الوجه الحادي عشر : أن غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالا منكم شرعا وعقلا ، وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم .
فإذا كان هؤلاء خيرا منكم ، فكيف تشبهون أنفسكم بمن هو خير من هؤلاء من أهل السنة من المسلمين الذين لا يقولون لا بتمثيل ولا بتعطيل .
وبيان ذلك أن التوراة والإنجيل وسائر كتب الله ، وغير ذلك مما هو مأثور عن الأنبياء فيه نصوص كثيرة صريحة ظاهرة واضحة في وحدانية الله ، وأنه لا إله غيره ، وهو مسمى فيها بالأسماء الحسنى ، موصوف بالصفات العلى ، وأن كل ما سواه مخلوق له ، ليس فيه
[ ص: 452 ] تثليث ولا اتحاد الخالق بشيء من المخلوقات ، لا
المسيح ولا غيره .
وفيها ألفاظ قليلة مشكلة متشابهة ، وهي - مع ذلك - لا تدل على ما ذكرتموه من التثليث والاتحاد ، لا نصا ولا ظاهرا ، ولكن بعضها يحتمل بعض ما قلتم ، وليس فيها شيء يحتمل جميع ما قلتم ، فضلا عن أن يكون ظاهرا فيه أو نصا ، بل بعضها يحتمل بعض قولكم .
فأخذتم ذلك المحتمل وضممتم إليه من الكفر الصريح والتناقض القبيح ما صيرتموه أمانة لكم ; ( أي عقيدة إيمان لكم ) .
ولو كانت كلها تحتمل جميع ما قلتم ، لم يجز العدول عن النص والظاهر إلى المحتمل ، ولو كان بعضها ظاهرا فيما قلتم ، لم يجز العدول عن النصوص الصريحة إلى الظاهر المحتمل .
ولو قدر أن فيها نصوصا صريحة قد عارضتها نصوص أخرى صريحة ، لكان الواجب أن ينظروا بنور الله الذي أيد به عباده المؤمنين ، فيتبعون أحسن ما أنزل الله ، وهو المعنى الذي يوافق صريح المعقول وسائر كتب الله ، وذلك النص الآخر إن فهموا تفسيره ، وإلا فوضوا معناه إلى الله - تعالى - إن كان ثابتا عن الأنبياء .
وهؤلاء عدلوا عما يعلم بصريح المعقول ، وعما يعلم بنصوص
[ ص: 453 ] الأنبياء الكثيرة ، إلى ما يحتمله بعض الألفاظ لموافقته لهواهم ، فلم يتبعوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=23إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
وأما كفار المجسمة ، فهؤلاء أعذر وأقل كفرا من
النصارى ، فإن هؤلاء يقولون كما يقوله معهم النفاة : إن ظواهر جميع الكتب هو التجسيم .
ففي التوراة والقرآن من الآيات التي ظاهرها التجسيم ما لا يحصى .
وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه ، ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا هو فوق العرش ، ولا يشار إليه ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل منه شيء ، ولا يقرب منه شيء ، ولا يدنو من شيء ، ولا يدنو إليه شيء ، إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات .
فمعلوم أنه ليس في الكتب الإلهية لا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن ولا غير ذلك من النبوات - من هذا حرف واحد ، وكلها مملوءة مما يقول هؤلاء : إنه تجسيم .
فيقول هؤلاء : نحن اتبعنا نصوص الأنبياء ، ولم نعدل عنها إلى غيرها ، ولم نجد في نصوصهم نصا محكما صريحا بالنفي الذي يقوله نفاة الصفات .
[ ص: 454 ] ووجدنا نصوصهم كلها بالإثبات الذي يقولون : إنه تجسيم .
فكان على قولنا وقولهم نصوص الأنبياء ظاهرة في التجسيم ، وليس لهم نص يناقض ذلك ، فاتبعنا نصوصهم ، وكل من عارض إثبات الصفات ، لم يعارضها بنصوص صريحة عن الأنبياء ، لكن بحجج عقلية .
فيقول هؤلاء : إن
النصارى خالفوا صريح المعقول ، وصريح كلام الأنبياء ، واتبعوا قليلا من متشابه كلامهم ، ونحن اتبعنا نصوص الأنبياء ، ولم نخالف شيئا من صريح نصوصهم ، ولكن مخالفنا يقول : إنا خالفنا العقل .
ونحن ننازعه في ذلك ، وندعي أن العقل معنا لا علينا ، وأن ما يدعيه من المعقولات التي تعارض كلام الأنبياء فهي باطلة .
أو يقولون : نحن
والنصارى متفقون على أنا لا نعارض كلام الأنبياء بالشبه العقلية ، لكن نحن اتبعنا كلامهم المحكم الظاهر الكثير ، الذين لا مخالف له من كلامهم .
وهم خالفوا كلامهم الكثير المحكم ، واتبعوا قليلا من المتشابه .
ويقول الغلاة من هؤلاء الذين يكفرهم أئمة المسلمين وجمهورهم الذي يحكي عنهم : أن الله ينزل إلى الأرض عشية
عرفة ، فيعانق المشاة ويصافح الركبان ، وأنه يتمشى في الأرض ، يكون موطئ أقدامه مروجا ، ونحو ذلك .
ليس هذا القول بأعجب من قول
النصارى الذين يقولون : إنه هو
المسيح ، وأن اللاهوت والناسوت اتحدا .
[ ص: 455 ] فنحن نقول أيضا : إنه حل في بعض الأجساد المخلوقة ، كما يقوله
النصارى .
أو نقول : إنه تجسد كما تتجسد الملائكة والجن ، وهذا أقرب من قول
النصارى : إنه اتحد بجسم
المسيح .
فإنا قد عهدنا اللطائف من الملائكة تتصور في صورة بشرية ، ولم نعهد ملكا صار هو والبشر شيئا واحدا .
فإذا لم يجز أن يتحد الملك بالبشر ، فكيف يجوز أن يتحد رب الخلائق كلهم بالبشر ؟
قالوا : وقد يحل الجني في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه ، إلا أنهما جوهران ومشيئتان وطبيعتان ، ليس بينهما اتحاد ، لكنه دخل فيه وتكلم على لسانه .
nindex.php?page=treesubj&link=29434والنصارى يقولون : إن رب العالمين اتحد بالبشر ، فمنهم من يقول : جوهر واحد ، ومنهم من يقول : شخص واحد وأقنوم واحد ، ومنهم من يقول : مشيئة واحدة ، فلابد لكل منهم من نوع اتحاد ، وهذا أبعد من حلول الجني في الإنسي ، فإذا كان ما يقولونه ممتنعا في الجن والملائكة ، فكيف برب العالمين ؟
[ ص: 456 ] ومن غلاة المجسمة
اليهود ، من يحكىعنه أنه قال : ( إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة ، وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم ) ، وهذا كفر واضح صريح ، ولكن يقولون : قولنا خير من قول
النصارى ، فإن
النصارى يقولون : ( إنه أخذ وضرب بالسياط وبصق في وجهه ، ووضع الشوك على رأسه كالتاج ، وصلب بين لصين ، وفعل به من أقبح ما يفعل باللصوص قطاع الطرق .
وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا .
وشريعة إيمانهم تدل على ذلك ، وهو لازم لمن أنكر ذلك منهم ، فإنه مع القول بالاتحاد الذي لا بد لطوائفهم الثلاثة منه ، يمتنع أن تحل هذه العقوبات في هذا دون ذاك ، فلا يمكن أن يحل في الناسوت دون اللاهوت ، فإن هذا إنما يتصور إذا كان اثنين ، ومن قال بالاتحاد ، امتنع عنده أن يكون هناك اثنان .
وفي الجملة ،
فالنصارى المثلثة ، إما أن يصرحوا بالاتحاد من كل وجه
كاليعقوبية ، وهؤلاء يصرحون بأن الآلآم حلت باللاهوت .
وإما أن يقولوا بالاتحاد من وجه كقول
الملكية : إنهما شخص
[ ص: 457 ] واحد ، وقول
النسطورية : هما مشيئة واحدة .
وحينئذ فما قالوه من التعدد الذي يوجب المباينة ، وأنه لا يتصف أحدهما بما يتصف به الآخر ، ولا يحل به ما حل به ، فيكون متناقضا لهذا .
فأحسن أحوالهم أن يتناقضوا في الاتحاد ، كما تناقضوا في التثليث ، وهذا حقيقة قول خيار هؤلاء يتكلمون بالكفر وبما يناقضه ، وبالتوحيد وبما يناقضه .
ومعلوم أن ما يفعله بنفسه من ندم وبكاء وحزن ، هو دون ما يفعله أعداؤه به من ضرب وصفع وجعل الشوك على رأسه ، وصلبه بين لصين ، وأن استغاثته بمن يخلصه من ذلك أشد نقصا من ندمه وحزنه .
وإن قالوا : فعل هذا حتى يعلم عباده التشبه به - أمكن أولئك المجسمة الكفرة أن يقولوا : بكى وندم وعض يده ندما حتى جرى الدم ، حتى يعلم عباده التوبة من الذنوب .
ففي الجملة ،
nindex.php?page=treesubj&link=29434ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله ، إلا وقول النصارى أقبح منه .
ولهذا ، كان
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول : لا ترحموهم ، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ، ولهذا يعظم الله فريتهم
[ ص: 458 ] على الله في القرآن أشد من تعظيم افتراء غيرهم كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=88وقالوا اتخذ الرحمن ولدا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=89لقد جئتم شيئا إدا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=90تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=91أن دعوا للرحمن ولدا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=92وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=93إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=94لقد أحصاهم وعدهم عدا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=95وكلهم آتيه يوم القيامة فردا .
وفي الصحيحين ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=654592يقول الله - عز وجل - كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، فأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ) .
ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=654122قال الله - عز وجل - : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي ، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله : لي ولد ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا ) .
[ ص: 459 ] وفي الصحيحين عن
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=656830ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - عز وجل - إنه يشرك به ويجعل له ند وهو يعافيهم ويرزقهم ويدفع عنهم . )
الوجه الثاني عشر : أن كل من يعتقد في
nindex.php?page=treesubj&link=29434التجسيم ما يعتقد ، يمكنه أن يقول كما يقوله
النصارى ، فإن
النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم ، قالوا : إنه إله تام وإنسان تام ، وليس فيه من الإلهية شيء ، فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه .
فلو قال القائل : إن
موسى بن عمران كان هو الله ، لم يكن هذا أبعد من قول
النصارى ، فإن معجزات
موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر ، وقد سماه الله في التوراة إلها
لهارون ولفرعون .
فإذا قيل فيه ما قالوه في
المسيح : إنه أظهر المعجز بلاهوته ، وأظهر العبودية بناسوته ، لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول
النصارى ، بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت ، لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يدعى فيه إلا بدليل خاص ، بل إذا قيل لهم حل في كثير من الأنبياء والقداديس ، لم يمكنهم نفي ذلك .
وإذا قالوا : لم يخبر بذلك أحد ، ولم يبشر به نبي ، أو هذا غير معلوم .
[ ص: 460 ] قيل لهم : غاية هذا كله ، أنكم لا تعلمون ذلك ، ولم يقم عندكم دليل عليه ، وعدم العلم ليس علما بالعدم ، فعدم علمكم وعدم علم غيركم بالشيء ، ليس علما بعدم ذلك الشيء .
وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه ، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه ، ثم إذا عدم ذلك لم يلزم عدم الخالق ، فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه ، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزما لعدمه ، كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها ، إذا لم ينقل علم انتفاؤها .
والمقصود أنكم - مع العدم - يمكنكم النفي العام عن غير
المسيح لعدم الدليل الدال عليه ، فإنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفس الأمر ، لا سيما وهو كان متحدا
بالمسيح عندهم أكثر من ثلاثين سنة ، ومع هذا فكان يخفي نفسه ولا يظهر إلا العبودية .
فإذا قيل لهم : هكذا كان متحدا بغيره من الأنبياء والصالحين ، ولكن أخفى نفسه لحكمة له في ذلك ، أو أظهر على نفسه بعض خواص عباده ، أو أظهر لطائفة لم ينقل إلينا خبرهم ونحو ذلك ، لم يمكن مع تصديق
النصارى فيما يدعونه الجزم بكذب هؤلاء ، بل من جوز قول
النصارى ، جوز أن يكون متحدا بغير ذلك من الأجسام ، فيجعل كثيرا من الأجسام المخلوقة هي رب العالمين ، إذ كانت ليس هو متحدا بها في نفس الأمر .
[ ص: 461 ] فإذا اعتقدوا الاتحاد فيها ، كما اعتقدته
النصارى في
المسيح ، لم يكن ثم إله في الحقيقة إلا ذلك الجسم الناسوتي المخلوق .
لكن ظن الضال أنه رب العالمين ، كما ظن عباد العجل أن العجل إله
موسى . فإذا جاز أن يتحد الرب - عز وجل - ببعض الأجسام ، لم ينكر على أصحاب العجل إذا جوزوا أن يكون رب العالمين اتحد بالعجل ، وقد رأوا منه نوع خرق عادة . فليس
للنصارى أن ينكروا على عباد العجل ولا عباد شيء من الأصنام إذا أمكن أن يكون الرب - عز وجل - حل فيها عندهم إن لم يقيموا دليلا على أن الرب لم يحل في ذلك .
فإذا قيل : إن
موسى - عليه السلام - أنكر على عباد العجل .
قيل : نعم .
وموسى ينكر على كل من عبد شيئا من المخلوقات ، حتى لو عبد أحد الشجرة التي كلمه الله منها لأنكر عليه ، فإنكاره على
النصارى أعظم .
وموسى - عليه السلام - لم يقل قط : إن الله يتحد بشيء مع المخلوقات ويحل فيه ، بل أخبر من عظمة الله - عز وجل - بما يناقض ذلك .
ففي التوراة من نهيه عن عبادة ما سوى الله ومن تعظيم أمره وعقوبة المشركين به ، وبما أخبر به من صفات الله - عز وجل - ما يناقض قول
النصارى .
[ ص: 462 ] ولهذا كان من تدبر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء - عليهم السلام - من
النصارى ، تبين له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم ، وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك ، لم يبعث به أحد من الأنبياء - عليهم السلام - .
وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة ، أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا ، مثل دعائهم
مريم وغيرها ، وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله - لم يبعث به أحد من الأنبياء ، فكيف وقد صوروا تماثيلهم ليكون تذكيرا لهم بأصحابها ، ويدعون تلك الصور ؟
وإن قصدوا دعاء أصحابها ، فهم إذا صرحوا بدعاء أصحابها وطلبوا منهم الشفاعة وهم موتى وغائبون ، كانوا مشركين .
فكيف إذا كان الدعاء في الظاهر لتماثيلهم المصورة ، وهذا مما يعترف حذاق علمائهم بأنه مخالف لدين الأنبياء كلهم .
ولهذا وقع بينهم تنازع في اتخاذ الصور في الكنائس لما ابتدعه بعضهم ، كما هو مذكور في أخبارهم ، ولم يأت من ابتدع ذلك بحجة شرعية .
والمجسمة يعتقدون أن الله قديم أزلي ، وأنه عظيم جدا ، لا يقولون : إنه متحد بشيء من الأجسام المخلوقة ، ولا يحل فيها . فمن
[ ص: 463 ] قال باتحاده وحلوله فيها ، كان قوله شرا من قول هؤلاء المجسمة .
كما أن المتفلسفة الذين يقولون بأن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة بنفسها أولها علة تتشبه بها كما يقوله " أرسطو " وذووه ، أو يثبتون لها علة فاعلة ، لم تزل مقارنة لها ، كما يقوله " ابن سينا " وأمثاله .
وهؤلاء قولهم شر من قول
اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين يثبتون للسموات والأرض خالقا خلقها بمشيئته وقدرته .
ولو قال من قال منهم : إن ذلك جسم فغايته أن يثبت جسما قديما أزليا موصوفا بصفات الكمال
فمن أثبت جسما قديما أزليا ليس موصوفا بصفات الكمال ، كان قوله شرا من قول هذا .
فتبين أن المجسمة الذين يثبتون جسما قديما أزليا واجب الوجود بنفسه عالما بكل شيء قادرا على كل شيء مع قولهم : إنه تحله الحوادث وتقوم به الحركة والسكون - خير من قول
الفلاسفة الذين يقولون : إن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة الوجود بنفسها ، كما يقوله "
أرسطو " وذووه ، وخير من
النصارى أيضا .
الوجه الثالث عشر : قولهم : من قال : ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة ، أو ثلاثة أشخاص مركبة ، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه - فنحن نلعنه ونكفره .
فيقال لهم : وأنتم أيضا تلعنون من قال : إن
المسيح ليس هو إله حق من إله حق ، ولا هو مساوي الأب في الجوهر ، ومن قال : إنه
[ ص: 464 ] ليس بخالق ، ومن قال : إنه ليس بجالس عن يمين أبيه ، ومن قال أيضا : إن روح القدس ليس برب حق محي ، ومن قال : إنه ليس ثلاثة أقانيم .
وتلعنون أيضا مع قولكم إنه الخالق من قال : إنه الأب ، والأب هو الخالق ، فتلعنون من قال : هو الأب الخالق ، ومن قال : ليس هو الخالق ، فتجمعون بين النقيضين .
فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث ، ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد عن الآخر ، وتجمعون بين النقيضين .
فمن أثبت أحدهما منفكا عن الآخر لعنتموه ، كمن قال : عندي واحد ثلاثة .
فمن قال : هو واحد ليس بثلاثة - كذبه ، ومن قال : هو ثلاثة ليس واحدا - كذبه .
ومن قال : عندي شيء موجود معدوم ، فمن قال : هو موجود ليس بمعدوم - كذبه ، ومن قال : معدوم ليس بموجود - كذبه .
ومن قال : عندي شيء هو حي ميت ، هو عالم جاهل ، هو قادر عاجز ، فمن قال : هو حي ليس بميت - كذبه ، ومن قال : هو ميت ليس بحي - كذبه .
فهكذا أنتم تجمعون بين قولين متناقضين ، أحدهما حق والآخر باطل .
فمن قال الحق ونفى الباطل لعنتموه ، ومن قال الباطل ونفى
[ ص: 465 ] الحق لعنتموه .
وأنتم تشبهون الملاحدة من
الجهمية والفلاسفة والباطنية الذين يسلبون عنه النقيضين ، أو يمتنعون عن إثبات أحد النقيضين ، فيقولون : لا نقول هو حي ولا ليس بحي ، ولا هو عالم ولا ليس بعالم ، ولا قادر ولا ليس بقادر .
بل منهم من يقول : لا نقول : هو موجود ولا معدوم ، ولا نقول هو شيء ولا نقول ليس بشيء .
ومنهم من يقول : ليس بحي ولا ميت ، ولا عالم ولا جاهل ، ولا قادر ولا عاجز .
ومنهم من يقول : لا نطلق لا هذا ولا هذا .
فيقال لهم : رفع النقيضين كجمع النقيضين ، والامتناع عن إثبات أحد النقيضين ، كالامتناع عن نفي أحد النقيضين .
وكذلك من وصفه بأنه موجود واجب الوجود لذاته ، ثم وصفه بصفات تستلزم عدمه ، فقد جمع بين النقيضين .
وكل قول يتضمن جمع النقيضين وإثبات الشيء ونفيه ، أو رفع النقيضين الإثبات والنفي - فهو باطل .
والنصارى في هذا الباب من أبلغ الناس تناقضا يقولون الشيء ويقولون بما يناقضه ، ويلعنون من قال هذا ومن قال هذا .
وأيضا فكل طائفة منكم تلعن الأخرى ، فإن أهل الأمانة تلعن
الأريوسية وغيرهم من طوائف
النصارى ، وهم يلعنونكم وكل من فرقكم
[ ص: 466 ] الثلاثة ،
النسطورية ،
واليعقوبية ،
والملكية ، تلعن الطائفتين الأخريين .
فأنتم
واليعقوبية تلعنون من يقول : إن
مريم لم تلد إلها ، ويقولون : إن
مريم ولدت إنسانا تاما إلها تاما .
وأنتم
والنسطورية تلعنون من قال : إنهما جوهر واحد بمشيئة واحدة وطبيعة واحدة .
ومن قال : إن اللاهوت تألم مع قولكم : إن اللاهوت مولود من
مريم ، ومع قولكم :
المسيح الذي ولدته
مريم مات وصلب ، وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون ، ما يطول وصفه ، فما منكم من أحد إلا وهو لاعن ملعون ، فلعنكم من قال بهذه المقالات ، لا يوجب أنكم على الحق ، بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم .
والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافا كثيرا .
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ غُلَاةَ الْمُجَسِّمَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُهُمُ الْمُسْلِمُونَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْكُمْ شَرْعًا وَعَقْلًا ، وَهُمْ أَقَلُّ مُخَالَفَةً لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مِنْكُمْ .
فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ خَيْرًا مِنْكُمْ ، فَكَيْفَ تُشَبِّهُونَ أَنْفُسَكُمْ بِمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ لَا بِتَمْثِيلٍ وَلَا بِتَعْطِيلٍ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَأْثُورٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ فِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ صَرِيحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَاضِحَةٌ فِي وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، وَهُوَ مُسَمًّى فِيهَا بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى ، مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ الْعُلَى ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَهُ ، لَيْسَ فِيهِ
[ ص: 452 ] تَثْلِيثٌ وَلَا اتِّحَادُ الْخَالِقِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، لَا
الْمَسِيحِ وَلَا غَيْرِهِ .
وَفِيهَا أَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ مُشْكِلَةٌ مُتَشَابِهَةٌ ، وَهِيَ - مَعَ ذَلِكَ - لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ ، لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا ، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا يَحْتَمِلُ بَعْضَ مَا قُلْتُمْ ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ مَا قُلْتُمْ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِيهِ أَوْ نَصًّا ، بَلْ بَعْضُهَا يَحْتَمِلُ بَعْضَ قَوْلِكُمْ .
فَأَخَذْتُمْ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ وَضَمَمْتُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَالتَّنَاقُضِ الْقَبِيحِ مَا صَيَّرْتُمُوهُ أَمَانَةً لَكُمْ ; ( أَيْ عَقِيدَةَ إِيمَانٍ لَكُمْ ) .
وَلَوْ كَانَتْ كُلُّهَا تَحْتَمِلُ جَمِيعَ مَا قُلْتُمْ ، لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ إِلَى الْمُحْتَمَلِ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا ظَاهِرًا فِيمَا قُلْتُمْ ، لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ إِلَى الظَّاهِرِ الْمُحْتَمَلِ .
وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهَا نُصُوصًا صَرِيحَةً قَدْ عَارَضَتْهَا نُصُوصٌ أُخْرَىَ صَرِيحَةٌ ، لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَنْظُرُوا بِنُورِ اللَّهِ الَّذِي أَيَّدَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُوَافِقُ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَسَائِرَ كُتُبِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ النَّصُّ الْآخَرُ إِنْ فَهِمُوا تَفْسِيرَهُ ، وَإِلَّا فَوَّضُوا مَعْنَاهُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - إِنْ كَانَ ثَابِتًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ .
وَهَؤُلَاءِ عَدَلُوا عَمَّا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ ، وَعَمَّا يُعْلَمُ بِنُصُوصِ
[ ص: 453 ] الْأَنْبِيَاءِ الْكَثِيرَةِ ، إِلَى مَا يَحْتَمِلُهُ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ لِمُوَافَقَتِهِ لِهَوَاهُمْ ، فَلَمْ يَتَّبِعُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=23إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى
وَأَمَّا كُفَّارُ الْمُجَسِّمَةِ ، فَهَؤُلَاءِ أَعْذَرُ وَأَقَلُّ كُفْرًا مِنَ
النَّصَارَى ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ كَمَا يَقُولُهُ مَعَهُمُ النُّفَاةُ : إِنَّ ظَوَاهِرَ جَمِيعِ الْكُتُبِ هُوَ التَّجْسِيمُ .
فَفِي التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّجْسِيمُ مَا لَا يُحْصَى .
وَلَيْسَ فِيهَا نَصٌّ بِمَا يَقُولُهُ النُّفَاةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجِهِ ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِهِ وَلَا مُنْفَصِلٌ عَنْهُ ، وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ ، وَلَا يُشَارُ إِلَيْهِ ، وَلَا يَصَعَدُ إِلَيْهِ شَيْءٌ ، وَلَا يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَدْنُو مِنْ شَيْءٍ ، وَلَا يَدْنُو إِلَيْهِ شَيْءٌ ، إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ النَّفْيِ الَّذِي يَقُولُهُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ .
فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ لَا التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّبُوَّاتِ - مِنْ هَذَا حَرْفٌ وَاحِدٌ ، وَكُلُّهَا مَمْلُوءَةٌ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إِنَّهُ تَجْسِيمٌ .
فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ : نَحْنُ اتَّبَعْنَا نُصُوصَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَمْ نَعْدِلْ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا ، وَلَمْ نَجِدْ فِي نُصُوصِهِمْ نَصًّا مُحْكَمًا صَرِيحًا بِالنَّفْيِ الَّذِي يَقُولُهُ نُفَاةُ الصِّفَاتِ .
[ ص: 454 ] وَوَجَدْنَا نُصُوصَهُمْ كُلَّهَا بِالْإِثْبَاتِ الَّذِي يَقُولُونَ : إِنَّهُ تَجْسِيمٌ .
فَكَانَ عَلَى قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ نُصُوصُ الْأَنْبِيَاءِ ظَاهِرَةً فِي التَّجْسِيمِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ نَصٌّ يُنَاقِضُ ذَلِكَ ، فَاتَّبَعْنَا نُصُوصَهُمْ ، وَكُلُّ مَنْ عَارَضَ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ ، لَمْ يُعَارِضْهَا بِنُصُوصٍ صَرِيحَةٍ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ ، لَكِنْ بِحُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ .
فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ : إِنَّ
النَّصَارَى خَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ ، وَصَرِيحَ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَاتَّبَعُوا قَلِيلًا مِنْ مُتَشَابِهِ كَلَامِهِمْ ، وَنَحْنُ اتَّبَعْنَا نُصُوصَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَمْ نُخَالِفْ شَيْئًا مِنْ صَرِيحِ نُصُوصِهِمْ ، وَلَكِنْ مُخَالِفُنَا يَقُولُ : إِنَّا خَالَفْنَا الْعَقْلَ .
وَنَحْنُ نُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ ، وَنَدَّعِي أَنَّ الْعَقْلَ مَعَنَا لَا عَلَيْنَا ، وَأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ الَّتِي تُعَارِضُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ .
أَوْ يَقُولُونَ : نَحْنُ
وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّا لَا نُعَارِضُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ بِالشُّبَهِ الْعَقْلِيَّةِ ، لَكِنْ نَحْنُ اتَّبَعْنَا كَلَامَهُمْ الْمُحْكَمَ الظَّاهِرَ الْكَثِيرَ ، الَّذِينَ لَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ كَلَامِهِمْ .
وَهُمْ خَالَفُوا كَلَامَهُمُ الْكَثِيرَ الْمُحْكَمَ ، وَاتَّبَعُوا قَلِيلًا مِنَ الْمُتَشَابِهِ .
وَيَقُولُ الْغُلَاةُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُهُمْ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُهُمْ الَّذِي يَحْكِي عَنْهُمْ : أَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ عَشِيَّةَ
عَرَفَةَ ، فَيُعَانِقُ الْمُشَاةَ وَيُصَافِحُ الرُّكْبَانَ ، وَأَنَّهُ يَتَمَشَّى فِي الْأَرْضِ ، يَكُونُ مَوْطِئُ أَقْدَامِهِ مُرُوجًا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .
لَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَعْجَبَ مِنْ قَوْلِ
النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّهُ هُوَ
الْمَسِيحُ ، وَأَنَّ اللَّاهُوتَ وَالنَّاسُوتَ اتَّحَدَا .
[ ص: 455 ] فَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا : إِنَّهُ حَلَّ فِي بَعْضِ الْأَجْسَادِ الْمَخْلُوقَةِ ، كَمَا يَقُولُهُ
النَّصَارَى .
أَوْ نَقُولُ : إِنَّهُ تَجَسَّدَ كَمَا تَتَجَسَّدُ الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ قَوْلِ
النَّصَارَى : إِنَّهُ اتَّحَدَ بِجِسْمِ
الْمَسِيحِ .
فَإِنَّا قَدْ عَهِدْنَا اللَّطَائِفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَتَصَوَّرُ فِي صُورَةٍ بَشَرِيَّةٍ ، وَلَمْ نَعْهَدْ مَلَكًا صَارَ هُوَ وَالْبَشَرُ شَيْئًا وَاحِدًا .
فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّحِدَ الْمَلَكُ بِالْبَشَرِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَّحِدَ رَبُّ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ بِالْبَشَرِ ؟
قَالُوا : وَقَدْ يَحُلُّ الْجِنِّيُّ فِي بَدَنِ الْإِنْسِيِّ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ ، إِلَّا أَنَّهُمَا جَوْهَرَانِ وَمَشِيئَتَانِ وَطَبِيعَتَانِ ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا اتِّحَادٌ ، لَكِنَّهُ دَخَلَ فِيهِ وَتَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=29434وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ : إِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ اتَّحَدَ بِالْبَشَرِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : جَوْهَرٌ وَاحِدٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : شَخْصٌ وَاحِدٌ وَأُقْنُومٌ وَاحِدٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَلَابُدَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْ نَوْعِ اتِّحَادٍ ، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ حُلُولِ الْجِنِّيِّ فِي الْإِنْسِيِّ ، فَإِذَا كَانَ مَا يَقُولُونَهُ مُمْتَنِعًا فِي الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ ، فَكَيْفَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ؟
[ ص: 456 ] وَمِنْ غُلَاةِ الْمُجَسِّمَةِ
الْيَهُودِ ، مَنْ يُحْكَىعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ بَكَى عَلَى الطُّوفَانِ حَتَّى رَمِدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ ، وَأَنَّهُ نَدِمَ حَتَّى عَضَّ يَدَهُ وَجَرَى مِنْهُ الدَّمُ ) ، وَهَذَا كُفْرٌ وَاضِحٌ صَرِيحٌ ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ : قَوْلُنَا خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ
النَّصَارَى ، فَإِنَّ
النَّصَارَى يَقُولُونَ : ( إِنَّهُ أُخِذَ وَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ وَبُصِقَ فِي وَجْهِهِ ، وَوُضِعَ الشَّوْكُ عَلَى رَأْسِهِ كَالتَّاجِ ، وَصُلِبَ بَيْنَ لِصَّيْنِ ، وَفُعِلَ بِهِ مِنْ أَقْبَحِ مَا يُفْعَلُ بِاللُّصُوصِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ .
وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ بِاللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ جَمِيعًا .
وَشَرِيعَةُ إِيمَانِهِمْ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ مَعَ الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ الَّذِي لَا بُدَّ لِطَوَائِفِهِمُ الثَّلَاثَةِ مِنْهُ ، يَمْتَنِعُ أَنْ تَحُلَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتُ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُلَّ فِي النَّاسُوتِ دُونَ اللَّاهُوتِ ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ إِذَا كَانَ اثْنَيْنِ ، وَمَنْ قَالَ بِالِاتِّحَادِ ، امْتَنَعَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اثْنَانِ .
وَفِي الْجُمْلَةِ ،
فَالنَّصَارَى الْمُثَلِّثَةُ ، إِمَّا أَنْ يُصَرِّحُوا بِالِاتِّحَادِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ
كَالْيَعْقُوبِيَّةِ ، وَهَؤُلَاءِ يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْآلَآمَ حَلَّتْ بِاللَّاهُوتِ .
وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا بِالِاتِّحَادِ مِنْ وَجْهٍ كَقَوْلِ
الْمَلَكِيَّةِ : إِنَّهُمَا شَخْصٌ
[ ص: 457 ] وَاحِدٌ ، وَقَوْلُ
النُّسْطُورِيَّةِ : هُمَا مَشِيئَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَحِينَئِذٍ فَمَا قَالُوهُ مِنَ التَّعَدُّدِ الَّذِي يُوجِبُ الْمُبَايَنَةَ ، وَأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ أَحَدُهُمَا بِمَا يَتَّصِفُ بِهِ الْآخَرُ ، وَلَا يَحُلُّ بِهِ مَا حَلَّ بِهِ ، فَيَكُونُ مُتَنَاقِضًا لِهَذَا .
فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَتَنَاقَضُوا فِي الِاتِّحَادِ ، كَمَا تَنَاقَضُوا فِي التَّثْلِيثِ ، وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ خِيَارِ هَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ بِالْكُفْرِ وَبِمَا يُنَاقِضُهُ ، وَبِالتَّوْحِيدِ وَبِمَا يُنَاقِضُهُ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ مِنْ نَدَمٍ وَبُكَاءٍ وَحُزْنٍ ، هُوَ دُونَ مَا يَفْعَلُهُ أَعْدَاؤُهُ بِهِ مِنْ ضَرْبٍ وَصَفْعٍ وَجَعْلِ الشَّوْكِ عَلَى رَأْسِهِ ، وَصَلْبِهِ بَيْنَ لِصَّيْنِ ، وَأَنَّ اسْتِغَاثَتَهُ بِمَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ نَقْصًا مِنْ نَدَمِهِ وَحُزْنِهِ .
وَإِنْ قَالُوا : فَعَلَ هَذَا حَتَّى يُعَلِّمَ عِبَادَهُ التَّشَبُّهَ بِهِ - أَمْكَنَ أُولَئِكَ الْمُجَسِّمَةَ الْكَفَرَةَ أَنْ يَقُولُوا : بَكَى وَنَدِمَ وَعَضَّ يَدَهُ نَدَمًا حَتَّى جَرَى الدَّمُ ، حَتَّى يُعَلِّمَ عِبَادَهُ التَّوْبَةَ مِنَ الذُّنُوبِ .
فَفِي الْجُمْلَةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29434مَا قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ قَوْلًا فِي اللَّهِ ، إِلَّا وَقَوْلُ النَّصَارَى أَقْبَحُ مِنْهُ .
وَلِهَذَا ، كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : لَا تَرْحَمُوهُمْ ، فَلَقَدْ سَبُّوا اللَّهَ مَسَبَّةً مَا سَبَّهُ إِيَّاهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ ، وَلِهَذَا يُعَظِّمُ اللَّهُ فِرْيَتَهُمْ
[ ص: 458 ] عَلَى اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ أَشَدَّ مِنْ تَعْظِيمِ افْتِرَاءِ غَيْرِهِمْ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=88وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=89لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=90تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=91أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=92وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=93إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=94لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=95وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=654592يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي ، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ ) .
وَرَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=654122قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ ، فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : لِي وَلَدٌ ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ) .
[ ص: 459 ] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=110أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=656830مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ نِدٌّ وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ . )
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=29434التَّجْسِيمِ مَا يَعْتَقِدُ ، يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ كَمَا يَقُولُهُ
النَّصَارَى ، فَإِنَّ
النَّصَارَى عَمَدُوا إِلَى مَا هُوَ جَسَدٌ مِنْ جِنْسِ سَائِرِ أَجْسَادِ بَنِي آدَمَ ، قَالُوا : إِنَّهُ إِلَهٌ تَامٌّ وَإِنْسَانٌ تَامٌّ ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ شَيْءٌ ، فَمَا بَقِيَ مَعَ هَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي نَظَائِرِهِ مَا يُعْتَقَدُ فِيهِ .
فَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : إِنَّ
مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ كَانَ هُوَ اللَّهُ ، لَمْ يَكُنْ هَذَا أَبْعَدَ مِنْ قَوْلِ
النَّصَارَى ، فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ
مُوسَى كَانَتْ أَعْظَمَ وَانْتِصَارَهُ عَلَى عَدْوِهِ أَظْهَرَ ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ إِلَهًا
لِهَارُونَ وَلِفِرْعَوْنَ .
فَإِذَا قِيلَ فِيهِ مَا قَالُوهُ فِي
الْمَسِيحِ : إِنَّهُ أَظْهَرَ الْمُعْجِزَ بِلَاهُوتِهِ ، وَأَظْهَرَ الْعُبُودِيَّةَ بِنَاسُوتِهِ ، لَمْ يَكُنْ بُطْلَانُ هَذَا أَظْهَرَ مِنْ بُطْلَانِ قَوْلِ
النَّصَارَى ، بَلْ مَتَى جَوَّزُوا اتِّحَادَ اللَّاهُوتِ بِالنَّاسُوتِ ، لَمْ يُمْكِنْهُمْ دَفْعُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُدَّعَى فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ ، بَلْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ حَلَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْقَدَادِيسِ ، لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ ذَلِكَ .
وَإِذَا قَالُوا : لَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ أَحَدٌ ، وَلَمْ يُبَشِّرْ بِهِ نَبِيٌّ ، أَوْ هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ .
[ ص: 460 ] قِيلَ لَهُمْ : غَايَةُ هَذَا كُلِّهِ ، أَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَقُمْ عِنْدَكُمْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ ، فَعَدَمُ عِلْمِكُمْ وَعَدَمُ عِلْمِ غَيْرِكُمْ بِالشَّيْءِ ، لَيْسَ عِلْمًا بِعَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ .
وَكَذَلِكَ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، ثُمَّ إِذَا عُدِمَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ الْخَالِقِ ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ الشَّيْءِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الدَّلِيلِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِهِ ، كَالْأُمُورِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ عَلَى نَقْلِهَا ، إِذَا لَمْ يُنْقَلْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهَا .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّكُمْ - مَعَ الْعَدَمِ - يُمْكِنُكُمُ النَّفْيُ الْعَامُّ عَنْ غَيْرِ
الْمَسِيحِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ كَانَ مُتَّحِدًا
بِالْمَسِيحِ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً ، وَمَعَ هَذَا فَكَانَ يُخْفِي نَفْسَهُ وَلَا يُظْهِرُ إِلَّا الْعُبُودِيَّةَ .
فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : هَكَذَا كَانَ مُتَّحِدًا بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَلَكِنْ أَخْفَى نَفْسَهُ لِحِكْمَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ ، أَوْ أَظْهَرَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْضَ خَوَاصِّ عِبَادِهِ ، أَوْ أَظْهَرَ لِطَائِفَةٍ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا خَبَرُهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ ، لَمْ يُمْكِنْ مَعَ تَصْدِيقِ
النَّصَارَى فِيمَا يَدَّعُونَهُ الْجَزْمُ بِكَذِبِ هَؤُلَاءِ ، بَلْ مَنْ جَوَّزَ قَوْلَ
النَّصَارَى ، جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ مُتَّحِدًا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْسَامِ ، فَيَجْعَلُ كَثِيرًا مِنَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ هِيَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، إِذْ كَانَتْ لَيْسَ هُوَ مُتَّحِدًا بِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
[ ص: 461 ] فَإِذَا اعْتَقَدُوا الِاتِّحَادَ فِيهَا ، كَمَا اعْتَقَدَتْهُ
النَّصَارَى فِي
الْمَسِيحِ ، لَمْ يَكُنْ ثَمَّ إِلَهٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ذَلِكَ الْجِسْمَ النَّاسُوتِيَّ الْمَخْلُوقَ .
لَكِنْ ظَنَّ الضَّالُّ أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، كَمَا ظَنَّ عُبَّادُ الْعِجْلِ أَنَّ الْعِجْلَ إِلَهُ
مُوسَى . فَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَّحِدَ الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ - بِبَعْضِ الْأَجْسَامِ ، لَمْ يُنْكَرْ عَلَى أَصْحَابِ الْعِجْلِ إِذَا جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْعَالَمِينَ اتَّحَدَ بِالْعِجْلِ ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْهُ نَوْعَ خَرْقِ عَادَةٍ . فَلَيْسَ
لِلنَّصَارَى أَنْ يُنْكِرُوا عَلَى عُبَّادِ الْعِجْلِ وَلَا عُبَّادِ شَيْءٍ مِنَ الْأَصْنَامِ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ - حَلَّ فِيهَا عِنْدَهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ لَمْ يَحُلَّ فِي ذَلِكَ .
فَإِذَا قِيلَ : إِنَّ
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْكَرَ عَلَى عُبَّادِ الْعِجْلِ .
قِيلَ : نَعَمْ .
وَمُوسَى يُنْكِرُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ، حَتَّى لَوْ عَبَدَ أَحَدٌ الشَّجَرَةَ الَّتِي كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ، فَإِنْكَارُهُ عَلَى
النَّصَارَى أَعْظَمُ .
وَمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقُلْ قَطُّ : إِنَّ اللَّهَ يَتَّحِدُ بِشَيْءٍ مَعَ الْمَخْلُوقَاتِ وَيَحُلُّ فِيهِ ، بَلْ أَخْبَرَ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ .
فَفِي التَّوْرَاةِ مِنْ نَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَمِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِهِ وَعُقُوبَةِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ ، وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا يُنَاقِضُ قَوْلَ
النَّصَارَى .
[ ص: 462 ] وَلِهَذَا كَانَ مَنْ تَدَبَّرَ التَّوْرَاةَ وَغَيْرَهَا مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مِنَ
النَّصَارَى ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ دِينَهُمْ يُنَاقِضُ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ ، وَأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّثْلِيثِ وَالِاتِّحَادِ وَالشِّرْكِ ، لَمْ يُبْعَثْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - .
وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ دُعَاءِ الْمَخْلُوقِينَ كَالْمَلَائِكَةِ ، أَوْ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ مَاتُوا ، مِثْلَ دُعَائِهِمْ
مَرْيَمَ وَغَيْرِهَا ، وَطَلَبِهِمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ الشَّفَاعَةَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ - لَمْ يُبْعَثْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، فَكَيْفَ وَقَدْ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ لِيَكُونَ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَصْحَابِهَا ، وَيَدْعُونَ تِلْكَ الصُّوَرَ ؟
وَإِنْ قَصَدُوا دُعَاءَ أَصْحَابِهَا ، فَهُمْ إِذَا صَرَّحُوا بِدُعَاءِ أَصْحَابِهَا وَطَلَبُوا مِنْهُمُ الشَّفَاعَةَ وَهُمْ مَوْتَى وَغَائِبُونَ ، كَانُوا مُشْرِكِينَ .
فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ فِي الظَّاهِرِ لِتَمَاثِيلِهِمُ الْمُصَوَّرَةِ ، وَهَذَا مِمَّا يَعْتَرِفُ حُذَّاقُ عُلَمَائِهِمْ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ .
وَلِهَذَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ فِي اتِّخَاذِ الصُّوَرِ فِي الْكَنَائِسِ لَمَّا ابْتَدَعَهُ بَعْضُهُمْ ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي أَخْبَارِهِمْ ، وَلَمْ يَأْتِ مَنِ ابْتَدَعَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَالْمُجَسِّمَةُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ ، وَأَنَّهُ عَظِيمٌ جِدًّا ، لَا يَقُولُونَ : إِنَّهُ مُتَّحِدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ ، وَلَا يَحُلُّ فِيهَا . فَمَنْ
[ ص: 463 ] قَالَ بِاتِّحَادِهِ وَحُلُولِهِ فِيهَا ، كَانَ قَوْلُهُ شَرًّا مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمُجَسِّمَةِ .
كَمَا أَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَنَّ الْأَفْلَاكَ أَجْسَامٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاجِبَةٌ بِنَفْسِهَا أَوَّلُهَا عِلَّةٌ تَتَشَبَّهُ بِهَا كَمَا يَقُولُهُ " أَرِسْطُو " وَذَوُوهُ ، أَوْ يُثْبِتُونَ لَهَا عِلَّةً فَاعِلَةً ، لَمْ تَزَلْ مُقَارِنَةً لَهَا ، كَمَا يَقُولُهُ " ابْنُ سِينَا " وَأَمْثَالُهُ .
وَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ خَالِقًا خَلَقَهَا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ .
وَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إِنَّ ذَلِكَ جِسْمٌ فَغَايَتُهُ أَنْ يُثْبِتَ جِسْمًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ
فَمَنْ أَثْبَتَ جِسْمًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَيْسَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، كَانَ قَوْلُهُ شَرًّا مِنْ قَوْلِ هَذَا .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُجَسِّمَةَ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ جِسْمًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ قَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَعَ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ وَتَقُومُ بِهِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ - خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ
الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّ الْأَفْلَاكَ أَجْسَامٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهَا ، كَمَا يَقُولُهُ "
أَرِسْطُو " وَذَوُوهُ ، وَخَيْرٌ مِنَ
النَّصَارَى أَيْضًا .
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : قَوْلُهُمْ : مَنْ قَالَ : ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ مُتَّفِقَةٍ ، أَوْ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ مُرَكَّبَةٍ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ وَالتَّكْثِيرَ وَالتَّبْعِيضَ وَالتَّشْبِيهَ - فَنَحْنُ نَلْعَنُهُ وَنُكَفِّرُهُ .
فَيُقَالُ لَهُمْ : وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَلْعَنُونَ مَنْ قَالَ : إِنَّ
الْمَسِيحَ لَيْسَ هُوَ إِلَهٌ حَقٌّ مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ ، وَلَا هُوَ مُسَاوِي الْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ
[ ص: 464 ] لَيْسَ بِخَالِقٍ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِجَالِسٍ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِ ، وَمَنْ قَالَ أَيْضًا : إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَيْسَ بِرَبٍّ حَقٍّ مُحْيٍ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ ثَلَاثَةَ أَقَانِيمَ .
وَتَلْعَنُونَ أَيْضًا مَعَ قَوْلِكُمْ إِنَّهُ الْخَالِقُ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ الْأَبُ ، وَالْأَبُ هُوَ الْخَالِقُ ، فَتَلْعَنُونَ مَنْ قَالَ : هُوَ الْأَبُ الْخَالِقُ ، وَمَنْ قَالَ : لَيْسَ هُوَ الْخَالِقُ ، فَتَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ .
فَتَلْعَنُونَ مَنْ جَرَّدَ التَّوْحِيدَ بِلَا شِرْكٍ وَلَا تَثْلِيثٍ ، وَمَنْ أَثْبَتَ التَّثْلِيثَ مَعَ انْفِصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ عَنِ الْآخَرِ ، وَتَجْمَعُونَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ .
فَمَنْ أَثْبَتَ أَحَدَهُمَا مُنْفَكًّا عَنِ الْآخَرِ لَعَنْتُمُوهُ ، كَمَنْ قَالَ : عِنْدِي وَاحِدٌ ثَلَاثَةٌ .
فَمَنْ قَالَ : هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ بِثَلَاثَةٍ - كَذَّبَهُ ، وَمَنْ قَالَ : هُوَ ثَلَاثَةٌ لَيْسَ وَاحِدًا - كَذَّبَهُ .
وَمَنْ قَالَ : عِنْدِي شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَعْدُومٌ ، فَمَنْ قَالَ : هُوَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ - كَذَّبَهُ ، وَمَنْ قَالَ : مَعْدُومٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ - كَذَّبَهُ .
وَمَنْ قَالَ : عِنْدِي شَيْءٌ هُوَ حَيٌّ مَيِّتٌ ، هُوَ عَالِمٌ جَاهِلٌ ، هُوَ قَادِرٌ عَاجِزٌ ، فَمَنْ قَالَ : هُوَ حَيٌّ لَيْسَ بِمَيِّتٍ - كَذَّبَهُ ، وَمَنْ قَالَ : هُوَ مَيِّتٌ لَيْسَ بِحَيٍّ - كَذَّبَهُ .
فَهَكَذَا أَنْتُمْ تَجْمَعُونَ بَيْنَ قَوْلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ ، أَحَدُهُمَا حَقٌّ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ .
فَمَنْ قَالَ الْحَقَّ وَنَفَى الْبَاطِلَ لَعَنْتُمُوهُ ، وَمَنْ قَالَ الْبَاطِلَ وَنَفَى
[ ص: 465 ] الْحَقَّ لَعَنْتُمُوهُ .
وَأَنْتُمْ تُشْبِهُونَ الْمَلَاحِدَةَ مِنَ
الْجَهْمِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ ، أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ إِثْبَاتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ ، فَيَقُولُونَ : لَا نَقُولُ هُوَ حَيٌّ وَلَا لَيْسَ بِحَيٍّ ، وَلَا هُوَ عَالِمٌ وَلَا لَيْسَ بِعَالِمٍ ، وَلَا قَادِرٌ وَلَا لَيْسَ بِقَادِرٍ .
بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا نَقُولُ : هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ ، وَلَا نَقُولُ هُوَ شَيْءٌ وَلَا نَقُولُ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ ، وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ ، وَلَا قَادِرٍ وَلَا عَاجِزٍ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا نُطْلِقُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا .
فَيُقَالُ لَهُمْ : رَفْعُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ إِثْبَاتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ ، كَالِامْتِنَاعِ عَنْ نَفْيِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ ، ثُمَّ وَصَفَهُ بِصِفَاتٍ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ .
وَكُلُّ قَوْلٍ يَتَضَمَّنُ جَمْعَ النَّقِيضَيْنِ وَإِثْبَاتَ الشَّيْءِ وَنَفْيَهُ ، أَوْ رَفْعَ النَّقِيضَيْنِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ - فَهُوَ بَاطِلٌ .
وَالنَّصَارَى فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَبْلَغِ النَّاسِ تَنَاقُضًا يَقُولُونَ الشَّيْءَ وَيَقُولُونَ بِمَا يُنَاقِضُهُ ، وَيَلْعَنُونَ مَنْ قَالَ هَذَا وَمَنْ قَالَ هَذَا .
وَأَيْضًا فَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ تَلْعَنُ الْأُخْرَى ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأَمَانَةِ تَلْعَنُ
الْأَرْيُوسِيَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ طَوَائِفَ
النَّصَارَى ، وَهُمْ يَلْعَنُونَكُمْ وَكُلٌّ مِنْ فِرَقِكُمْ
[ ص: 466 ] الثَّلَاثَةِ ،
النُّسْطُورِيَّةِ ،
وَالْيَعْقُوبِيَّةِ ،
وَالْمَلَكِيَّةِ ، تَلْعَنُ الطَّائِفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ .
فَأَنْتُمْ
وَالْيَعْقُوبِيَّةُ تَلْعَنُونَ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ
مَرْيَمَ لَمْ تَلِدْ إِلَهًا ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ
مَرْيَمَ وَلَدَتْ إِنْسَانًا تَامًّا إِلَهًا تَامًّا .
وَأَنْتُمُ
والنُّسْطُورِيَّةُ تَلْعَنُونَ مَنْ قَالَ : إِنَّهُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ بِمَشِيئَةٍ وَاحِدَةٍ وَطَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَمَنْ قَالَ : إِنَّ اللَّاهُوتَ تَأَلَّمَ مَعَ قَوْلِكُمْ : إِنَّ اللَّاهُوتَ مَوْلُودٌ مِنْ
مَرْيَمَ ، وَمَعَ قَوْلِكُمُ :
الْمَسِيحُ الَّذِي وَلَدَتْهُ
مَرْيَمُ مَاتَ وَصُلِبَ ، وَفِي أَقْوَالِكُمْ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمُتَنَاقِضَةِ الَّتِي تُوجِبُ أَنَّكُمْ مَلْعُونُونَ ، مَا يَطُولُ وَصْفُهُ ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ لَاعِنٌ مَلْعُونٌ ، فَلَعْنُكُمْ مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَقَالَاتِ ، لَا يُوجِبُ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ ، بَلْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلْعُونِينَ عِنْدَكُمْ كَطَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِكُمْ .
وَالنَّصَارَى طَوَائِفُ كَثِيرُونَ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا .