[ ص: 157 ] وأما قوله - تعالى - : قل ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، فلفظ الآية :
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين .
وهذا بعد قوله :
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم .
ونظير هذا قوله :
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون .
وهذا قاله نوح - عليه السلام - أول الرسل ، وأمر محمد [ ص: 158 ] - صلى الله عليه وسلم - آخر الرسل أن يقوله ، ومثل قوله :
قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ( 21 ) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ( 22 ) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا .
وهذا ونحوه يتضمن النصارى في المسيح ولهذا قال - تعالى - : اعترافه بأنه عبد الله ورسول من الله لا يتعدى حد الرسالة ولا يدعي المشاركة في الألوهية ، كما ادعته
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام .
فتبين أنه لا يتعدى حد الرسالة ، وهو كقوله - تعالى - :
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم .
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث المتفق على صحته : النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله . لا تطروني كما أطرت
[ ص: 159 ] فقال - تعالى - :
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .
يقول لست أول من أرسل ، أو ادعى الرسالة ، بل قد تقدم قبلي رسل :
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين .
يقول لا أدعي علم الغيب ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين أنذركم بما أمرني الله أن أنذركم به لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ، وهذا من كمال صدقه وعدله وعبوديته لله وطاعته ، وتمييز ما يستحقه الخالق وحده مما يستحقه العبد ، فإن . العلم بعواقب الأمور على وجه التفصيل مما استأثر الله بعلمه ، فلا يعلمه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل
وليس من شرط الرسول أن يعلم كل ما يكون وقوله - تعالى - :
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .
نفي لعلمه بجميع ما يفعل به وبهم وهذا لا يعلمه إلا الله [ ص: 160 ] - تبارك وتعالى - ، وهذا لا ينفي أن يكون عالما بأنه سعيد من أهل الجنة ، وإن لم يدر تفاصيل ما يجري له في الدنيا من المحن والأعمال ، وما يتجدد له من الشرائع ، وما يكرم به في الآخرة من أصناف النعيم ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( يقول الله - تعالى - : ، وأيضا هذا مأثور عن غيره من الأنبياء - عليهم السلام - . أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)
ولا من شرط النبي أن يعلم حال المخاطبين : من يؤمن به ، ومن يكفر ، وتفصيل ما يصيرون إليه ، هذا إن قيل إنه لم يعلم بعد هذه الآية ما نفي فيها ، وإن قيل إنه أعلم بذلك فمعلوم أن الله لم يعلمه بكل شيء جملة ، بل أعلمه بالأمور شيئا بعد شيء .
وقد قال له بعد ذلك :
[ ص: 161 ] إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا .
وقال - تعالى - :
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .
وفي القرآن والأحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم - من الإخبار بما سيكون في الدنيا وفي الآخرة أضعاف أضعاف ما يوجد عن الأنبياء قبله ، حتى إنه ينبئ عن الشيء الذي يكون بعد ما يبين من السنين خبرا أكمل من خبر من عاين ذلك ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح فمن رأى [ ص: 162 ] هؤلاء الترك الذين قاتلهم المسلمون من حين خرج لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين ، ذلف الأنوف ، حمر الخدود ، ينتعلون الشعر ، كأن وجوههم المجان المطرقة ، جنكز خان ملكهم الأكبر وأولاده وأولاد أولاده ، مثل هولاكو وغيره من ملوك الترك الكفار الذين قاتلهم المسلمون ، لم يحسن أن يصفهم بأحسن من هذه الصفة.
وقد أخبر بهذا قبل ظهوره بأكثر من ستمائة سنة ، وقوله : صلى الله عليه وسلم ببصرى ، وهذه النار ظهرت سنة [ ص: 163 ] خمس وخمسين وستمائة بأرض لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل الحجاز ، فكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم ، ورأى أهل بصرى أعناق الجمال من ضوء تلك النار ، وكانت منذرة بما يكون بعدها ، ففي سنة ست وخمسين وستمائة دخل هولاكو ملك الكفار بغداد ، وقتل فيها مقتلة عظيمة مشهورة ( وسيأتي - إن شاء الله - بعض أخبار أنه شاهد الناس وقوعها كما أخبرنا عند ذكرنا معجزاته ) .