[ ص: 130 ] إذا عرف هذا ، فهؤلاء القوم في هذا المقام محمدا صلى الله عليه وسلم لم يرسل إليهم ، بل إلى أهل الجاهلية من العرب فهذه الدعوى على وجهين : ادعوا أن
إما أن يقولوا : إنه بنفسه لم يدع أنه أرسل إليهم ، ولكن أمته ادعوا له ذلك .
وإما أن يقولوا : إنه ادعى أنه أرسل إليهم وهو كاذب في هذه الدعوى ، وكلامهم في صدر هذا الكتاب يقتضي الوجه الأول .
وفي آخره قد يقال : إنهم أشاروا إلى الوجه الثاني ، لكنهم في الحقيقة لم ينكروا رسالته إلى العرب ، وإنما أنكروا رسالته إليهم .
وأما رسالته إلى العرب فلم يصرحوا بتصديقه فيها ولا بتكذيبه ، وإن كان ظاهر لفظهم يقتضي الإقرار برسالته إلى العرب ، بل صدقوا بما وافق قولهم وكذبوا بما خالف قولهم .
ونحن نبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ثم نتكلم على الوجهين جميعا ، ونبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء من القرآن على صحة دينهم ، بوجه من [ ص: 131 ] الوجوه ، ونبين أن القرآن ، لا حجة فيه لهم ، ولا فيه تناقض .
وكذلك كتب الأنبياء المتقدمين ، التي يحتجون بها هي حجة عليهم ليس في شيء منها حجة لهم ، ولو لم يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فكيف والكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم موافق لسائر كلام الأنبياء عليهم السلام في إبطال دينهم ، وقولهم في التثليث ، والاتحاد ، وغير ذلك ، مع العقل الصريح . فهم احتجوا في كتابهم هذا بالقرآن ، وبما جاءت به الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم مع العقل .
ونحن نبين أنه لا حجة لهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا فيما جاءت به الأنبياء قبله ، ولا في العقل بل ما جاء به محمد ، وما جاءت به الأنبياء قبله مع صريح العقل كلها براهين قطعية على فساد دينهم ، ولكن نذكر قبل ذلك أن احتجاجهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح بوجه من الوجوه ، وأنه لا يجوز أن يحتج بمجرد المنقول عن محمد صلى الله عليه وسلم من يكذبه في كلمة واحدة مما جاء به .
وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام ، بخلاف الاحتجاج بكلام غير الأنبياء ، فإن ذلك يمكن موافقة بعضه دون بعض ، وأما ما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام ، أو من قال إنه نبي ، [ ص: 132 ] فلا يمكن الاحتجاج ببعضه ، دون بعض سواء قدر صدقهم ، أو كذبهم .
فيقال لهم على كل تقدير ، سواء أقروا بنبوته إلى العرب ، أو غيرهم ، أو كذبوه في قوله إنه رسول الله ، أو سكتوا عن هذا وهذا ، أو صدقوه في البعض دون البعض .
إن احتجاجكم على صحة ما تخالفون فيه المسلمين ، مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، لا يصح بوجه من الوجوه ; فاحتجاجكم على أنه لم يرسل إليكم ، أو على صحة دينكم بشيء من القرآن حجة داحضة على كل تقدير .
مع أنا سنبين - إن شاء الله تعالى - أن الكتب الإلهية كلها مع المعقول ، لا حجة لكم في شيء منها ، بل كلها حجة عليكم .
وهذا بخلاف المسلمين ، فإنه يصح احتجاجهم على أهل الكتاب اليهود والنصارى بما جاءت به الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وأهل الكتاب لا يصح احتجاجهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن المسلمين مقرون بنبوة موسى ، وعيسى وداود ، وسليمان ، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام ، وعندهم يجب ، وهذا أصل دين المسلمين ، فمن كفر بنبي واحد ، أو كتاب واحد ، فهو عندهم كافر ، بل من الإيمان بكل كتاب أنزله الله ، وبكل نبي أرسله الله ، فهو عندهم كافر [ ص: 133 ] مباح الدم كما قال تعالى : سب نبيا من الأنبياء قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم .
وقال تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
وقال تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين .
والكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله ، يتناول التوراة والإنجيل ، كما يتناول القرآن ، كقوله تعالى : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم .
وقوله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله .
[ ص: 134 ] وفي القراءة الأخرى ( وكتابه ) ، كقوله تعالى : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم .
وقوله تعالى : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون .
فذكر أن هذا الكتاب الذي أنزل عليه هدى للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، والذين يؤمنون بما أنزل إليه ، وما أنزل من قبله ، وبالآخرة هم يوقنون ، ثم أخبر أن هؤلاء هم المفلحون ، فحصر الفلاح في هؤلاء ، فلا يكون مفلحا إلا من كان من هؤلاء .
وقوله تعالى والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . هو صفة للمذكورين ليس هؤلاء صنفا آخر ، فإن عطف الشيء على الشيء قد يكون لتغاير الصفات ، وإن كانت الذات واحدة هذا هو الصحيح هنا ، وإن كان قد قيل إن الصنف الثاني مؤمنو أهل الكتاب ، [ ص: 135 ] والأول هم المسلمون ، فهذا ضعيف ، وأفسد منه قول هؤلاء [ ص: 136 ] النصارى : إن الكتاب المراد به الإنجيل ، كما سيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى .
والعطف لتغاير الصفات ، كقوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى .
وهو سبحانه الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاء أحوى .
وقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون . إلى آخر الآيات
وكذلك قوله : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك .
[ ص: 137 ] هم الذين يؤمنون بالغيب ، ويقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون ، وهم الذين على هدى من ربهم ، وهم المفلحون .
ولكن فصل إيمانهم بعد أن أجمله ; لئلا يظن ظان أن مجرد دعوى الإيمان بالغيب ينفع ، وإن لم يؤمن بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إلى من قبله ، فلو محمد صلى الله عليه وسلم ، أو ببعض ما أنزل على من قبله ، لم يكن مؤمنا ، حتى يؤمن بجميع ما أنزل إليه ، وما أنزل إلى من قبله ، ولو كانوا صنفا آخر لكان المفلحون قسمين : قسما يؤمنون بالغيب ، ولا يؤمنون بما أنزل إليه ، وما أنزل إلى من قبله ، وقسما يؤمنون بما أنزل إليه ، وما أنزل إلى من قبله ، ولا يؤمنون بالغيب ، وهذا باطل عند جميع الأمم المؤمنين قال أحد من الناس : أنا أؤمن بالغيب ، وهو مع ذلك لا يؤمن ببعض ما أنزل على واليهود والنصارى ، فإن الإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله يتضمن الإيمان بالغيب ، . والإيمان بالغيب لا يتم إلا بالإيمان بجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى