والمسلمون لا يستجيز أحد منهم محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن الاحتجاج بذلك عليهم يحتاج إلى ثلاث مقدمات : التكذيب بشيء مما أنزل على من قبل
إحداها : ثبوت ذلك على الأنبياء عليهم السلام .
والثانية : صحة الترجمة إلى اللسان العربي ، أو اللسان الذي .
[ ص: 138 ] يخاطب به كالرومي ، والسرياني ، فإن موسى ، وداود والمسيح ، وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل ، كانت عبرانية ، ومن قال إن لسان لسان المسيح كان سريانيا ، أو روميا فقد غلط .
والثالثة : تفسير ذلك الكلام ومعرفة معناه .
فلهذا كان المسلمون لا يردون شيئا من الحجج بتكذيب أحد من الأنبياء في شيء قاله ولكن قد يكذبون الناقل عنهم ، أو يفسرون المنقول عنهم بما أرادوه ، أو بمعنى آخر على وجه الغلط .
وإن كان بعض المسلمين قد يغلط في تكذيب بعض النقل ، أو تأويل بعض المنقول عنهم ، فهو كما يغلط من يغلط منهم ، ومن سائر أهل الملل في التكذيب على وجه الغلط ببعض ما ينقل عمن يقر بنبوته ، أو في تأويل المنقول عنه .
وهذا بخلاف تكذيب نفس النبي ، فإنه كفر صريح ، بخلاف أهل الكتاب ، فإنه لا يتم مرادهم إلا بتكذيبهم ببعض ما أنزل الله ، ومتى كذب بكلمة واحدة مما أخبر به من قال إنه رسول الله بطل احتجاجه بسائر كلامه ، فكانت حجتهم التي يحتجون بها داحضة ، وذلك أن الذي يقول إنه رسول الله ، إما أن يكون صادقا في قوله : إني رسول الله ، وفي جميع ما يخبر به عن الله ، وإما أن يكون كاذبا ، ولو في كلمة واحدة عن الله .
فإن كان صادقا في ذلك امتنع أن يكذب على الله في شيء مما يبلغه عن الله ، فإن كان ممن [ ص: 139 ] افترى على الله الكذب ، ولم يكن رسولا من رسل الله ، ومن افترى على الله الكذب تبين أنه من المتنبئين الكذابين . من كذب على الله ، ولو في كلمة واحدة
ومثل هذا لا يجوز أن يحتج بخبره عن الله ، فإنه قد علم أن الله لم يرسله ، وإذا قال هو قولا ، وكان صدقا ، كان كما يقوله غيره يقبل ، لا لأنه بلغه عن الله ولا لأنه رسول عن الله ، بل كما يقبل من المشركين وسائر الكفار ما يقولونه من الحق ، فإن عباد الأوثان إذا قالوا عن الله ما هو حق مثل إقرار مشركي العرب بأن الله خلق السماوات والأرض لم نكذبهم في ذلك ، وإن كانوا كفارا ، وكذلك إذا قال الكافر إن الله حي قادر خالق ، لم نكذبه في هذا القول .
، وما قالوه غير ذلك فهم فيه كسائر الناس ، بل كأمثالهم من الكذابين إن عرف صحة ذلك القول من جهة غيرهم قبل لقيام الدليل على صحته ، لا لكونهم قالوه ، وإن لم يعرف صحته من جهة غيرهم ، لم يكن في قولهم له مع ثبوت كذبهم على الله حجة . فمن كذب على الله في كلمة واحدة ، قال إن الله أنزلها عليه ، ولم يكن الله أنزلها عليه ، فهو من الكذابين الذين لا يجوز أن يحتج بشيء من أقوالهم التي يقولون إنهم يبلغونها عن الله تبارك وتعالى
وحينئذ ، فهؤلاء إن أقروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه صادق فيما بلغه عن الله من الكتاب والحكمة ، وجب عليهم الإيمان بكل ما ثبت عنه من الكتاب والحكمة ، كما يجب الإيمان بكل ما جاءت به الرسل .
وإن كذبوه في كلمة واحدة ، ، أو شكوا في صدقه فيها ، امتنع مع [ ص: 140 ] ذلك أن يقروا بأنه رسول الله ، وإذا لم يقروا بأنه رسول الله ، كان احتجاجهم بما قاله كاحتجاجهم بسائر ما يقوله من ليس من الأنبياء ، بل من الكذابين ، أو من المشكوك في صدقهم .
ومعلوم أن من عرف كذبه على الله فيما يقول : إنه يبلغه عن الله أو شك في صدقه ، لا يعلم أنه رسول الله ، ولا أنه صادق في كل ما يقوله ، ويبلغه عن الله ، وإذا لم يعلم ذلك منه لم يعرف أن الله أنزل إليه شيئا ، بل إذا عرف كذبه عرف أن الله لم ينزل إليه شيئا ولا أرسله ، كما عرف كذب مسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وطليحة الأسدي ، وكما عرف كذب ماني ، وأمثاله ، [ ص: 141 ] وغيرهم من . المتنبئين الكذابين
وإذا شك في صدقه في كلمة واحدة ، بل جوز أن يكون كذبها عمدا ، أو خطأ لم يجز تصديقه مع ذلك في سائر ما يبلغه عن الله ; لأن تصديقه فيما يخبر به عن الله ، إنما يكون إذا كان رسولا صادقا لا يكذب عمدا ولا خطأ ، فإن كل من أرسله الله لا بد أن يكون صادقا في كل ما يبلغه عن الله ، لا يكذب فيه عمدا ولا خطأ .