الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 157 ] وأما قوله - تعالى - : قل ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، فلفظ الآية :

قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين .

وهذا بعد قوله :

أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم .

ونظير هذا قوله :

قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون .

وهذا قاله نوح - عليه السلام - أول الرسل ، وأمر محمد [ ص: 158 ] - صلى الله عليه وسلم - آخر الرسل أن يقوله ، ومثل قوله :

قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا ( 21 ) قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ( 22 ) إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا .

وهذا ونحوه يتضمن اعترافه بأنه عبد الله ورسول من الله لا يتعدى حد الرسالة ولا يدعي المشاركة في الألوهية ، كما ادعته النصارى في المسيح ولهذا قال - تعالى - :

ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام .

فتبين أنه لا يتعدى حد الرسالة ، وهو كقوله - تعالى - :

وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم .

ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث المتفق على صحته : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله .

[ ص: 159 ] فقال - تعالى - :

قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .

يقول لست أول من أرسل ، أو ادعى الرسالة ، بل قد تقدم قبلي رسل :

وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين .

يقول لا أدعي علم الغيب ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين أنذركم بما أمرني الله أن أنذركم به لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ، وهذا من كمال صدقه وعدله وعبوديته لله وطاعته ، وتمييز ما يستحقه الخالق وحده مما يستحقه العبد ، فإن العلم بعواقب الأمور على وجه التفصيل مما استأثر الله بعلمه ، فلا يعلمه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل .

وليس من شرط الرسول أن يعلم كل ما يكون وقوله - تعالى - :

وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .

نفي لعلمه بجميع ما يفعل به وبهم وهذا لا يعلمه إلا الله [ ص: 160 ] - تبارك وتعالى - ، وهذا لا ينفي أن يكون عالما بأنه سعيد من أهل الجنة ، وإن لم يدر تفاصيل ما يجري له في الدنيا من المحن والأعمال ، وما يتجدد له من الشرائع ، وما يكرم به في الآخرة من أصناف النعيم ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( يقول الله - تعالى - : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ، وأيضا هذا مأثور عن غيره من الأنبياء - عليهم السلام - .

ولا من شرط النبي أن يعلم حال المخاطبين : من يؤمن به ، ومن يكفر ، وتفصيل ما يصيرون إليه ، هذا إن قيل إنه لم يعلم بعد هذه الآية ما نفي فيها ، وإن قيل إنه أعلم بذلك فمعلوم أن الله لم يعلمه بكل شيء جملة ، بل أعلمه بالأمور شيئا بعد شيء .

وقد قال له بعد ذلك :

[ ص: 161 ] إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا .

وقال - تعالى - :

هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا .

وفي القرآن والأحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم - من الإخبار بما سيكون في الدنيا وفي الآخرة أضعاف أضعاف ما يوجد عن الأنبياء قبله ، حتى إنه ينبئ عن الشيء الذي يكون بعد ما يبين من السنين خبرا أكمل من خبر من عاين ذلك ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين ، ذلف الأنوف ، حمر الخدود ، ينتعلون الشعر ، كأن وجوههم المجان المطرقة ، فمن رأى [ ص: 162 ] هؤلاء الترك الذين قاتلهم المسلمون من حين خرج جنكز خان ملكهم الأكبر وأولاده وأولاد أولاده ، مثل هولاكو وغيره من ملوك الترك الكفار الذين قاتلهم المسلمون ، لم يحسن أن يصفهم بأحسن من هذه الصفة.

وقد أخبر بهذا قبل ظهوره بأكثر من ستمائة سنة ، وقوله : صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ، وهذه النار ظهرت سنة [ ص: 163 ] خمس وخمسين وستمائة بأرض الحجاز ، فكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم ، ورأى أهل بصرى أعناق الجمال من ضوء تلك النار ، وكانت منذرة بما يكون بعدها ، ففي سنة ست وخمسين وستمائة دخل هولاكو ملك الكفار بغداد ، وقتل فيها مقتلة عظيمة مشهورة ( وسيأتي - إن شاء الله - بعض أخبار أنه شاهد الناس وقوعها كما أخبرنا عند ذكرنا معجزاته ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية