[ ص: 395 ] ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله لم يقع فيها تبديل ، ويقولون أنه وقع التبديل في بعض ألفاظها ويقولون أنه لم يعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما علم ثبوته أنهم قالوا : موسى وعيسى - عليهما السلام - أما التوراة ، فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا ، وأجلى منه بنو إسرائيل ، ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا وزعموا أنه نبي . التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن
[ ص: 396 ] ومن الناس من يقول أنه لم يكن نبيا وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة .
وقد قيل أنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها ; كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة .
[ ص: 397 ] وأما المسيح - عليه السلام - ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى ويوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر ، ومرقس ولوقا وهما لم يريا الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح - عليه السلام - وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله .
ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب ، ولكن النصارى وموسى - عليهما السلام - وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من أفاضل الصحابة عند المسلمين أفضل من الحواريين ولا معصوم عندهم إلا من كان نبيا . يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى ابن مريم
ودعوى أنهم رسل الله مع كونهم ليسوا بأنبياء تناقض ، وكونهم رسل الله هو مبني على كون المسيح هو الله ، فإنهم رسل المسيح وهذا [ ص: 398 ] الأصل باطل ، ولكن في طريق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن نمنعهم في هذا المقام ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله وليس لهم على ذلك دليل ، فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله وإثباتهم أن المسيح هو الله إما أن يكون بالعقل أو بالسمع . والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل .
بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضا باطل وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع وهو ما ينقلونه عن الأنبياء من ألفاظ يدعون ثبوتها عن الأنبياء ، ودلالتها على أن المسيح هو الله كسائر من يحتج بالحجة السمعية ، فإن عامة بيان صحة الإسناد دون بيان دلالة المتن وكلا المقدمتين باطلة .
المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن ولكن يقال لهم في هذا المقام أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله فصار ذلك دورا ممتنعا .
[ ص: 399 ] فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله فصار ثبوت الإلهية متوقفا على ثبوت إلهيته ، وثبوت كونهم رسل الله متوقفا على كونهم رسل الله فصار ذلك دورا ممتنعا .
قد كأهل المجمع الأول الذي كان بحضرة قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر ووضعوا لهم الأمانة التي هي عقيدة يدعون عصمة الحواريين وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين النصارى التي لا يصح لهم قربان إلا بها فيزعمون أن الحواريين [ ص: 400 ] أو هؤلاء جرت على أيديهم خوارق وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الموتى على يديه وهذا إذا كان صحيحا مع أن صاحبه لم يذكر أنه نبي لا يدل على عصمته ، فإن ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء - عليهم السلام - . أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه وليس فيهم معصوم يجب قبول كل ما يقول بل يجوز الغلط على كل واحد منهم
ولهذا . أوجب الله الإيمان بما أوتيه الأنبياء ولم يجب الإيمان [ ص: 401 ] بكل ما يقوله كل ولي لله
قال - تعالى - : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم وقال - تعالى - : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ولهذا وجب الإيمان بالأنبياء جميعهم وما أوتوه كلهم .
فهو كافر باتفاق المسلمين ومن سبه وجب قتله كذلك بخلاف من ليس بنبي ، فإنه لا يكفر أحد بمخالفته ولا يقتل بمجرد سبه إلا أن يقترن بالسب ما يكون مبيحا للدم . ومن كذب نبيا واحدا تعلم نبوته
والذي عليه سلف الأمة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين وجماهير المسلمين أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها ، ثم أبو بكر وليس بعد الأنبياء أفضل منهما ، وهذه الأمة أفضل الأمم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : عمر فعمر والمحدث الملهم المخاطب . قد كان قبلكم في الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد
[ ص: 402 ] وكان قد جعل الله الحق على قلبه ولسانه وما كان يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان ; كما يقول وكانت السكينة تنطق على لسانه ومع هذا فلم يكن لا هو ولا غيره ممن ليس بنبي معصوما من الغلط ولا يجب على المسلم قبول ما يقوله : إن لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا كان يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسنة ، فإن وافق ذلك قبله وإن خالف ذلك رده . عمر
وعند المسلمين أنه ليس في أتباع المسيح - عليه السلام - مثل أبي بكر - رضوان الله عليهما - فإذا قالوا عن الحواريين : أنهم ليسوا معصومين فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين ، كما أنهم إذا قالوا : عن وعمر المسيح أنه عبد مخلوق ليس بإله فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم - عليهما أفضل الصلاة والسلام - .
وفي الملاحدة المنتسبين إلى الأمة من فيه بدع من الغلو يشبه غلو النصارى كمن يدعي الإلهية [ ص: 403 ] من الإسماعيلية كبني عبيد القداح [ ص: 404 ] وغيره ويدعي الإلهية في كالحاكم أو غيره كدعوى النصيرية وهؤلاء كفار عند المسلمين . علي بن أبي طالب
وكذلك من كغلاة العدوية والحلاجية واليونسية وغيرهم وكذلك من يدعي عصمة يدعي الإلهية في بعض المشايخ بني عبيد أو عصمة الإثني عشر أو عصمة بعض المشايخ .
فإن النصارى يدعون عصمة الحواريين الإثني عشر وهؤلاء يدعون عصمة الأئمة الإثني عشر .
[ ص: 405 ] وهؤلاء يسندون أصل دينهم إلى قول الحواريين المعصومين عندهم ويقولون أنهم معصومون في النقل عن المسيح وفي الفتيا وإن ما قالوه فقد قاله المسيح - عليه الصلاة والسلام - .
وهؤلاء يقولون عن أولئك أنهم معصومون في النقل والفتيا وإن ما قالوه فقد قاله الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهذا مبسوط في موضع آخر .
والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات [ ص: 406 ] الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم وغير ذلك من شرائعهم ليست منقولة عن وصلاتهم إلى المشرق وإحلال الخنزير وترك الختان وتعظيم الصليب واتخاد الصور في الكنائس المسيح ولا لها ذكر في الأناجيل التي ينقلونها عنه وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها أصل دينهم وأساس اعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل ولا هي مأثورة عن الحواريين وهم متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر وخالفوا عبد الله بن أريوس الذي جعل المسيح عبدا لله كما يقول المسلمون ووضعوا هذه الأمانة .
وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة وبسط هذا له موضع آخر وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثبت ما معهم وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها .
[ ص: 407 ] وقد تبين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يصدق شيئا من دينهم المبدل والمنسوخ ، ولكن صدق الأنبياء قبله وما جاءوا به وأثنى على من اتبعهم لا على من خالفهم أو كذب نبيا من الأنبياء . وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود ، فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني : وهو الإنجيل وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل وكذبوا بالكتاب الثاني : وهو القرآن وأنهم ادعوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - صدق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم .
فجمهور المسلمين يمنعون هذا ويقولون إن بعض ألفاظها بدل ; كما قد بدل كثير من معانيها ، ومن المسلمين من يقول : التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى .
وعلى القولين فلا حجة لهم في تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - لما هم عليه من الدين الباطل ، فإن الكتب الإلهية التي بأيديهم لا تدل على صحة ما كفرهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته مثل التثليث والاتحاد والحلول وتغيير شريعة المسيح وتكذيب محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس في الكتب التي بأيديهم ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على الأمانة التي هي أصل دينهم وما في ذلك من التثليث والاتحاد والحلول ولا فيها ما يدل على أكثر شرائعهم [ ص: 408 ] كالصلاة إلى الشرق واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك ، كما قد بسط في موضع آخر .
ويقال لهم : أين ما معكم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يغير فيها شيء ومعلوم أن المسلمين وغيرهم إذا اختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر .
فإذا كان المسلمون قد اختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى ولا يجوز لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول قولا إلا بدليل .
فأين في القرآن والسنة الثابتة عن محمد - صلى الله عليه وسلم - أن جميع ما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من ألفاظها حتى يقولوا : إن محمدا نفى عن كتبهم ذلك ؟ .
وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم الذي هم عليه بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعد تكذيبهم لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يبدل شيء من ألفاظها .
[ ص: 409 ] وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة .
ثم زعموا أن المسلمين يدعون أن ألفاظ هذه الكتب حرفت كلها بجميع لغاتها بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا القول لم يقله أحد من المسلمين فيما أعلم وظنوا أنهم بالجواب عن هذا يكونون قد أجابوا المسلمين .