الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
والمسلمون لا يستجيز أحد منهم التكذيب بشيء مما أنزل على من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن الاحتجاج بذلك عليهم يحتاج إلى ثلاث مقدمات :

إحداها : ثبوت ذلك على الأنبياء عليهم السلام .

والثانية : صحة الترجمة إلى اللسان العربي ، أو اللسان الذي .

[ ص: 138 ] يخاطب به كالرومي ، والسرياني ، فإن لسان موسى ، وداود والمسيح ، وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل ، كانت عبرانية ، ومن قال إن لسان المسيح كان سريانيا ، أو روميا فقد غلط .

والثالثة : تفسير ذلك الكلام ومعرفة معناه .

فلهذا كان المسلمون لا يردون شيئا من الحجج بتكذيب أحد من الأنبياء في شيء قاله ولكن قد يكذبون الناقل عنهم ، أو يفسرون المنقول عنهم بما أرادوه ، أو بمعنى آخر على وجه الغلط .

وإن كان بعض المسلمين قد يغلط في تكذيب بعض النقل ، أو تأويل بعض المنقول عنهم ، فهو كما يغلط من يغلط منهم ، ومن سائر أهل الملل في التكذيب على وجه الغلط ببعض ما ينقل عمن يقر بنبوته ، أو في تأويل المنقول عنه .

وهذا بخلاف تكذيب نفس النبي ، فإنه كفر صريح ، بخلاف أهل الكتاب ، فإنه لا يتم مرادهم إلا بتكذيبهم ببعض ما أنزل الله ، ومتى كذب بكلمة واحدة مما أخبر به من قال إنه رسول الله بطل احتجاجه بسائر كلامه ، فكانت حجتهم التي يحتجون بها داحضة ، وذلك أن الذي يقول إنه رسول الله ، إما أن يكون صادقا في قوله : إني رسول الله ، وفي جميع ما يخبر به عن الله ، وإما أن يكون كاذبا ، ولو في كلمة واحدة عن الله .

فإن كان صادقا في ذلك امتنع أن يكذب على الله في شيء مما يبلغه عن الله ، فإن من كذب على الله ، ولو في كلمة واحدة كان ممن [ ص: 139 ] افترى على الله الكذب ، ولم يكن رسولا من رسل الله ، ومن افترى على الله الكذب تبين أنه من المتنبئين الكذابين .

ومثل هذا لا يجوز أن يحتج بخبره عن الله ، فإنه قد علم أن الله لم يرسله ، وإذا قال هو قولا ، وكان صدقا ، كان كما يقوله غيره يقبل ، لا لأنه بلغه عن الله ولا لأنه رسول عن الله ، بل كما يقبل من المشركين وسائر الكفار ما يقولونه من الحق ، فإن عباد الأوثان إذا قالوا عن الله ما هو حق مثل إقرار مشركي العرب بأن الله خلق السماوات والأرض لم نكذبهم في ذلك ، وإن كانوا كفارا ، وكذلك إذا قال الكافر إن الله حي قادر خالق ، لم نكذبه في هذا القول .

فمن كذب على الله في كلمة واحدة ، قال إن الله أنزلها عليه ، ولم يكن الله أنزلها عليه ، فهو من الكذابين الذين لا يجوز أن يحتج بشيء من أقوالهم التي يقولون إنهم يبلغونها عن الله تبارك وتعالى ، وما قالوه غير ذلك فهم فيه كسائر الناس ، بل كأمثالهم من الكذابين إن عرف صحة ذلك القول من جهة غيرهم قبل لقيام الدليل على صحته ، لا لكونهم قالوه ، وإن لم يعرف صحته من جهة غيرهم ، لم يكن في قولهم له مع ثبوت كذبهم على الله حجة .

وحينئذ ، فهؤلاء إن أقروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه صادق فيما بلغه عن الله من الكتاب والحكمة ، وجب عليهم الإيمان بكل ما ثبت عنه من الكتاب والحكمة ، كما يجب الإيمان بكل ما جاءت به الرسل .

وإن كذبوه في كلمة واحدة ، ، أو شكوا في صدقه فيها ، امتنع مع [ ص: 140 ] ذلك أن يقروا بأنه رسول الله ، وإذا لم يقروا بأنه رسول الله ، كان احتجاجهم بما قاله كاحتجاجهم بسائر ما يقوله من ليس من الأنبياء ، بل من الكذابين ، أو من المشكوك في صدقهم .

ومعلوم أن من عرف كذبه على الله فيما يقول : إنه يبلغه عن الله أو شك في صدقه ، لا يعلم أنه رسول الله ، ولا أنه صادق في كل ما يقوله ، ويبلغه عن الله ، وإذا لم يعلم ذلك منه لم يعرف أن الله أنزل إليه شيئا ، بل إذا عرف كذبه عرف أن الله لم ينزل إليه شيئا ولا أرسله ، كما عرف كذب مسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وطليحة الأسدي ، وكما عرف كذب ماني ، وأمثاله ، [ ص: 141 ] وغيرهم من المتنبئين الكذابين .

وإذا شك في صدقه في كلمة واحدة ، بل جوز أن يكون كذبها عمدا ، أو خطأ لم يجز تصديقه مع ذلك في سائر ما يبلغه عن الله ; لأن تصديقه فيما يخبر به عن الله ، إنما يكون إذا كان رسولا صادقا لا يكذب عمدا ولا خطأ ، فإن كل من أرسله الله لا بد أن يكون صادقا في كل ما يبلغه عن الله ، لا يكذب فيه عمدا ولا خطأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية