الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 224 ] وأما قولهم : وحوارييه الذين أرسلهم إلينا أنذرونا بلغتنا وسلموا لنا ديننا الذين قد عظموا في هذا الكتاب بقوله في سورة الحديد : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال في سورة البقرة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فأعني بقوله : أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الواحد الذي هو الإنجيل الطاهر ; لأنه لو عني عن إبراهيم وداود وموسى ومحمد لكان قال : معهم الكتب ; لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون [ ص: 225 ] غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد ; لأنه ما أتى جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر وجاء أيضا في الكتاب وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين يعني الحواريين لم يقل رسول إنما قال : المرسلين والجواب من وجوه :

أحدها : أنه ليس فيما ذكر ولا في غيره ما يوجب تكذيب الرسول الذي أرسل إليكم وإلى غيركم وتمسككم بدين مبدل منسوخ كما أنه ليس فيما يعظم به موسى والتوراة ومن اتبع موسى ما يوجب لليهود تكذيب الرسول الذي أرسل إليهم وتمسكهم بدين مبدل منسوخ .

الثاني : أن قولهم : ولا نتبع غير المسيح وحوارييه قول باطل ، فإنهم ليسوا متبعين لا للمسيح ولا لحوارييه لوجهين :

أحدهما : أن دينهم مبدل ليس كله عن المسيح والحواريين بل أكثر شرائعهم أو كثير منها ليست عن المسيح والحواريين .

الثاني : أن المسيح بشر بأحمد كما قال - تعالى - : وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .

[ ص: 226 ] فإذا لم يتبعوا أحمد كانوا مكذبين للمسيح وعندهم من البشارات عن المسيح وغيره من الأنبياء بأحمد ما هو مبسوط في موضع آخر كما سيأتي - إن شاء الله .

وإنما المقصود هنا منع احتجاجهم بشيء مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان أنه حجة عليهم لا لهم إذ زعموا أن في بعضه حجة لهم .

الثالث : أن قولهم عن الحواريين : أنهم الرسل الذين عظموا في هذا الكتاب قول باطل فسروا به القرآن تفسيرا باطلا من جنس تفسيرهم الذين أنعمت عليهم بالنصارى . وتفسيرهم بإذني أي ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت . وتفسيرهم : الم ذلك الكتاب بالإنجيل ، وتفسيرهم : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( 3 ) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون هم النصارى .

وتفسيرهم قوله : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن هم النصارى .

[ ص: 227 ] إلا الذين ظلموا هم اليهود .

وأمثال ذلك من تفسيرهم القرآن ، مثل ما يفسرون به التوراة والإنجيل والزبور من التفاسير التي هي من تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله والكذب على أنبيائه بما يظهر أنه كذب على الأنبياء لكل من تدبر ذلك . وبطلان ذلك يظهر من وجوه .

أحدها : أن الله قال : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز . وقوله - تعالى - : لقد أرسلنا رسلنا اسم جمع مضاف يعم جميع من أرسله الله تعالى .

الثاني : أن أحق الرسل بهذا الحكم الذين سماهم في القرآن ; كما قال - تعالى - : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما [ ص: 228 ] وقال : في سورة الشعراء كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون . وقوله : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . وقوله : كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين وقوله : [ ص: 229 ] كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . وقوله : كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين . وقال - تعالى - : إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا . وقال - تعالى - : كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب . وقال - تعالى - : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون . [ ص: 230 ] وذكر قصته ثم قال : بعد ذلك : ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون . ثم لما قضى قصته قال - تعالى - : ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فذكر إرسال رسله تترى أي متواترة ثم ذكر إرسال موسى وهارون وإرسال موسى وهارون قبل المسيح بمدة طويلة .

وقال - تعالى - : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين فهذا إخبار منه - سبحانه وتعالى - بأنه بعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى عبادة الله وحده وقال - تعالى - : في المسيح - صلوات الله عليه - [ ص: 231 ] ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة . . . فأخبر أن المسيح رسول من هؤلاء الرسل قد خلت من قبله الرسل وقبله قد بعث في كل أمة رسولا .

وقد روي في حديث أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأنبياء مائة ألف نبي وأن الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر وبعض الناس يصحح هذا الحديث وبعضهم يضعفه ، فإن [ ص: 232 ] كان صحيحا فالرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر وإن لم تعرف صحته أمكن أن يكونوا بقدر ذلك وأن يكونوا أكثر ; كما يمكن أن يكونوا أقل ، فإن الله تعالى أخبر أنه بعث في كل أمة رسولا .

وقال - تعالى - : إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أنتم توفون سبعين أمة أنتم أكرمها وأفضلها على الله وهو حديث جيد .

وقد قال - تعالى - : في سورة الزمر وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين .

[ ص: 233 ] وقال - تعالى - في سورة تبارك : وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير فهذا إخبار منه بأن كل فوج يلقى في النار وقد جاءهم نذير ; كما قال - تعالى - : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقد قال - تعالى - : ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال - تعالى - : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين .

[ ص: 234 ] فقد أرسل الله قبل المسيح رسلا كثيرين إلى جميع الأمم فكيف يجوز أن يدعي أن المراد بقوله - تعالى - : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات هم الحواريون - فقط - الذين أرسلهم المسيح مع أن الحواريين رسل المسيح بمنزلة رسل موسى وإبراهيم ورسل محمد - صلى الله عليه وسلم - .

ومن أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبت طاعته على الناس فيما يبلغه عن رسول الله ; كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني .

فبين أن أميره إنما تجب طاعته في المعروف الذي أمر الله به ورسوله لا في كل ما يأمر به ففي الصحيحين عن علي أن [ ص: 235 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشا وأمر عليهم رجلا وأمرهم أن يسمعوا ويطيعوا فأغضبوه فقال : اجمعوا لي حطبا فجمعوا له ثم قال : أوقدوا نارا فأوقدوا نارا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا قالوا : بلى قال : فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلى رسول الله من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا وقال : لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة .

[ ص: 236 ] وفي مسلم عن أم الحصين سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يقول ولو استعمل عليكم عبد أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا .

وفي الصحيحين عنه أنه قال : ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى له من سامع .

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي [ ص: 237 ] - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار .

[ ص: 238 ] وفي السنن عنه أنه قال : نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .

فالحواريون في تبليغهم عن المسيح كسائر أصحاب الأنبياء في تبليغهم عنهم وقال الله تعالى في كتابه : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وأولوا الأمر هم العلماء والأمراء فإذا أمروا بما أمر الله به ورسوله وجبت طاعتهم وإن تنازع الناس في شيء وجب رده إلى الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يرد إلى أحد دون الرسل الذين أرسلهم الله ; كما قال : في الآية الأخرى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

[ ص: 239 ] والكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله ليس المراد به كتابا معينا ; كما قال - تعالى - : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ولم يرد بهذا أن يؤمن بكتاب معين واحد بل وهذا يتضمن الإيمان بالتوراة والإنجيل والقرآن وكل ما أنزله الله من كتاب ; كما قال : في سورة الشورى فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم فأمره الله تعالى أن يؤمن بكل ما أنزله الله من كتاب وأن يعدل بين من بلغتهم رسالته ; كما قال لأنذركم به ومن بلغ فكل من بلغه القرآن فهو مخاطب به يتناوله خطاب القرآن وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : بلغوا عني ولو آية .

[ ص: 240 ] وقال - تعالى - : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وفي القراءة الأخرى وكتابه ورسله وكلا القراءتين موافقة للأخرى وقوله - تعالى - : كان الناس أمة واحدة أي فاختلفوا بعد ذلك ; كما قال : في السورة الأخرى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا فلما اختلف بنو آدم بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب .

وذلك يتناول كل كتاب أنزله الله ليحكم الله ويحكم كتابه بين الناس بالحق فالحاكم بين الناس هو الله تعالى وحكمه في كتبه المنزلة فلهذا أمر الله المؤمنين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول .

والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه فأمرهم بالرد إلى كتابه ورسوله وقد ذم تعالى من لم يتحاكم إلى كتابه ورسوله فقال تعالى : [ ص: 241 ] ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فقد تبين أن الرسل الذين ذكرهم الله في قوله : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات يتناول الرسل الذين أرسلهم الله تعالى كلهم ومن أحقهم بذلك الرسل الذين أخبر في القرآن أنه أرسلهم إلى عباده فظهر بطلان قولهم : أنهم الحواريون .

الوجه الثالث : أنه قال : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز فذكر أنه أنزل الحديد أيضا ليتبين من يجاهد في سبيل الله بالحديد .

[ ص: 242 ] والنصارى يزعمون أن الحواريين والنصارى لم يؤمروا بقتال أحد بالحديد .

الوجه الرابع : أنه قال : بعد ذلك : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة وإخباره بإرسال نوح وإبراهيم بعد قوله : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات من باب ذكر الخاص بعد العام وبيان ما اختص به الخاص من الأحكام التي امتاز بها عن غيره مما دخل في العام ; كما يأمر السلطان العسكر بالجهاد ويأمر فلانا وفلانا بأن يفعلوا كذا وكذا ومثل أن يقال أرسل رسله إلى فلان وأرسل إليهم فلانا وأمره بكذا وكذا قال - تعالى - : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فنوح هو أبو الآدميين الذين حدثوا بعد الطوفان ، فإن الله أغرق ولد آدم إلا أهل السفينة وقال : في نوح وجعلنا ذريته هم الباقين .

[ ص: 243 ] وإبراهيم جعل الأنبياء بعده من ذريته ; كما قال - تعالى - : في إبراهيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم قال : بعد أن ذكر إرسال نوح وإبراهيم وأنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل فأخبر أنه قفى على آثارهم برسله وقفى بعيسى ابن مريم وآتاه الإنجيل وهؤلاء رسل قبل المسيح وآخرهم المسيح ولم يذكر أنه أرسل أحدا من أتباع المسيح بل أخبر أنه جعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة فكيف يجوز أن يقال أن مراده بالرسل الذين أرسلهم بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان هم الحواريون دون الرسل الذين ذكرهم وأرسلهم قبل المسيح .

[ ص: 244 ] الوجه الخامس : أنه ليس في القرآن آية تنطق بأن الحواريين رسل الله بل ولا صرح في القرآن بأنه أرسلهم لكن قال : في سورة يس واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون .

فهذا كلام الله ليس فيه ذكر أن هؤلاء المرسلين كانوا من الحواريين ولا أن الذين أرسلوا إليهم آمنوا بهم وفيه أن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم هؤلاء الثلاثة أنزل الله عليهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون .

[ ص: 245 ] وقد ذكر طائفة من المفسرين أن هؤلاء كانوا من الحواريين وأن القرية أنطاكية وأن هذا الرجل اسمه حبيب النجار ثم إن بعضهم يقول إن المسيح أرسلهم في حياته لكن المعروف عند النصارى أن أهل أنطاكية آمنوا بالحواريين واتبعوهم لم يهلك الله أهل أنطاكية .

والقرآن يدل على أن الله أهلك قوم هذا الرجل الذي آمن بالرسل .

وأيضا فالنصارى يقولون : إنما جاءوا إلى أهل أنطاكية بعد رفع المسيح وأن الذين جاءوا كانوا اثنين لم يكن لهما ثالث قيل أحدهما شمعون الصفا والآخر بولص ويقولون إن أهل أنطاكية آمنوا بهم ولا يذكرون حبيب النجار ولا مجيء رجل من أقصى المدينة بل يقولون إن شمعون وبولص دعوا الله حتى أحيا ابن الملك فالأمر المنقول عند النصارى أن هؤلاء المذكورين في القرآن ليسوا من الحواريين وهذا أصح القولين عند علماء [ ص: 246 ] المسلمين وأئمة المفسرين وذكروا أن المذكورين في القرآن في سورة يس ليسوا من الحواريين بل كانوا قبل المسيح وسموهم بأسماء غير الحواريين ; كما ذكر محمد بن إسحاق قال : سلمة بن الفضل كان من حديث صاحب يس فيما حدثني محمد بن إسحاق عن ابن عباس وعن كعب وعن وهب بن منبه أنه كان رجلا من أهل أنطاكية وكان اسمه حبيبا وكان يعمل الحرير وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند باب من أبواب المدينة ، [ ص: 247 ] يتاجر وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون فيقسمه نصفين فيطعم نصفه عياله ويتصدق بنصفه وكان بالمدينة التي هو بها مدينة أنطاكية فرعون من الفراعنة يقال له إنطخس بن أنطنخس يعبد الأصنام صاحب شرك فبعث الله إليه المرسلين وهم ثلاثة صادق وصدوق وشلوم فقدم الله إليه وإلى أهل المدينة منهم اثنين فكذبوهما ثم عزز الله بالثالث .

وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله - تعالى - : واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث لكي تكون الحجة عليهم أشد فأتوا أهل القرية فدعوهم إلى الله وحده وعبادته لا شريك له فكذبوهم فأتوا على رجل في ناحية القرية في زرع له فسألهم الرجل ما أنتم قالوا : نحن رسل رب العالمين ، [ ص: 248 ] أرسلنا إلى أهل هذه القرية ندعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له قال لهم : أتسألون على ذلك أجرا ؟ قالوا : لا ، قال : فألقى ما في يده ثم أتى أهل المدينة قال ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وهذا القول هو الصواب وأن هؤلاء المرسلين كانوا رسلا لله قبل المسيح وأنهم كانوا قد أرسلوا إلى أنطاكية وآمن بهم حبيب النجار فهم كانوا قبل المسيح ولم تؤمن أهل المدينة بالرسل بل أهلكهم الله تعالى ; كما أخبر في القرآن ثم بعد هذا عمرت أنطاكية وكان أهلها مشركين حتى جاءهم من جاءهم من الحواريين فآمنوا بالمسيح على أيديهم ودخلوا دين المسيح .

ويقال إن أنطاكية أول المدائن الكبار الذين آمنوا بالمسيح - عليه السلام - وذلك بعد رفعه إلى السماء . ، ولكن ظن من ظن من المفسرين أن المذكورين في القرآن هم رسل المسيح وهم من [ ص: 249 ] الحواريين وهذا غلط لوجوه : منها : أن الله قد ذكر في كتابه أنه أهلك الذين جاءتهم الرسل وأهل أنطاكية لما جاءهم من دعاهم إلى دين المسيح آمنوا ولم يهلكوا .

ومنها : أن الرسل في القرآن ثلاثة وجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى والذين جاءوا من أتباع المسيح كانوا اثنين ولم يأتهم رجل يسعى لا حبيب ولا غيره .

ومنها : أن هؤلاء جاءوا بعد المسيح فلم يكن الله أرسلهم وهذا ; كما أن الله ذكر في القرآن أنه أهلك أهل مدين بالظلة لما جاءهم شعيب وذكر في القرآن أن موسى أتاها وتزوج ببنت واحد منها فظن بعض الناس أنه شعيب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا غلط عند علماء المسلمين مثل ابن عباس والحسن البصري وابن جريج وغيرهم، كلهم ذكروا أن الذي صاهره موسى ليس هو شعيبا النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكي أنه شعيب عمن لا يعرف من العلماء ولم يثبت عن أحد من الصحابة والتابعين ; كما بسطناه في موضعه .

[ ص: 250 ] وأهل الكتاب يقرون بأن الذي صاهره موسى ليس هو شعيبا بل رجل من أهل مدين ومنهم من يقول : أنها غير مدين التي أهلك الله أهلها ، والله أعلم .

وكذلك ذكر المفسرون في المرسلين هل أرسلهم الله أو أرسلهم المسيح قولين .

أحدهما : أن الله هو الذي أرسلهم .

قال أبو الفرج ابن الجوزي وهذا ظاهر القرآن وهو مروي عن ابن عباس وكعب ووهب بن منبه قال : وقال : المفسرون في قوله : [ ص: 251 ] إن كانت إلا صيحة واحدة أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا أطفئت وذلك قوله : فإذا هم خامدون أي ساكنون كهيئة الرماد الخامد .

ومعلوم عند الناس أن أهل أنطاكية لم يصبهم ذلك بعد مبعث المسيح بل آمنوا قبل أن يبدل دينه وكانوا مسلمين مؤمنين به على دينه إلى أن تبدل دينه بعد ذلك ومما يبين ذلك أن المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم ; كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار ; كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة، وهذه القرية أهلك الله أهلها بعذاب من السماء فدل ذلك على أن هؤلاء الرسل المذكورين في يس كانوا قبل موسى - عليه السلام - وأيضا ، فإن الله لم يذكر في القرآن رسولا [ ص: 252 ] أرسله غيره وإنما ذكر الرسل الذين أرسلهم هو ، وأيضا فإنه قال : إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فأخبر أنه أرسلهم ; كما أخبر أنه أرسل نوحا وموسى وغيرهما ، وفي الآية : قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء [ ص: 253 ] ومثل هذا هو خطاب المشركين لمن قال : إن الله أرسله وأنزل عليه الوحي لا لمن جاء رسولا من عند رسول ، وقد قال بعد هذا : ( ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) .

وهذا إنما هو في الرسل الذين جاءوهم من عند الله لا من عند رسله . وأيضا فإن الله ضرب هذا مثلا لمن أرسل إليه محمدا - صلى الله عليه وسلم - يحذرهم أن ينتقم الله منهم ; كما انتقم من هؤلاء ومحمد إنما يضرب له المثل برسول نظيره لا بمن أصحابه أفضل منهم ، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا أفضل من الحواريين باتفاق علماء المسلمين ولم يبعث الله بعد المسيح رسولا بل جعل ذلك الزمان زمان فترة كقوله : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل وأيضا ، فإنه قال - تعالى - : إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا .

ولو كانوا رسل رسول لكان التكذيب لمن أرسلهم ولم يكن في قولهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا شبهة ، فإن أحدا لا ينكر أن يكون رسل رسل الله بشرا وإنما أنكروا أن يكون رسول الله بشرا ، وأيضا فلو كان [ ص: 254 ] التكذيب لهما وهما رسل الرسول لأمكنهما أن يقولا : فأرسلوا إلى من أرسلنا أو إلى أصحابه ، فإنهم يعلمون صدقنا في البلاغ عنه بخلاف ما إذا كانا رسل الله وأيضا فقوله : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين ) صريح في أن الله هو المرسل ومن أرسلهم غيره إنما أرسلهم ذلك لم يرسلهم الله ; كما لا يقال لمن أرسله محمد بن عبد الله أنهم رسل الله فلا يقال لدحية بن خليفة الكلبي أن الله أرسله ولا يقال ذلك للمغيرة بن شعبة وعبد الله بن حذافة وأمثالهما ممن أرسلهم الرسول وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل رسله إلى ملوك الأرض ; كما أرسل دحية بن خليفة إلى قيصر وأرسل عبد الله بن حذافة إلى كسرى وأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ; كما تقدم ذكر ذلك .

ومعلوم أنه لا يقال في هؤلاء : إن الله أرسلهم ولا يسمون عند المسلمين رسل الله ولا يجوز باتفاق المسلمين أن يقال هؤلاء داخلون في قوله : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ) .

فإذا كانت رسل محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يتناولهم اسم رسل الله في الكتاب الذي جاء به فكيف يجوز أن يقال : إن هذا الاسم يتناول رسل رسول غيره ، والمقصود هنا بيان معاني القرآن وما أراده الله - تبارك وتعالى - بقوله : إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين [ ص: 255 ] هل مراد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من أرسلهم الله أو من أرسلهم رسوله ، وقد علم يقينا أن محمدا لم يدخل في مثل هذا فمن قال : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك من أرسله رسولا فقد كذب على محمد - صلى الله عليه وسلم - عمدا أو خطأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية