الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 300 ] ثم بعد الإرسال إلى الملوك ، أخذ صلى الله عليه وسلم في غزو النصارى  ، فأرسل أولا زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة في جيش ، فقاتلوا النصارى بمؤتة من أرض الكرك ، وقال لأصحابه : أميركم زيد ، فإن قتل فجعفر ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة ، فقتل الثلاثة ، وأخبر النبي صلى الله عليه [ ص: 301 ] وسلم بقتل الثلاثة في اليوم الذي قتلوا فيه ، وأخبر أنه أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله على يديه ، ثم إنه بعد هذا غزا النصارى بنفسه ، وأمر جميع المسلمين أن يخرجوا معه في الغزاة ، ولم يأذن في التخلف عنه لأحد ، وغزا في عشرات ألوف غزوة تبوك ، فقدم تبوك وأقام بها عشرين ليلة ; ليغزو النصارى عربهم ورومهم وغيرهم ، وأقام ينتظرهم ليقاتلهم ، فسمعوا به وأحجموا عن قتاله ولم يقدموا عليه .

وأنزل الله تعالى في ذلك أكثر سورة ( براءة ) ، وذم تعالى الذين تخلفوا عن جهاد النصارى  ذما عظيما .

والذين لم يروا جهادهم طاعة جعلهم منافقين كافرين ، لا يغفر الله لهم إذا لم يتوبوا ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :

[ ص: 302 ] سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم .

وقال تعالى : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره .

فإذا كان هذاحكم الله ورسوله فيمن تخلف عن جهادهم إذ لم يره طاعة ولا رآه واجبا ، فكيف حكمه فيهم أنفسهم ؟ حتى قال تعالى : قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره .

[ ص: 303 ] ثم عند موته صلى الله عليه وسلم أمرنا بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب .

ففي صحيح مسلم : أن عمر بن الخطاب ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما   .

وروى الإمام أحمد ، وأبو عبيد ، عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، قال : آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أخرجوا يهود أهل الحجاز ونصارى أهل نجران من جزيرة العرب .

[ ص: 304 ] وقام خلفاؤه رضي الله عنهم بعده بدينه صلى الله عليه وسلم ، فأرسل أبو بكر الصديق الجيوش ; لغزو النصارى بالشام ، وجرت بين المسلمين وبينهم عدة غزوات ، ومات أبو بكر وهم محاصرو دمشق ثم ولي عمر بن الخطاب ففتح عامة الشام ومصر والعراق وبعض خراسان في خلافته ، وقدم إلى الشام في خلافته وسلم إليه النصارى بيت المقدس لما رأوه من صفته عندهم .

قال أبو عبد الله محمد بن عائذ في كتاب الفتوح ، قال : قال [ ص: 305 ] عطاء الخراساني : لما نزل المسلمون بيت المقدس ، قال لهم رؤساؤهم : إنا قد أجمعنا لمصالحتكم ، وقد عرفتم منزل بيت المقدس وإنه المسجد الذي أسري بنبيكم إليه ، ونحن نحب أن يفتحها ملككم - وكان الخليفة عمر بن الخطاب - فبعث المسلمون وفدا ، وبعث الروم أيضا وفدا مع المسلمين حتى أتوا المدينة ، فجعلوا يسألون عن أمير المؤمنين ، فقال الروم لترجمانهم : من يسألون ؟ قالوا : عن أمير المؤمنين ، فاشتد عجبهم ، وقالوا : هذا الذي غلب فارس والروم ، وأخذ كنوز كسرى وقيصر ، وليس له مكان يعرف به ! بهذا غلب الأمم ، فوجدوه قد ألقى نفسه حين أصابه الحر نائما ، فازدادوا تعجبا ، فلما قرأ كتاب أبي عبيدة أقبل حتى نزل بيت المقدس وفيها اثنا عشر ألفا من الروم وخمسون ألفا من أهل الأرض ، فصالحهم ، وكان من جملة المصالحة أن لا يدخل عليهم من اليهود أحد ، ثم دخل المسجد فوجد [ ص: 306 ] زبالة عظيمة على الصخرة ، فأمر بكنس الزبالة ، وتنظيف المسجد وأمر ببنائه وجعل مصلاه في مقدمه ، ثم رجع إلى المدينة ، وقصته مشهورة في كتاب الفتوحات ، ثم قدم مرة ثانية إلى أرض الشام لما تم فتحه فشارط بوضع الخراج وفرض الأموال ، وشارط أهل الذمة على شروط المسلمين فأتم بها المسلمون بعده .

وقد ذكرها أهل السير وغيرهم ، فروى سفيان الثوري ، عن مسروق ، عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام  ، وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها ديرا ولا كنيسة [ ص: 307 ] ولا قلاية ولا صومعة راهب ، ولا يجددوا ما خرب ، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ، ولا يئووا جاسوسا ، ولا يكتموا غشا للمسلمين ، ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا ، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه ، وأن يوقروا المسلمين ، وأن يقوموا لهم إذا أرادوا الجلوس ، ولا يتشبهوا بالمسلمين بشيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ، ولا يتسموا بأسماء المسلمين ، ولا يكتنوا بكناهم ، ولا يركبوا سرجا ، ولا يتقلدوا سيفا ، ولا يتخذوا شيئا من سلاح ، [ ص: 308 ] ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ، ولا يبيعوا الخمور ، وأن يجذوا مقادم رءوسهم ، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا ، وأن يشدوا الزنانير ، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا ، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ، ولا يخرجوا شعانين ، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ، ولا يظهروا النيران معهم ، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ، فإن خالفوا في شيء مما شرطوه ، فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق . أخرجه أبو داود في سننه .

[ ص: 309 ] وقال أبو عبيد في كتاب الأموال : حدثنا النضر بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن خليفة بن [ ص: 310 ] قيس ، قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر فأكتب إلى أهل الأمصار في أهل الكتاب : أن يجزوا نواصيهم ، وأن يربطوا الكستيجات في أوساطهم ; ليعرف زيهم من زي أهل الكتاب .

وحدثنا أبو المنذر ، ومصعب بن المقدام كلاهما عن سفيان [ ص: 311 ] عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن أسلم ، قال : كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن يختموا رقاب أهل الذمة .

قال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن أسلم : أن عمر أمر في أهل الذمة أن يجزوا نواصيهم ، وأن يركبوا على الأكف ، وأن يركبوا عرضا لا يركبوا كما يركب المسلمون  ، وأن يوثقوا المناطق .

قال أبو عبيد : يعني الزنانير .

[ ص: 312 ] وكما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة هذه الشروط والتزموها ، أوصى بهم نوابه ومن يأتي بعده من الخلفاء وغيرهم ، وهذا هو العدل الذي أمر الله به ورسوله .

ففي صحيح البخاري ، عن عمر بن الخطاب ، أنه قال في خطبته عند وفاته : وأوصي الخليفة من بعدي بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من وراءهم ، ولا يكلفوا إلا طاقتهم .

وهذا امتثال لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ألا من ظلم معاهدا ، أو انتقصه من حقه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة . رواه أبو داود .

[ ص: 313 ] فكان هذا في النصارى الذين أدوا إليه الجزية .

وعمر بن الخطاب لما فتح الشام وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون ، أسلم منهم خلق كثير لا يحصي عددهم إلا الله تبارك وتعالى ، فإن العامة والفلاحين وغيرهم كان عامتهم نصارى ، ولم يكن في المسلمين من يعمل فلاحة ، ولم يكن للمسلمين في دمشق مسجد يصلون فيه إلا مسجد واحد لقلتهم ، ثم صار أكثر أهل الشام وغيرهم مسلمين طوعا لا كرها ، فإن إكراه أهل الذمة على الإسلام غير جائز ، كما قال تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .

[ ص: 314 ] قال أبو عبيد في كتاب الأموال ، عن ابن الزبير ، قال : كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن : أنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية   .

التالي السابق


الخدمات العلمية