[ ص: 197 ] قال : وفي ذلك العصر كتب بطريرك الإسكندرية  إلى أسقف بيت المقدس  وبطرك إنطاكية  وبطرك رومية  في كتاب فصح النصارى   وصومهم ، وكيف يستخرج من فصح اليهود  ، فوضعوا في ذلك كتبا كثيرة على ما هو عليه اليوم . 
قال : وذلك أن النصارى  كانوا بعد صعود سيدنا المسيح  إلى  [ ص: 198 ] السماء إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما ، ويفطرون كما فعل سيدنا يسوع  المسيح  ، لأن سيدنا المسيح  لما اعتمد بالأردن  خرج إلى البرية فأقام بها صائما أربعين يوما ، وكان النصارى  إذا أفصح اليهود  عيدوا هم الفصح . 
فوضع هؤلاء البطاركة حسابا للفصح ليصوم النصارى  أربعين يوما ، ويكون فطرهم يوم الفصح ليتم فرحهم بذلك . 
قلت : فقد أخبر عن المسيح  أنه لما صام أربعين يوما عقب المعمودية ، وكان يعيد مع اليهود  في عيدهم لا يعيد عقب صومه ، شاركه النصارى  في ذلك مدة ، فصاروا يصومون أربعين عقب الغطاس الذي هو نظير المعمودية ، ويعيدون مع اليهود  العيد . 
ثم إنهم بعد هذا ابتدعوا تغيير الصوم ، فلم يصوموا عقب الغطاس ، بل نقلوا الصوم إلى وقت يكون عيدهم مع عيد اليهود  ، فيكون عيدهم مع عيد اليهود  ، وهو فصح المسيح  ، ويكون ذلك وقت قيامته من قبره . 
قال : ومات " مرقص الملك   " وملك بعده " قمودوس قيصر   " برومية  اثنتي عشرة سنة ، وفي أيامه كان في أرض اليونانيين في مدينة " أفرغامس   " ، " جالينوس   " الحكيم صاحب صناعة الطب . 
وذكر " جالينوس   " في فهرست كتبه أنه ربى " قمودوس الملك   " . 
 [ ص: 199 ] وذكر " جالينوس   " في المقالة الأولى من الكتاب المعروف بـ ( كتاب أخلاق النفس ) : أنه كان في عصر " قمودوس الملك   " رجل يقال له " بولس   " طلبه " قمودوس الملك   " ليقتله ، فهرب منه ، وكان له غلامان ، فقبضهما الملك ، فضربهما الملك ، وطلب منهما أن يدلاه على مولاهما ، فلم يفعلا لكرم أنفسهما ونخوتهما وشدة محاماتهما على مولاهما ، فقتلهما . وأن من الإسكندر  إلى بولس  خمسمائة سنة وست عشرة سنة ، وذلك في السنة التاسعة من ملك " قمودوس قيصر   " فهذا ما ذكر جالينوس   . 
قال : وكان أيضا في أيام " ديمقراطيس   " الحكيم . 
قلت : هذه المدة أكثر مما ذكره " سعيد " هذا ، فإنه لم يذكر من المسيح  إلى هنا مائتا سنة ، بل ذكر إلى الخراب مائة وثلاثة وعشرين سنة ، وقد تقدم ذكره " لديمقراطيس   " قبل هذا . 
 [ ص: 200 ] قال : وفي عشر سنين من ملكه ظهرت الفرس فغلبت على " بابل   " ، وأمدوا فارس  ، وتملك " أزدشير بن ساسان   " بابل  من أهل أصطخر  ، وهو أول ملك ملك على فارس  في المرة الثانية . 
قال : ومات " قمودوس قيصر   " ملك الروم ، وملك بعده قيصر آخر ثلاثة أشهر ، ثم آخر ، وملك بعده برومية   " سويرس قيصر   " سبع عشرة سنة ، وذلك في أربع سنين من ملك " أزدشير   " . 
وكان هذا الملك شديدا ، قد أثار على النصارى  بلاء عظيما وعذابا كبيرا ، وقتل كل عالم منهم وقتل خلقا كثيرا ، واستشهد في أيامه خلق كثير من النصارى  في كل موضع ، ثم قتل كل من كان بمصر  والإسكندرية  من النصارى  ، وهدم الكنائس وبنى بالإسكندرية  هيكلا ،  [ ص: 201 ] وسماه هيكل الآلهة   . 
وملك بعده قيصر ، وهو " أنطونيوس   " الأصلع ست سنين ، وملك بعده قيصر آخر ثلاث عشرة سنة ، كانت النصارى  في أيامه في هدوء وسلامة ، وكانت أمه تحب النصارى  ، وفي أيامه سمي بطرك الإسكندرية   " بابا " أي الجد ، وملك بعده قيصر آخر ثلاث سنين ، وهذا أثار على النصارى  بلاء طويلا وحزنا عظيما ، وقتل منهم خلقا كثيرا وأخذ الناس بعبادة الأصنام ، وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا وقتل بترك أنطاكية  ، فلما سمع أسقف بيت المقدس  بقتله هرب وترك الكرسي . 
قال : ومات قيصر هذا في السنة الثانية من ملك " بهرام بن هرمز   " وملك بعده قيصر آخر ثلاثة أشهر ، ثم بعده آخر أربع سنين ،  [ ص: 202 ] واسمه " غرديانوس   " وفي ثلاث سنين من ملكه مات " بهرام بن هرمز   " وملك بعده " بهرام بن بهرام   " على الفرس تسع عشرة سنة . 
وفي أيامه ظهر رجل فارسي يقال له : " ماني   " فأظهر دين المانية  ، وزعم أنه نبي ، فأخذه " بهرام بن بهرام   " ملك الفرس فشقه نصفين ، وأخذ من أصحابه وممن يقول بقوله مائتي رجل ، فغرس رءوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا منكسين . 
وملك بعد قيصر هذا " فيلبس   " قيصر برومية  سبع سنين ، وآمن بالسيد المسيح  ، ووثب عليه قائد من قواده فقتله . 
ثم ملك بعده قيصر آخر اسمه " داقنوس   " وهو " دقيانوس   " وذلك من عشر سنين من ملك " بهرام بن بهرام   " فلقي النصارى  منه حزنا طويلا وعذابا شديدا ، وقتل منهم من لا يحصى واستشهد في أيامه من الشهداء خلق كثير ، وقتل بطرق رومية  ، ثم خرج إلى مدينة " أفسس   " فبنى  [ ص: 203 ] في وسطها هيكلا عظيما وصير فيه الأصنام ، وأمر أن يسجد للأصنام ويذبح لها ، ومن لم يفعل ذلك قتل ، فقتل من النصارى  بأفسس  خلقا عظيما ، وصلبهم على الحصن واتخذ من أولاد عظماء " أفسس   " سبعة غلمان من خواصه وعلى كسوته ، وقدمهم على جميع من عنده ، وذكر أسماءهم ، أسماء أصحاب أهل الكهف   . 
قال : وهؤلاء السبعة الغلمان لم يسجدوا للأصنام ، فأعلموا الملك بخبرهم فأمر بحبسهم ، ثم خرج إلى بعض المواضع وأطلق سبيلهم إلى حين رجوعه . 
فلما خرج من المدينة أخذ الغلمان كل ما لهم فتصدقوا به ، ثم خرجوا إلى جبل عظيم يقال له : " جاوس   " شرقي أفسس   " فيه كهف كبير فاختفوا في الكهف ، فكان واحد منهم في كل يوم يتنكر ويدخل المدينة ، فيسمع ما يقول الناس في شأنهم ويشتري لهم طعاما ويرجع فيعلمهم . 
فقدم " دقيانوس   " الملك فسأل عنهم ، فقيل له : إنهم في جبل " جاوس   " في الكهف مختفين . 
فأمر الملك أن يبنى باب الكهف عليهم ليموتوا ، وصب الله عليهم النعاس ، فناموا كالأموات . 
 [ ص: 204 ] وأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس ، وكتب فيها خبرهم وقصتهم مع " دقيانوس   " الملك ، وصير الصفيحة في صندوق نحاس ودفنه داخل الكهف ، وبنى الكهف . 
ومات الملك " دقيانوس قيصر   " وملك بعده قيصران برومية  سنتين ، ثم قيصر آخر اسمه " غنيونوس   " خمس عشرة سنة ، وملك بعده قيصر آخر سنة واحدة ومات ، وذلك من ثلاث سنين من ملك " هرمز   " . 
وفي أول سنة من ملك هذا ، صير " بولس   " بطركا على أنطاكية  ويسمى : " بولوس الشمشاطي   " قال : وهو الذي ابتدع دين " البوليانية   " ، فسمي التابعون لدينه والقائلون بمقالته بوليانيين   . 
قال : وكانت مقالته : أن سيدنا المسيح  خلق من اللاهوت إنسانا كواحد منا في جوهره  ، فإن ابتداء الابن من مريم  وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي ، صحبته النعمة الإلهية ، فحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي : ( ابن الله ) . 
 [ ص: 205 ] وقال : إن الله جوهر واحد ، وأقنوم واحد ولا نؤمن بالكلمة ، ولا بروح القدس . 
قال : وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أسقفا في مدينة " أنطاكية   " ونظروا في مقالة " بولس   " ، فأوجبوا على هذا الشمشاطي اللعن فلعنوه ، ولعنوا من يقول مقالته وانصرفوا . 
قال : وبعده ملك قيصر آخر ست سنين ، اسمه " أوراغوس قيصر   " . 
قال : وكان النصارى  بالإسكندرية  في أيامه يصلون في المطامير والبيوت فزعا من الروم ، ولم يكن يظهر بترك بالإسكندرية   ; لئلا يقتلوهم . 
فلما صار " نارون   " بطركا ، ظهر ولم يزل يداري الروم حتى بنى بالإسكندرية  كنيسة " حنا   " و " مار مريم   " وملك بعده  [ ص: 206 ] قيصران ، ثم قيصر اسمه " فاروس   " وذلك في تسع سنين من ملك " سابور بن هرمز   " . وكان شديدا على النصارى  ، قتل الأخوين " قزمان   " و " دميان   " الشهيدين ، وملك بعده " دقيطيانوس   " . 
قال : فمن خراب " طيطس   " لبيت المقدس  إلى ملك " دقيطيانوس   " مائتان وست سنين ، ومن مولد سيدنا المسيح  إلى " دقيطيانوس   " مائتان وست وسبعون سنة ، ومن الإسكندر  إلى " دقيطيانوس   " خمسمائة وخمس وتسعون سنة ، ومن سبي بابل  إلى " دقيطيانوس   " ألف وثلاثمائة وخمس وثلاثون سنة ، ومن داود  إلى " دقيطيانوس   " ألف وتسعمائة وإحدى وأربعون سنة . 
قال : وملك " دقيطيانوس   " في إحدى عشرة سنة من ملك  [ ص: 207 ]  " سابور بن هرمز   " ملك الفرس ، وملك معه اثنان تملكا على الروم إحدى وعشرين سنة ، وهؤلاء أثاروا على النصارى  بلاء عظيما وحزنا طويلا وعذابا أليما وشدة شديدة تجل عن الوصف من القتل والعذاب واستباحة الأموال ، واستشهدوا ألوفا من الشهداء وعذبوا " ماري جرجس   " أصناف العذاب وقتلوه بفلسطين ، وقتلوا " ماري مينا   " و " ماري بقطر   " و " أيتماخوس   " و " مركورس   " وغيرهما . 
قال : وفي عشر سنين من ملكهما صير " بطرس   " بطركا على الإسكندرية  فأقام عشر سنين وقتل . 
 [ ص: 208 ] وفي عشرين سنة من ملكهما ، ضرب عنق بطرس  هذا البطرك بالإسكندرية   . 
قال : وكان لبطرس  تلميذان ، اسم أحدهما " أشلا " والآخر " الأكصندروس   " وكان بالإسكندرية  رجل يقال له : " أوريوس   " يقول : إن الأب وحده الله الفرد ، والابن مخلوق مصنوع ، وقد كان ( الأب ) إذ لم يكن الابن . 
فقال " بطرس   " البطرك لتلميذيه : إن المسيح  لعن " أريوس   " فاحذرا أن تقبلا قوله ، فإني رأيت المسيح  في النوم مشقوق الثوب ، فقلت له : يا سيدي من شق ثوبك ؟ فقال لي : " أريوس   " ، فاحذروا أن تقبلوه ويدخل معكم الكنيسة ، كنيسة الله . 
قال : وبعد قتل " بطرس   " بخمس سنين صير " أشيلا   " بطركا على الإسكندرية  ، فأقام ستة أشهر ومات . 
وكان " أريوس   " قد استعان على " أشلا   " بأصدقائه ، فأورى أنه قد رجع عن تلك المقالة ، فقبله " أشلا   " وأدخله الكنيسة وجعله قسيسا . 
 [ ص: 209 ] قال : وأما " دقيطيانوس   " الملك فكان يطلب النصارى  فيقتلهم . 
فبينما هو يسير في طلبهم إذ بلغ إلى موضع يقال له : " ملطية   " فصب الله عليه نقمته ، فوقع في علل عظيمة وأمراض عظيمة حتى ذاب جسمه ، وكان الدود يتساقط من بدنه إلى الأرض ، وسقط لسانه من حنكه ومات . 
وملك بعده قيصران ، أحدهما المشرق والشام  وأرض الروم  ، والآخر رومية  ونحوها ، وكان أحدهما اسمه " علانيوس   " والآخر " مقصطيوس   " فكانا كالسباع الضارية على النصارى  ، وأثارا عليهم البلاء والجلاء وما لا يصفه واصف ، وفعلا بهم ما لم يفعله أحد من الملوك قبلهم . 
وملك معهما على بزنطية ، وما والاها " قسطس " أبو " قسطنطين   " ،  [ ص: 210 ] وكان رجلا دينا مبغضا للأصنام محبا للنصارى . 
فخرج " قسطس   " إلى ناحية الجزيرة و " الرها   " ، فنزل في قرية من قرى " الرها   " يقال لها : " كفرجاث   " فنظر فيها امرأة حسنة جميلة يقال لها : " هيلانة   " وكانت قد تنصرت على يدي أسقف " الرها   " وتعلمت قراءة الكتب . 
وولدت " هيلانة   " " قسطنطين   " " فتربى بـ " الرها   " وتعلم حكم اليونانيين ، وكان غلاما حسن الوجه قليل الشر ، وديعا محبا للحكمة . 
وأما " علانيوس   " فكان رجلا وحشيا شديد البأس ، مبغضا للنصارى  جدا كثير القتل لهم ، محبا للنساء ، ولم يترك للنصارى  بنتا بكرا إلا أخذها وأفسدها وقتلها ، وكذلك أصحابه ، وهكذا كانوا يفعلون بالنصارى  ، وكان النصارى  في شدة شديدة جدا معهم . 
وبلغه خبر " قسطنطين   " وأنه غلام هاد قليل الشر كثير العلم والخير . 
وأخبره الحكماء الذين له والمنجمون أن " " قسطنطين   " " سيملك ملكا عظيما ، فهم بقتله . 
 [ ص: 211 ] وعلم " " قسطنطين   " " بذلك فهرب من " الرها   " وذهب إلى مدينة " بزنطية   " ووصل إلى أبيه " قسطس   " فسلم إليه الملك . 
وبعد قليل مات " قسطس   " وصب الله على " علانيوس   " الملك عللا عظيمة ، حتى تقطع لحمه وتهرأ ، وبقي مطروحا لا يقدر أحد أن يقترب منه . 
فعجب الناس مما ناله ، ورحمه أعداؤه مما حل به . 
فرجع إلى نفسه وقال : لعل هذا الذي بي مما أقتل النصارى   . 
فكتب إلى جميع عماله أن يطلقوا النصارى  من الحبوس ، وأن يكرموهم ولا يؤذوهم ، ويسألونهم أن يدعوا له في صلاتهم . 
فصلى النصارى  على الملك ودعوا له ، فوهب الله له العافية ورجع إلى أفضل مما كان عليه من الصحة والقوة . 
فلما صح وقوي ، رجع إلى أشر مما كان عليه من الردى . 
وكتب إلى جميع عماله أن يقتلوا النصارى  ، ولا يعيش في مملكته نصراني ولا يسكنوا مدينة ولا قرية له . 
فمن كثرة القتلى كانوا يحملون على العجل ويرمون بهم في البحار والصحاري ، وقتل " مار جرجس   " وأخاه بمدينة " قباذوقية   "  [ ص: 212 ] وهما من أهلها ، وقتل " بربارة   " ، وذكر حربا جرت بينه وبين " سابور   " لما تنكر " سابور   " وجاء إليه متنكرا وعرفه . 
قال : وأما " مقسطيوس   " فكان شريرا على أهل رومية  ، واستعبد كل من كان برومية  وخاصة النصارى  ، فكان ينهب أموالهم ويقتل رجالهم ونساءهم وصبيانهم . 
فلما سمع أهل رومية  بملك " " قسطنطين   " " وأنه مبغض للشر محب للخير ، وأن أهل مملكته معه في هدوء وسلامة ، كتب رؤساء رومية  إلى " " قسطنطين   " " يسألونه ويطلبون إليه أن يخلصهم من عبودية " مقسطيوس   " عدو الله . 
فلما قرأ كتبهم ، اغتم غما شديدا وبقي متحيرا ولا يدري كيف يصنع . 
فبينما هو متفكر ، إذ ظهر له من نصف النهار في السماء صليب من كواكب تضيء ، مكتوبا حوله بهذا تغلب . 
فقال لأصحابه : رأيتم ما رأيت ؟ قالوا : نعم . 
فآمن من ذلك الوقت بالنصرانية ، وذلك لست سنين من بعد موت أبيه . 
 [ ص: 213 ] فتجهز " " قسطنطين   " " واستعد لمحاربة " مقسطيوس   " ملك رومية  ، وعمل صليبا كبيرا من ذهب ، وصيره على رأس البند وخرج يريد " مقسطيوس   " . 
فلما سمع " مقسطيوس   " أن " " قسطنطين   " " قد وافاه لمحاربته ، استعد لحربه وعقد جسرا على النهر الذي قدام رومية  ، وخرج مع جميع أصحابه يحارب " " قسطنطين   " " . 
فأعطي " " قسطنطين   " " النصرة عليه ، فقتل من أصحاب " مقسطيوس   " مقتلة عظيمة ، وهرب " مقسطيوس   " وغرق هو وأصحابه حتى امتلأ البحر وهو النهر الذي عند رومية  غرقى وقتلى . 
وخرج أهل رومية  إلى " " قسطنطين   " " بالإكليل الذهب وكل أنواع اللهو واللعب ، فلقوا " " قسطنطين   " " وفرحوا فرحا عظيما . 
فلما دخل المدينة أمر أن تدفن أجساد النصارى  الشهداء المصاليب ، وكل من كان من النصارى  هرب أو نفاه " مقسطيوس   " يرجع إلى بلده وموضعه ، ومن أخذ له شيء رد إليه . 
وأقام أهل رومية  سبعة أيام يعيدون للملك وللصليب ويفرحون . 
فلما سمع الخبر " علانيوس   " جمع ما قدر عليه وتجهز لقتال " " قسطنطين   " " . 
 [ ص: 214 ] فلما عاينه انهزموا من بين يديه وأخذهم بالسيف ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ومنهم من أسر ومنهم من استأمن . 
وأفلت " علانيوس   " عريانا ، فلم يزل يتقوى موضعا موضعا حتى وافى مدينته ، فجمع الكهنة والسحرة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم ، فضرب أعناقهم ، لئلا يقعوا في يد " " قسطنطين   " " . 
وصب الله على " علانيوس   " نارا في جوفه حتى كانت أحشاؤه تتقطع من الحر الذي كان يجده في جوفه ، وسقط على الأرض وتهرأ لحمه على عظمه ومات . 
وملك " " قسطنطين   " " الدنيا في هدوء وسلامة ، وذلك في إحدى وأربعين سنة من ملك " سابور بن هرمز   " ملك الفرس . 
قال : وتنصر " " قسطنطين   " " في مدينة يقال لها : " نيقوميديا   " ، وذلك في اثنتي عشرة سنة من ملكه ، وأمر ببناء الكنائس في كل بلد ، وأن يخرج من بيت المال الخراج مما يعمل به أبنية الكنائس . 
 [ ص: 215 ] قال : وفي خمس سنين من ملكه صير " الأكصندروس   " بطريركا على الإسكندرية  ، وهو تلميذ بطركها " بطرس   " الذي قتل وهو رفيق " أشلا   " ، فأقام ست عشرة سنة ، وفي خمس عشرة سنة من رياسته ، كان المجمع بمدينة " نيقية   " الذي رتبت فيه الأمانة الأرثذكسية . 
فمنع " الأكصندروس   " بترك الإسكندرية   " أريوس   " من دخول الكنيسة ولعنه ، وقال : إن " أريوس   " ملعون ، لأن " بطرس   " البترك قبل أن يستشهد قال لنا : إن الله لعن " أريوس   " فلا تقبلوه ولا تدخلوه الكنيسة . 
وكان على مدينة " أسيوط   " من عمل مصر  أسقف يرى رأي " أريوس   " فلعنه أيضا . 
وكان بالإسكندرية  هيكل عظيم كانت " كلاوبطرة   " الملكة بنته  [ ص: 216 ] على اسم زحل ، وكان فيه صنم من نحاس عظيم يسمى : " ميكائيل " ، وكان أهل الإسكندرية  ومصر  في اثني عشر يوما في شهر " هتور " وهو " تشرين الثاني " يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما ، ويذبحون الذبائح الكثيرة . 
فلما صار هذا بطركا على الإسكندرية  وظهرت النصرانية ، أراد أن يكسر الصنم ويبطل الذبائح . 
فامتنع عليه أهل الإسكندرية  ، فاحتال لهم بأن قال : إن هذا صنم لا منفعة فيه ولا مضرة ، فلو صيرتم العيد لميكائيل  الملاك ، وجعلتم هذه الذبائح له كان أنفع لكم عند الله ، وكان خيرا لكم من هذا الصنم ، فأجابوه إلى ذلك . 
فكسر الصنم ، وأصلح منه صليبا وسمى الهيكل " كنيسة ميكائيل   " وهي الكنيسة التي تسمى " قيسارية   " ، احترقت بالنار وقت موافاة الجيوش من المغاربة القرامطة  مع المسمى  [ ص: 217 ] أبو عبيد الله  ، وكان معه أمير من أصحابه يسمى " حباسة   " وذلك في خلافة " المعتضد بالله   " . 
وكان عامله على مصر  يومئذ مولاه المعروف " بتكين الحاجب   " رجل تركي ، فنفر إلى المغاربة وجاءه مدد من الشرق مع الخادم الملقب " مونس   " الأستاذ . 
 [ ص: 218 ] فهرب منه أبو عبيد الله  وحباسة  وجنودهما ، وصير العيد لميكائيل  الملك والذبائح . 
وإلى اليوم القبط بمصر  والإسكندرية  يعيدون في هذا اليوم عيد ميكائيل الملاك  ويذبحون فيه الذبائح الكثيرة ، وكذلك الملكية يعيدون في هذا اليوم عيد ميكائيل الملاك وصار رسما إلى اليوم . 
قال : فلما منع بترك الإسكندرية   " أريوس   " من دخول الكنيسة ولعنه ، خرج " أريوس   " مستعديا عليه ومعه أسقفان ، فاستغاثوا إلى " " قسطنطين   " " الملك . 
وقال " أريوس   " : إنه تعدى علي وأخرجني من الكنيسة ظلما . 
وسأل الملك أن يشخص " الأكصندروس   " بطرك الإسكندرية  ليناظره قدام الملك . 
فوجه " " قسطنطين   " " برسول إلى الإسكندرية  فأشخص البطرك ، وجمع بينه وبين " أريوس   " ليناظره فقال " " قسطنطين   " " " لأريوس   " : اشرح مقالتك . 
 [ ص: 219 ] قال " أريوس   " : أقول : إن الأب كان إذ لم يكن الابن ، ثم الله أحدث الابن ، فكان كلمة له إلا أنه محدث مخلوق ، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة ، فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما كما قال في إنجيله ، إذ يقول : ( وهب لي سلطانا على السماء والأرض ) فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك . 
ثم إن الكلمة تجسدت من مريم  العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحا  واحدا . 
فالمسيح  الآن معنيان : كلمة وجسد ، إلا أنهما جميعا مخلوقان . 
قال : فأجابه عند ذلك بطرك الإسكندرية  ، وقال : تخبرنا الآن أيما أوجب علينا عندك ، عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا . 
قال " أريوس   " : بل عبادة من خلقنا . 
قال له البطرك : فإن كان خالقنا الابن كما وصفت ، وكان الابن مخلوقا ، فعبادة الابن المخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بخالق ، بل تصير عبادة الأب الخالق للابن كفرا ، وعبادة الابن المخلوق إيمانا ، وذلك من أقبح الأقاويل . 
فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البطرك ، وشنع عندهم  [ ص: 220 ] مقالة " أريوس   " ، ودار بينهما أيضا مسائل كثيرة . 
فأمر " " قسطنطين   " " البطرك " الأكصندروس   " أن يلعن " أريوس   " وكل من قال بمقالته . 
فقال له : بل يوجه الملك فيشخص البطاركة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ، ونضع فيه قضية ونلعن " أريوس   " ونشرح الدين ونوضحه للناس . 
فبعث " " قسطنطين   " " الملك إلى جميع البلدان فجمع البطاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة " نيقية   " بعد سنة وشهرين ، ألفان وثمانية وأربعون أسقفا ، وكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان . 
فمنهم من يقول : المسيح  ومريم إلهان من دون الله ، وهم " المريمانية   " ، ويسمون " المريميين   " . 
 [ ص: 221 ] ومنهم من كان يقول : إن المسيح  من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها ، وهي مقالة " سبارينون   " وأشياعه . 
ومنهم من كان يقول : لم تحبل مريم  لتسعة أشهر ، وإنما مر نور في بطن مريم  كما يمر الماء في الميزاب ، لأن " كلمة الله " دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها ، وهي مقالة " ألبان   " وأشياعه . 
ومنهم من كان يقول : إن المسيح  إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره ، وأن ابتداء الابن من مريم  ، وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي ، صحبته النعمة الإلهية فحلت فيه المحبة والمشيئة ، فلذلك سمي " ابن الله " ويقولون : إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد ، يسمونه بثلاثة أسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس ، وهي مقالة " بولص الشمشاطي   " بطرك أنطاكية  وأشياعه ، وهم " البوليانيون   " . 
ومنهم من كان يقول بثلاثة آلهة ، لم يزل صالح وطالح وعدل بينهما ، وهي مقالة " مرقيون   " وأشياعه . 
 [ ص: 222 ] وزعموا أن " مرقيون   " رئيس الحواريين ، وأنكروا " بطرس   " السليح . 
ومنهم من كان يقول : ربنا هو المسيح  ، وهي مقالة " بولس   " الرسول ، ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا . 
قال : فلما سمع " " قسطنطين   " " الملك مقالاتهم ، عجب من ذلك وأخلى لهم دارا وتقدم لهم بالإكرام والضيافة ، وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينظر من معه الحق فيتبعه . 
فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على دين واحد ورأي واحد ، فناظروا بقية الأساقفة المختلفين فأفلجوا عليهم حججهم وأظهروا الدين المستقيم ، وكان أيضا باقي الأساقفة مختلفي الأديان والآراء . 
وصنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا مجلسا خاصا عظيما ، وجلس في وسطه ، وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفعها إليهم ، وقال لهم : قد سلطتكم اليوم على المملكة لتصنعوا ما بدا لكم ، لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوا مما فيه قوام الدين وصلاح المؤمنين . 
فباركوا على الملك وقلدوه سيفه ، وقالوا له : أظهر دين النصرانية وذب عنه . 
 [ ص: 223 ] ووضعوا له أربعين كتابا ، فيها السنن والشرائع ، وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها . 
وكان رئيس المجمع والمقدم فيه " الأكصندروس   " بطريرك الإسكندرية  ، وبطرك الإنطاكية  ، وأسقف بيت المقدس   . 
ووجه بطرك رومية  من عنده رجلين ، فاتفقوا على نفي " أريوس   " وأصحابه ولعنوهم وكل من قال مقالته ، ووضعوا تلك الأمانة ، وثبتوا أن الابن مولود من الأب قبل كل الخلائق ، وأن الابن من طبيعة الأب غير مخلوق . 
واتفقوا على أن يكون فصح النصارى  في يوم الأحد الذي يكون بعد فصح اليهود ، وأن لا يكون فصح اليهود مع فصح النصارى  في يوم واحد ، وثبتوا ما وضعه من تقدم ذكره من حساب الصوم والفصح ،  [ ص: 224 ] وأن يكون فطر النصارى  يوم فصحهم ، يوم الأحد الذي يكون بعد فصح اليهود . 
لأن النصارى  كما قلنا من قبل كانوا إذا عيدوا عيد الحميم وهو عيد الغطاس صاموا من الغد أربعين يوما ويفطرون . 
فإذا كان عيد اليهود  عيدوا معهم الفصح ، فصيروا يوم الفصح للفطر ، ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة ، وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء ، لأنه كان إذا اختير واحد أسقفا وكانت له زوجة ، تبيت معه ولم تتنح عنه ، ما خلا البطاركة ، فإنه لم يكن لهم نساء ولا كانوا أيضا يصيرون أحدا بطركا له زوجة . 
قال : وانصرفوا مكرمين محظوظين ، وذلك في سبع عشرة سنة من ملك " قسطنطين   " . 
قال : وسن " قسطنطين   " الملك ثلاث سنن : 
أحدها : كسر الأصنام وقتل كل من يعبدها . 
والثانية : أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى  ، ويكونون أمراء وقوادا . 
 [ ص: 225 ] والثالثة : أن يقيم الناس جمعة الفصح والجمعة التي بعدها لا يعملون فيها عملا ، ولا يكون فيها حرب . 
قال : وتقدم " قسطنطين   " إلى أسقف بيت المقدس  أن يطلب موضع المقبرة والصليب ، ويبني الكنائس ويبدأ ببناء القيامة المقدسة . 
فقالت " هيلانة   " أم " قسطنطين   " للملك : إني نذرت أن أصير إلى بيت المقدس  فأطلب المواضع المقدسة فأبنيها ، فدفع الملك إليها أموالا كثيرة جزيلة . 
وسارت إلى بيت المقدس  مع أسقف بيت المقدس  ، فلما وصلت لم يكن لها حرص ولا همة إلا طلب الصليب . 
فجمعت اليهود  والسكان في بيت المقدس  ، واختارت منهم عشرة ، ومن العشرة ثلاثة كان واحد منهم يقال له : " يهوذا   " فسألتهم أن يدلوها على موضع الصليب فامتنعوا ، وقالوا : ليس عندنا علم منه ولا خبرة بالموضع . 
فأمرت بهم فطرحتهم في جب ليس فيه ماء ، فأقاموا سبعة أيام لم يطعموا ولم يسقوا ، فقال أحدهم الذي اسمه يهوذا  لصاحبيه : إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب هذه المرأة ، وإن جده عرف أباه . 
فصاح الاثنان من الجب : أخرجونا حتى نعلم الملكة بحال هذا الرجل . 
 [ ص: 226 ] فأخرجوهم ، فأخبروا الملكة بما قال لهما " يهوذا   " فأمرت بضربه بالسياط فأقر أنه يعرف الموضع ، فخرج حتى جاء إلى الموضع الذي فيه المقبرة والأقرانيون  ، وكانت مزبلة عظيمة هناك ، فصلى وقال : اللهم إن كان في هذا الموضع المقبرة فأسألك أن تزلزل المكان وتخرج منه دخانا حتى نؤمن ، فزلزل الموضع وخرج منه دخان كما سأل فآمن . 
فأمرت " هيلانة   " بكنس الموضع من التراب ، فظهرت المقبرة والأقرانيون  ووجد ثلاثة صلبان ، قالت " هيلانة   " كيف لنا أن نعلم بصليب السيد المسيح  ؟ وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد يئس منه ، فوضع الصليب الأول عليه والثاني والثالث فقام المريض وليس به شيء يكره . 
فعلمت " هيلانة   " أنه الصليب الذي لسيدنا المسيح  ، فجعلته في غلاف من ذهب ، وحملته معها وجملته بما تقدر عليه ، وأظهرت كل ما كان مدفونا من آثار سيدنا المسيح  وحملته إلى ابنها " قسطنطين   " وبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب والأقرانيون  وكنيسة " قسطنطين   " ، وانصرفت وأمرت أسقف بيت المقدس  أن يبني باقي الكنائس ، وذلك في اثنين وعشرين سنة من ملك " قسطنطين   " . 
قال : فمن ميلاد سيدنا المسيح  إلى أن وجد الصليب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة ، وذكر أنه بعد هذا اجتمعوا بمجمع عظيم ببيت  [ ص: 227 ] المقدس   . 
وكان معهم رجل قد دسه بطرك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بطرك الإسكندرية  ، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لأريوس  ، وكان يرى رأيه ويقول بمقالته ، فقام هذا الرجل واسمه " مانيوس   " فقال : إن " أريوس   " لم يقل إن المسيح  خلق الأشياء ، ولكن قال به خلقت الأشياء ، لأنه " كلمة الله " التي بها خلق السماوات والأرض ، وإنما خلق الله الأشياء بكلمته ، ولم تخلق الأشياء كلمته ، كما قال سيدنا المسيح  في الإنجيل المقدس : " كل بيده كان ، ومن دونه لم يكن شيء " . فقال : به كانت الحياة ، والحياة نور البشر . وقال : في هذا العالم والعالم به تكون ، فأخبر أن الأشياء به تكونت ولم يخبر أنها كونت له ، قال : فهذه كانت مقالة " أريوس   " ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا تعدوا عليه وظلموه وحرموه ظلما وعدوانا . 
فرد عليه بطرك الإسكندرية  وقال : أما " أريوس   " فلم يكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولا ظلموه ، لأنه إنما قال : " إن الابن خالق الأشياء دون الأب . 
وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقا ، فقد يجب أن يكون ما خلق منها شيئا ، وفي ذلك تكذيب للمسيح  ، قوله : " الأب يخلق وأنا أخلق " وقال : " إن أنا لم أعمل عمل أبي  [ ص: 228 ] فلا تصدقوني " . وقال : " كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته ، كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته . 
فدل على أنه يحيي ويخلق ، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق ، وإنما خلقت به دون أن يكون خالقا له . وأما قولك : إن الأشياء كونت به ، فإنما كنا لا نشك أن المسيح  حي فعال ، وكان قد دل بقوله : " إثما أفعل الخلق والحياة " كان قولك : ( به كونت الأشياء ) إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها فكانت به مكونة ، ولو لم يكن ذلك كذلك لتناقض القولان . 
قال : ورد عليه أيضا فقال : ( أما قول من قال من أصحاب " أريوس   " : إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن ، والإرادة للأب والتكوين للابن ، فإن ذلك يفسد أيضا إذ كان الابن عنده مخلوقا  فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه ، وذلك أن هذا أراد وفعل ، وذاك أراد ولم يفعل ، فهذا أوفر حظا في فعله من ذاك ، ولا بد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك ، بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه ، ويكون حكمه كحكمه في الجبر والاختيار ، فإن كان  [ ص: 229 ] مجهولا فلا شيء له في الفعل ، وإن كان مختارا فجائز أن يطاع ، وجائز أن يعصى وجائز أن يثاب ، وجائز أن يعاقب ، وهذا أشنع في القول . 
قال : ورد عليه أيضا وقال : إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق ، فالمخلوق غير الخالق بلا شك ، فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره ، والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به إذ كان لا يتم له الفعل إلا به ، والمحتاج إلى غيره منقوص ، والخالق يتعالى عن هذا كله . 
قال : فلما دحض بطرك الإسكندرية  حجج أولئك المخالفين وظهر لمن حضر بطلان قولهم ، تحيروا وخجلوا فوثبوا على بطرك الإسكندرية  فضربوه حتى كاد أن يقتل ، فخلصه من أيديهم ابن أخت " قسطنطين   " ، وهرب بطرك الإسكندرية  المحتج على أصحاب " أريوس   " وصار إلى بيت المقدس  من غير حضور أحد من الأساقفة ، ثم أصلح دهن الميرون وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون ، وسار إلى الملك فأعلمه بالخبر فصرفه الملك إلى الإسكندرية   . 
				
						
						
