الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ولما كان بعد عام الحديبية ومهادنة قريش أرسل صلى الله عليه وسلم رسله إلى جميع الطوائف  ، فأرسل إلى النصارى : نصارى الشام ومصر ، فأرسل إلى هرقل ملك الروم  ، وقد قيل إن هرقل هذا هو الذي زادت النصارى له في صومهم عشرة أيام لما اقتتلت الروم [ ص: 270 ] والفرس ، وقتل اليهود بعد أن كان قد أمنهم ، فطلبت منه النصارى قتلهم وضمنوا له أن يكفروا خطيئته بما زادوه في الصوم ، وكانت الفرس مجوسا ، والروم نصارى ، وكانت المجوس الفرس غلبت النصارى أولا وكان هذا في أوائل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وأتباعه قليل ، ففرح المشركون بانتصار الفرس ; لأنهم أقرب إليهم ، فدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بانتصار الفرس على الروم ، فأنزل الله تعالى : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .

وكان هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون ، فكان كما أخبر ، ولما ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه كذبوه فراهنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكر هذا المفسرون والمحدثون [ ص: 271 ] قال سنيد في تفسيره - وهو شيخ البخاري - حدثنا حجاج عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عروة بن الزبير ، عن نيار بن مكرم الأسلمي ، أنه قال : لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الم غلبت الروم [ ص: 272 ] إلى قوله وهو العزيز الرحيم خرج أبو بكر وهو يقرؤها بمكة رافعا بها صوته : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين .

فقال له رءوس أهل مكة : ما هذا يا ابن أبي قحافة لعله مما يأتي به صاحبك ، قال : لا والله ، ولكنه كلام الله وقوله تبارك وتعالى ، قالوا : فذلك بيننا وبينك إن ظهرت الروم على فارس في بضع سنين ، فراهنهم أبو بكر ، ففتح الله للروم على فارس دون التسع فأسلم عند ذلك خلق كثير من المشركين
.

قال ابن مكرم : وإنما كانت قريش تستفتح يومئذ بالفرس ; لأنهم وإياهم أهل تكذيب بالبعث وأهل أصنام ، وإنما كان المؤمنون يستفتحون يومئذ بالروم ; لأنهم وإياهم أهل نبوة وتصديق بالبعث فأنزل الله تعالى : [ ص: 273 ] ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء .

وهذا الحديث رواه الترمذي في جامعه فقال : حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا إسماعيل بن أويس ، قال : حدثني ابن أبي الزناد ، عن أبي الزناد ، عن عروة بن الزبير ، عن نيار بن مكرم الأسلمي ، قال : لما نزلت : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين . فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب .

وذلك قوله تعالى : ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم .

[ ص: 274 ] وكانت قريش تحب ظهور فارس ; لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد .

قال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ فارتهن أبو بكر والمشركون ، فظهرت الروم على فارس في بضع سنين ، وأسلم عند ذلك ناس كثير من المشركين .

قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد - يعني غريبا من هذا الوجه - وإلا فهو مشهور متواتر عن أهل التفسير والمغازي والحديث والفقه ، والقصة متواترة عند الناس .

[ ص: 275 ] وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيره : عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه قال : كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم على فارس ; لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تغلب أهل فارس ; لأنهم أهل أوثان ، قال فذكروا ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون .

[ ص: 276 ] فذكره أبو بكر للمشركين ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن غلبوا كان لك كذا وكذا ، وإن غلبوا كان لنا كذا وكذا ، فجعلوا بينهم أجلا خمس سنين ، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له : هلا احتطت ، أفلا جعلته دون العشرة ؟ قال سعيد بن جبير : والبضع : ما دون العشر . قال فغلبت الروم ، ثم غلبت فذلك قوله الم غلبت الروم .

وهذا أيضا أخرجه الترمذي : حدثنا الحسين بن حريث ، حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن [ ص: 277 ] سفيان عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي عمرة .

ورواه أيضا من حديث الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس ، وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه .

ورواه أيضا من حديث الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد [ ص: 278 ] وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .

وذهبت طائفة من العلماء إلى أن الخبر جاء بظهور الروم على فارس يوم بدر ، وذهب آخرون أنه يوم الحديبية  ، وهذا هو الصحيح ، وهرقل كان قد مشى شكرا لله من حمص إلى بيت المقدس لما نصره على الفرس ، فوافاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام عقب نصر الله للروم على فارس ، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين .

قال علماء السير : فلما انتصرت الروم ، وخرج هرقل ملك الروم من منزله من حمص ماشيا على قدميه إلى بيت المقدس متشكرا لله [ ص: 279 ] عز وجل حين رد عليه ما رد ليصلي فيه ، فلما انتهى إلى بيت المقدس وصلى فيه قدم عليه حينئذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام .

قال ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، قال : حدثني أبو سفيان ، قال : كنا قوما تجارا ، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصرتنا حتى هلكت أموالنا ، فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني التي عقدت يوم الحديبية - فلما عقدت الهدنة أمنا ، فخرجت في نفر من قريش تاجرا إلى الشام ، وكان وجه متجرنا فقدمتها حين ظهر هرقل على من كان عارضه من فارس ، فأخرجهم منها ، وانتزع له صليبه الأعظم ، وقد كانوا سلبوه إياه ، فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ له ، وكانت حمص منزله فخرج منها على قدميه متشكرا لله عز وجل حين رد عليه ما رد ; ليصلي في بيت المقدس ، وبسط له الطريق بالبسط ويلقى عليها الرياحين ، فلما انتهى إلى إيلياء وقضى فيها صلاته ومعه بطارقته وأساقفته ، قال : وقدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه [ ص: 280 ] وسلم مع دحية بن خليفة الكلبي  فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين يعني الأكارين .

[ ص: 281 ] قال ابن إسحاق ، وقال ابن شهاب : حدثني أسقف النصارى في زمان عبد الملك بن مروان ، زعم لي أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر هرقل وعقله ، قال : لما قدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية أخذه فجعله على خاصرته ، ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يذكر له أمره ويصف له شأنه ويخبره ما جاء منه ، قال : فكتب إليه صاحب رومية أنه النبي الذي ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه ، فأمر هرقل ببطارقة الروم ، فجمعوا له في دسكرة ملكه ، وأمر بها فأشرجت عليهم أبوابها ، ثم اطلع عليهم من علية ، وخافهم على نفسه ، وقال : يا معشر الروم إني قد جمعتكم لخير ، إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى [ ص: 282 ] دينه ، وإنه - والله - للرجل الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا ، فهلم فلنتبعه ، لنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا ، فنخروا نخرة رجل واحد ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها ، فوجدوها قد أغلقت دونهم فقال : كروهم علي ، وخافهم على نفسه ، فكروا عليه ، وقال : يا معشر الروم ، إنما قلت لكم هذه المقالة التي قلت لكم ; لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي حدث ، فقد رأيت منكم الذي أسر به ، فوقعوا سجودا ، وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا .

وهذا حديث مشهور ، من حديث محمد بن إسحاق ، وهو ذو علم وبصيرة بهذا الشأن ، حفظ ما لا يحفظه غيره ، قال ابن إسحاق : وأخذ هرقل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعله في قصبة من ذهب ، وأمسكها عنده تعظيما له   . وهذه القصة مشهورة ذكرها أصحاب الصحاح .

ففي البخاري ومسلم والسياق للبخاري ، عن الزهري ، قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا [ ص: 283 ] تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن فيها أبا سفيان بن حرب وكفار قريش ، فأتوه وهو بإيليا ، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم بالترجمان ، فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فقال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم نسبا ، فقال : أدنوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه : إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل ، فإن كذبني فكذبوه ، قال أبو سفيان : فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي الكذب لكذبت عليه ، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو نسب . قال : فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله ؟ قلت : لا . قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال : فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم . فقال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون . قال : فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا . قال فهل يغدر ؟ قلت : لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها . قال : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت . نعم . قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه . قال : بماذا يأمركم ؟ قلت : يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة . فقال للترجمان : قل له سألتك عن نسبه ، فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها ، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول [ ص: 284 ] قبله فذكرت أن لا . فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله . وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، فقلت لو كان في آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه . وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله . وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل . وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم . وسألتك : أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت أن لا ، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب ، لا يسخطه أحد . وسألتك : هل يغدر فذكرت أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف ، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه .

ثم دعى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل [ ص: 285 ] فقرأه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، و ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

قال أبو سفيان : فلما قال ما قال ، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا ، فقلت لأصحابي حين أخرجنا : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر ، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام .

[ ص: 286 ] وكان ابن الناطور صاحب إيلياء أسقفا على نصارى أهل [ ص: 287 ] الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوما خبيث النفس ، فقال له بعض بطارقته : قد استنكرنا هيئتك . قال ابن الناطور : وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم ، فقال لهم حين سألوه : إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختان قد ظهر ، فمن يختتن من هذه الأمة ؟ ، قالوا : ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم ، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود ، فبينا هم على أمرهم ، أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما استخبره هرقل قال : اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا ؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن ، وسأله عن العرب قال : هم مختتنون ، فقال هرقل : هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان هرقل نظيره في العلم ، وسار هرقل إلى حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه [ ص: 288 ] وسلم وأنه نبي ، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم اطلع عليهم فقال : يا معشر الروم ، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي ، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل نفرتهم ويئس من الإيمان منهم قال : ردوهم علي ، وقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عليه ، فكان هذا آخر شأن هرقل .

قلت : وكان هرقل من أجل ملوك النصارى في ذلك الوقت ، وقد أخبر غير واحد أن هذا الكتاب إلى الآن باق عند ذرية هرقل في أرفع صوان وأعز مكان يتوارثونه كابرا عن كابر ، وأخبر غير واحد أن هذا الكتاب باق إلى الآن عند الفنش [ ص: 289 ] صاحب قشتالة ، وبلاد الأندلس يفتخرون به ، وهذا أمر مشهور معروف .

وقد روى سنيد وهو شيخ البخاري في تفسيره ، قال : حدثنا هشام ، قال : أخبرنا حصين عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ، فقرأ كتابه ، وجمع الروم فأبوا عليه ، قال : فلما كان يوم الأحد لم يحضر أسقفهم [ ص: 290 ] الكبير وتمارض ، فأرسل إليه فأبى ، ثم أرسل إليه فأبى ثلاث مرات ، فركب إليه فقال له : أليس قد عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى ، قال : أليس قد رأيت ما ركبوا مني فأنت أطوع فيهم مني فتعال فادعهم ، قال : وتأذن لي في ذلك ، قال : نعم ، قال : اذهب هو ذا أجيء ، قال : فجاء بسواده إلى كنيستهم العظمى ، فلما رأوه خروا له سجدا الملك وغيره ، فقام في المذبح فقال : يا أبناء الموتى ، هذا النبي الذي بشر به عيسى ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فنخروا ووثبوا إليه فعضوه بأفواههم حتى قتلوه ، قال : وجعلوا يخرجون أضلاعه بالكلبتين حتى مات .

التالي السابق


الخدمات العلمية