو قول قدمائهم كأرسطو وغيره ، وتارة لا يسمونه بذلك ، كما قاله ابن سينا . وكان قدماء القوم يتصورون في أنفسهم أمورا عقلية ، فيظنونها ثابتة في الخارج ، كما يحكى عن شيعة فيثاغورس وأفلاطون [46] ، وأن أولئك أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج ، وهؤلاء أثبتوا المثل الأفلاطونية ، وهي الكليات المجردة عن الأعيان ، وأثبتوا المادة المجردة ، وهي الهيولى الأولية ، وأثبتوا المدة [ ص: 19 ] المجردة ، وهي الدهر العقلي المجرد عن الجسم وأعراضه ، وأثبتوا الفضاء [47] المجرد عن الجسم وأعراضه .

                  وأرسطو وأتباعه خالفوا سلفهم في ذلك ، ولم يثبتوا من هذه شيئا مجردا ، ولكن أثبتوا المادة المقارنة للصورة ، وأثبتوا الكليات المقارنة للأعيان ، وأثبتوا العقول العشرة . وأما النفس الفلكية فأكثرهم يجعلها قوة جسمانية ، ومنهم من يقول : هي جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان .

                  ولفظ " الصورة " يريدون به تارة ما هو عرض ، كالصورة الصناعية ، مثل شكل السرير والخاتم والسيف ، وهذه عرض قائم بمحله [48] ، والمادة هنا جوهر قائم بنفسه . ويريدون بالصورة تارة الصورة الطبيعية ، وبالمادة المادة [49] الطبيعية .

                  ولا ريب أن الحيوان والمعادن والنبات [50] لها صورة هي خلقت من مواد ، لكن [ يعنون ] [51] بالصورة جوهرا قائما بنفسه ، وبالمادة جوهرا آخر مقارنا لهذه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية