الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 145 ] وأما من كان من جهلاء أهل الكتاب الذين يقولون : إنه كان ملكا مسلطا عليهم ، وإنه رسول غضب ، أرسله الله إرسالا كونيا ; لينتقم به منهم كما أرسل بختنصر ، وسنحاريب على بني إسرائيل ، وكما أرسل جنكس خان ، وغيره من الملوك الكافرين والظالمين مما [ ص: 146 ] ينتقم به ممن عصاه ، فهؤلاء أعظم تكذيبا له ، وكفرا به من أولئك ، فإن هؤلاء الملوك لم يقل أحد منهم إن الله أنزل عليه كتابا ، ولا أن هذا الكلام الذي أبلغه إليكم هو كلام الله ، ولا أن الله أمركم أن تصدقوني فيما أخبرتكم به ، وتطيعوني فيما أمرتكم به ، ومن لم يصدقني باطنا وظاهرا ، فإن الله يعذبه في الدنيا والآخرة ، بل هؤلاء أرسلهم إرسالا كونيا قدره وقضاه ، كما يرسل الريح بالعذاب ، وكما يرسل الشياطين قال تعالى : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .

وقال تعالى : وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا .

وهذا بخلاف قوله : إنا أرسلنا نوحا إلى قومه .

وقوله تعالى : إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا .

[ ص: 147 ] وقوله تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .

فإن هذا يعني به الإرسال الديني ، الذي يحبه تعالى ، ويرضاه الذي هدى به من اتبعهم ، وأدخله في رحمته ، وعاقب من عصاهم ، وجعله من المستوجبين للعذاب ، وهو الإرسال الذي أوجب الله به طاعة من أرسله ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله .

وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله .

وهذه الرسالة التي أقام بها الحجة على الخلق ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .

وقال تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس .

[ ص: 148 ] وهذا كما اصطفى روح القدس جبريل عليه السلام ، لنزوله بالقرآن على من اصطفاه من البشر ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .

قال تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين .

وقال تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين .

وقال تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين .

فأخبر أنه نزل به جبريل ، وسماه الروح الأمين ، وسماه روح القدس ، وقد ذكره أيضا في قوله : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين .

[ ص: 149 ] ثم قال : وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين .

فهذا الرسول جبريل عليه السلام ، وقال تعالى : إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين .

فهذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .

وأما الإرسال الكوني الذي قدره وقضاه ، مثل إرسال الرياح وإرسال الشياطين ، فذلك نوع آخر . قال تعالى : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .

وقال تعالى : وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته .

والله تعالى له الخلق والأمر ، فلفظ الإرسال ، والبعث ، والإرادة ، والأمر ، والإذن ، والكتاب ، والتحريم ، والقضاء ، والكلام ينقسم إلى : خلقي ، وأمري ، وكوني ، وديني ، وقد ذكرنا الإرسال .

وأما البعث ، فقال تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة .

[ ص: 150 ] وقال في الكوني : فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد .

وقال تعالى : فبعث الله غرابا يبحث في الأرض .

وأما الإرادة ، فقال تعالى في الكونية : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا .

وقال نوح عليه السلام : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم .

وقال تعالى في الإرادة الدينية : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .

وقال تعالى : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا .

وقال تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم .

[ ص: 151 ] وقال تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .

وقال تعالى في الأمر الكوني : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .

وكذلك في أظهر القولين قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول .

[ ص: 152 ] وأما الأمر الديني مثل قوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها .

وأما الإذن الكوني مثل قوله في السحرة : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله .

والديني مثل قوله : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .

والكتاب الكوني مثل قوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي .

وقوله : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .

والديني مثل قوله : كتب الله عليهم .

وقوله : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم .

وقوله : كتب عليكم القصاص .

[ ص: 153 ] والقضاء الكوني كقوله : فقضاهن سبع سماوات .

والديني : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا .

أي : أمر .

والتحريم الكوني مثل قوله : وحرمنا عليه المراضع من قبل .

وقوله : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض .

وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون .

والديني مثل قوله : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير .

وقوله : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم .

والكلمات الكونية ، مثل قول النبي ، صلى الله عليه وسلم : أعوذ بكلمات الله التامات ، التي لا يجاوزهن بر ، ولا فاجر . ومنه [ ص: 154 ] قوله تعالى : وصدقت بكلمات ربها وكتبه .

والدينية : مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : اتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله . ومنه قوله تعالى : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله .

[ ص: 155 ] وهذا مبسوط في موضع آخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية