ولما كان بعد عام الحديبية  ومهادنة قريش  أرسل صلى الله عليه وسلم رسله إلى جميع الطوائف  ، فأرسل إلى النصارى   : نصارى  الشام  ومصر  ، فأرسل إلى هرقل  ملك الروم  ، وقد قيل إن هرقل  هذا هو الذي زادت النصارى  له في صومهم عشرة أيام لما اقتتلت الروم   [ ص: 270 ] والفرس  ، وقتل اليهود  بعد أن كان قد أمنهم ، فطلبت منه النصارى  قتلهم وضمنوا له أن يكفروا خطيئته بما زادوه في الصوم ، وكانت الفرس  مجوسا ، والروم  نصارى ، وكانت المجوس الفرس  غلبت النصارى  أولا وكان هذا في أوائل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة  وأتباعه قليل ، ففرح المشركون بانتصار الفرس   ; لأنهم أقرب إليهم ، فدخل  أبو بكر الصديق  رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره بانتصار الفرس  على الروم  ، فأنزل الله تعالى : الم  غلبت الروم  في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون  في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون  بنصر الله   . 
وكان هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون ، فكان كما أخبر ، ولما ذكر  أبو بكر الصديق  رضي الله عنه كذبوه فراهنهم  أبو بكر الصديق  رضي الله عنه كما ذكر هذا المفسرون والمحدثون  [ ص: 271 ] قال سنيد  في تفسيره - وهو شيخ  البخاري   - حدثنا حجاج  عن ابن أبي الزناد  ، عن أبيه ، عن  عروة بن الزبير  ، عن نيار بن مكرم الأسلمي  ، أنه قال : لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الم  غلبت الروم   [ ص: 272 ] إلى قوله وهو العزيز الرحيم  خرج  أبو بكر  وهو يقرؤها بمكة  رافعا بها صوته : الم  غلبت الروم  في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين   . 
فقال له رءوس أهل مكة   : ما هذا يا  ابن أبي قحافة  لعله مما يأتي به صاحبك ، قال : لا والله ، ولكنه كلام الله وقوله تبارك وتعالى ، قالوا : فذلك بيننا وبينك إن ظهرت الروم  على فارس  في بضع سنين ، فراهنهم  أبو بكر  ، ففتح الله للروم  على فارس  دون التسع فأسلم عند ذلك خلق كثير من المشركين  . 
قال ابن مكرم   : وإنما كانت قريش  تستفتح يومئذ بالفرس   ; لأنهم وإياهم أهل تكذيب بالبعث وأهل أصنام ، وإنما كان المؤمنون يستفتحون يومئذ بالروم   ; لأنهم وإياهم أهل نبوة وتصديق بالبعث فأنزل الله تعالى :  [ ص: 273 ] ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء   . 
وهذا الحديث رواه  الترمذي  في جامعه فقال : حدثنا محمد بن إسماعيل  حدثنا إسماعيل بن أويس  ، قال : حدثني ابن أبي الزناد  ، عن أبي الزناد  ، عن  عروة بن الزبير  ، عن نيار بن مكرم الأسلمي  ، قال : لما نزلت : الم  غلبت الروم  في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون  في بضع سنين   . فكانت فارس  يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم  ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم  عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب . 
وذلك قوله تعالى : ويومئذ يفرح المؤمنون  بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم   . 
 [ ص: 274 ] وكانت قريش  تحب ظهور فارس   ; لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج  أبو بكر الصديق  رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة   : الم  غلبت الروم  في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون  في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد   . 
قال ناس من قريش   لأبي بكر   : فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم  ستغلب فارس  في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ فارتهن  أبو بكر  والمشركون ، فظهرت الروم  على فارس  في بضع سنين ، وأسلم عند ذلك ناس كثير من المشركين . 
قال  الترمذي  هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد   - يعني غريبا من هذا الوجه - وإلا فهو مشهور متواتر عن أهل التفسير والمغازي والحديث والفقه ، والقصة متواترة عند الناس . 
 [ ص: 275 ] وقال أبو جعفر بن جرير  في تفسيره : عن سفيان  ، عن حبيب بن أبي عمرة  عن  سعيد بن جبير  ، عن  ابن عباس  أنه قال : كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم  على فارس   ; لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تغلب أهل فارس   ; لأنهم أهل أوثان ، قال فذكروا ذلك  لأبي بكر  فذكره  أبو بكر  للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : الم  غلبت الروم  في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون  في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون   . 
 [ ص: 276 ] فذكره  أبو بكر  للمشركين ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلا ، فإن غلبوا كان لك كذا وكذا ، وإن غلبوا كان لنا كذا وكذا ، فجعلوا بينهم أجلا خمس سنين ، فذكر ذلك  أبو بكر  للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له : هلا احتطت ، أفلا جعلته دون العشرة ؟ قال  سعيد بن جبير   : والبضع : ما دون العشر . قال فغلبت الروم  ، ثم غلبت فذلك قوله الم  غلبت الروم   . 
وهذا أيضا أخرجه  الترمذي   : حدثنا الحسين بن حريث  ، حدثنا معاوية بن عمرو  عن  أبي إسحاق الفزاري  عن  [ ص: 277 ] سفيان  عن حبيب بن أبي عمرة  ، عن  سعيد بن جبير  ، عن  ابن عباس  ، وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، إنما نعرفه من حديث  سفيان الثوري  ، عن حبيب بن أبي عمرة   . 
ورواه أيضا من حديث  الزهري  ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة  ، عن  ابن عباس  ، وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه . 
ورواه أيضا من حديث  الأعمش  ، عن عطية  ، عن  أبي سعيد   [ ص: 278 ] وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه . 
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن الخبر جاء بظهور الروم  على فارس  يوم بدر  ، وذهب آخرون أنه يوم الحديبية   ، وهذا هو الصحيح ، وهرقل  كان قد مشى شكرا لله من حمص  إلى بيت المقدس  لما نصره على الفرس  ، فوافاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام عقب نصر الله للروم  على فارس  ، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين . 
قال علماء السير : فلما انتصرت الروم  ، وخرج هرقل  ملك الروم  من منزله من حمص  ماشيا على قدميه إلى بيت المقدس  متشكرا لله  [ ص: 279 ] عز وجل حين رد عليه ما رد ليصلي فيه ، فلما انتهى إلى بيت المقدس  وصلى فيه قدم عليه حينئذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع  دحية الكلبي  يدعوه إلى الإسلام . 
قال  ابن إسحاق   : حدثني  الزهري  ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود  ، عن  عبد الله بن عباس  ، قال : حدثني أبو سفيان  ، قال : كنا قوما تجارا ، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصرتنا حتى هلكت أموالنا ، فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني التي عقدت يوم الحديبية   - فلما عقدت الهدنة أمنا ، فخرجت في نفر من قريش  تاجرا إلى الشام  ، وكان وجه متجرنا فقدمتها حين ظهر هرقل  على من كان عارضه من فارس  ، فأخرجهم منها ، وانتزع له صليبه الأعظم ، وقد كانوا سلبوه إياه ، فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ له ، وكانت حمص  منزله فخرج منها على قدميه متشكرا لله عز وجل حين رد عليه ما رد ; ليصلي في بيت المقدس  ، وبسط له الطريق بالبسط ويلقى عليها الرياحين ، فلما انتهى إلى إيلياء  وقضى فيها صلاته ومعه بطارقته وأساقفته ، قال : وقدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه  [ ص: 280 ] وسلم مع  دحية بن خليفة الكلبي   فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد  رسول الله إلى هرقل  عظيم الروم  ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين يعني الأكارين . 
 [ ص: 281 ] قال  ابن إسحاق  ، وقال  ابن شهاب   : حدثني أسقف النصارى  في زمان  عبد الملك بن مروان  ، زعم لي أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر هرقل  وعقله ، قال : لما قدم عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع  دحية  أخذه فجعله على خاصرته ، ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يذكر له أمره ويصف له شأنه ويخبره ما جاء منه ، قال : فكتب إليه صاحب رومية أنه النبي الذي ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه ، فأمر هرقل  ببطارقة الروم  ، فجمعوا له في دسكرة ملكه ، وأمر بها فأشرجت عليهم أبوابها ، ثم اطلع عليهم من علية ، وخافهم على نفسه ، وقال : يا معشر الروم إني قد جمعتكم لخير ، إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى  [ ص: 282 ] دينه ، وإنه - والله - للرجل الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا ، فهلم فلنتبعه ، لنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا ، فنخروا نخرة رجل واحد ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها ، فوجدوها قد أغلقت دونهم فقال : كروهم علي ، وخافهم على نفسه ، فكروا عليه ، وقال : يا معشر الروم ، إنما قلت لكم هذه المقالة التي قلت لكم ; لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي حدث ، فقد رأيت منكم الذي أسر به ، فوقعوا سجودا ، وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا . 
وهذا حديث مشهور ، من حديث  محمد بن إسحاق  ، وهو ذو علم وبصيرة بهذا الشأن ، حفظ ما لا يحفظه غيره ، قال  ابن إسحاق   : وأخذ هرقل  كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعله في قصبة من ذهب ، وأمسكها عنده تعظيما له   . وهذه القصة مشهورة ذكرها أصحاب الصحاح . 
ففي  البخاري   ومسلم  والسياق  للبخاري  ، عن  الزهري  ، قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود  ، أن  عبد الله بن عباس  أخبره أن  أبا سفيان بن حرب  أخبره أن هرقل  أرسل إليه في ركب من قريش  وكانوا  [ ص: 283 ] تجارا بالشام  في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن فيها  أبا سفيان بن حرب  وكفار قريش  ، فأتوه وهو بإيليا  ، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم  ثم دعاهم بالترجمان ، فقال : أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ، فقال أبو سفيان   : فقلت : أنا أقربهم نسبا ، فقال : أدنوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه : إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل ، فإن كذبني فكذبوه ، قال أبو سفيان   : فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي الكذب لكذبت عليه ، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو نسب . قال : فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله ؟ قلت : لا . قال : فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت : لا . قال : فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم . فقال : أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت : بل يزيدون . قال : فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا . قال فهل يغدر ؟ قلت : لا ، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها . قال : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت . نعم . قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه . قال : بماذا يأمركم ؟ قلت : يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة . فقال للترجمان : قل له سألتك عن نسبه ، فذكرت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها ، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول  [ ص: 284 ] قبله فذكرت أن لا . فقلت : لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله . وسألتك : هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا ، فقلت لو كان في آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه . وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا ، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله . وسألتك : أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل . وسألتك : هل يزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون ، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم . وسألتك : أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت أن لا ، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب ، لا يسخطه أحد . وسألتك : هل يغدر فذكرت أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك : بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عن عبادة الأوثان ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف ، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه . 
ثم دعى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع  دحية الكلبي  إلى عظيم بصرى  فدفعه عظيم بصرى  إلى هرقل   [ ص: 285 ] فقرأه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد  عبد الله ورسوله إلى هرقل  عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، و ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون   . 
قال أبو سفيان   : فلما قال ما قال ، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا ، فقلت لأصحابي حين أخرجنا : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة  إنه ليخافه ملك بني الأصفر  ، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام . 
 [ ص: 286 ] وكان ابن الناطور  صاحب إيلياء  أسقفا على نصارى  أهل  [ ص: 287 ] الشام  يحدث أن هرقل  حين قدم إيليا  أصبح يوما خبيث النفس ، فقال له بعض بطارقته : قد استنكرنا هيئتك . قال ابن الناطور   : وكان هرقل  حزاء ينظر في النجوم ، فقال لهم حين سألوه : إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختان قد ظهر ، فمن يختتن من هذه الأمة ؟ ، قالوا : ليس يختتن إلا اليهود  فلا يهمنك شأنهم ، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود  ، فبينا هم على أمرهم ، أتي هرقل  برجل أرسل به ملك غسان  يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما استخبره هرقل  قال : اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا ؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن ، وسأله عن العرب قال : هم مختتنون ، فقال هرقل   : هذا ملك هذه الأمة قد ظهر ، ثم كتب هرقل  إلى صاحب له برومية  وكان هرقل  نظيره في العلم ، وسار هرقل  إلى حمص  حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل  على خروج النبي صلى الله عليه  [ ص: 288 ] وسلم وأنه نبي ، فأذن هرقل  لعظماء الروم  في دسكرة له بحمص  ، ثم أمر بأبوابها فغلقت ، ثم اطلع عليهم فقال : يا معشر الروم  ، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي ، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت ، فلما رأى هرقل  نفرتهم ويئس من الإيمان منهم قال : ردوهم علي ، وقال : إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت ، فسجدوا له ورضوا عليه ، فكان هذا آخر شأن هرقل   . 
قلت : وكان هرقل  من أجل ملوك النصارى  في ذلك الوقت ، وقد أخبر غير واحد أن هذا الكتاب إلى الآن باق عند ذرية هرقل  في أرفع صوان وأعز مكان يتوارثونه كابرا عن كابر ، وأخبر غير واحد أن هذا الكتاب باق إلى الآن عند الفنش   [ ص: 289 ] صاحب قشتالة  ، وبلاد الأندلس  يفتخرون به ، وهذا أمر مشهور معروف . 
وقد روى سنيد  وهو شيخ  البخاري  في تفسيره ، قال : حدثنا هشام  ، قال : أخبرنا حصين  عن عبد الله بن شداد بن الهاد  ، قال : لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل  ، فقرأ كتابه ، وجمع الروم فأبوا عليه ، قال : فلما كان يوم الأحد لم يحضر أسقفهم  [ ص: 290 ] الكبير وتمارض ، فأرسل إليه فأبى ، ثم أرسل إليه فأبى ثلاث مرات ، فركب إليه فقال له : أليس قد عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى ، قال : أليس قد رأيت ما ركبوا مني فأنت أطوع فيهم مني فتعال فادعهم ، قال : وتأذن لي في ذلك ، قال : نعم ، قال : اذهب هو ذا أجيء ، قال : فجاء بسواده إلى كنيستهم العظمى ، فلما رأوه خروا له سجدا الملك وغيره ، فقام في المذبح فقال : يا أبناء الموتى ، هذا النبي الذي بشر به عيسى  ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا  رسول الله ، فنخروا ووثبوا إليه فعضوه بأفواههم حتى قتلوه ، قال : وجعلوا يخرجون أضلاعه بالكلبتين حتى مات . 
				
						
						
