الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 182 ] قال الحاكي عنهم : فقلت : إنهم ينكرون علينا في قولنا ، أب وابن ، وروح قدس ، وأيضا في قولنا إنهم ثلاثة أقانيم ، وأيضا في قولنا إن المسيح رب وإله وخالق ، وأيضا يطلبون منا إيضاح تجسيد تجسم كلمة الله الخالق بإنسان مخلوق .

أجابوا قائلين : لو علموا قولنا هذا إنما نريد به القول الذي يعني أن الله شيء حي ناطق لما أنكروا علينا ذلك ، لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها ، إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب .

فقلنا : إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء ، وذلك لننفي عنه العدم ، ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين : شيء حي ، وشيء غير حي ، فوصفناه بأجملهما ، فقلنا : هو شيء حي ، لننفي [ ص: 183 ] الموت عنه ، ورأينا الحي ينقسم قسمين : حي ناطق ، وحي غير ناطق ، فوصفناه بأفضلهما ، فقلنا : هو شيء حي ناطق لننفي الجهل عنه .

والثلاثة أسماء وهي إله واحد ، مسمى واحد ، ورب واحد ، خالق واحد شيء حي ناطق ، أي الذات والنطق والحياة ، فالذات عندنا الأب الذي هو ابتداء الاثنين ، والنطق الابن الذي هو مولود منه لولادة النطق من العقل ، والحياة روح القدس ، وهذه أسماء لم نسمه نحن بها .

والجواب من وجوه :

أحدها : قولهم : أما قولنا أب ، وابن ، وروح قدس ، فلو علموا قولنا هذا إنما نريد به تصحيح القول بأن الله حي ناطق لما أنكروا ذلك علينا ، فيقال : ليس الأمر كما ادعوه فإن النصارى يقولون : إن هذا القول تلقوه عن الإنجيل ، وإن في الإنجيل عن المسيح - صلوات الله عليه وسلامه - أنه قال : عمدوا الناس باسم الأب ، والابن وروح القدس فكان أصل قولهم هو ما يذكرونه من أنه متلقى من الشرع المنزل لا أنهم أثبتوا الحياة والنطق بمعقولهم ، ثم عبروا عنها بهذه العبارات ، كما ادعوه في مناظرتهم .

[ ص: 184 ] ولو كان الأمر كذلك لما احتاجوا إلى هذه العبارة ، ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة ، بل معلوم عندهم ، وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم ، قدير متكلم لا تختص صفاته بثلاثة ، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك ، وهو لفظ : الأب ، والابن ، وروح القدس ، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم ، ولا يوجد في كلام الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني ، بل إثبات ما ادعوه من التثليث والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه لم يدل عليه لا شرع ولا عقل .

وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع ، وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة ، لا من جهة العقل ، وزعموا أن الكتب الإلهية نطقت بذلك ، ثم تكلفوا لما ظنوه مدلول الكتاب طريقا عقلية ، فسروه بها تفسيرا ظنوه جائزا في العقل ولهذا نجد النصارى لا يلجئون في التثليث والاتحاد إلا إلى الشرع والكتب وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية التي قد يسمونها ناموسا عقليا طبيعيا يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه ولكن يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك وأن ذلك أمر يفوق العقل وأن هذا الكلام من طور وراء طور العقل [ ص: 185 ] فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به ، لا لأن العقول دلت عليه ، مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك ، بل فيها ما يدل على نقيضه كما سنذكره - إن شاء الله تعالى - ، ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع ، وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات ، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني : ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول ، فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول ، وقد ضاهوا في ذلك من قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدا شريكا .

قال - تعالى - :

وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .

وقد ضاهاهم في ذلك أهل البدع والضلال المشبهون لهم من المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون : نحو قولهم من الغلو في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ وغيرهم ، ومن يدعي الوحدة أو الحلول أو الاتحاد الخاص المعين كدعوى النصارى ودعوى الغالية من الشيعة في علي وطائفة من أهل البيت كالنصيرية ونحوهم ممن يدعي [ ص: 186 ] إلهية علي ، وكدعوى بعض الإسماعيلية الإلهية في الحاكم وغيره من بني عبد الله بن ميمون القداح المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر .

ودعوى كثير من الناس نحو ذلك في بعض الشيوخ ، إما المعروفين بالصلاح ، وإما من يظن به الصلاح وليس من أهله ، فإن لهم أقوالا من جنس أقوال النصارى ، وبعضها شر من أقوال النصارى .

وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى ، هذا أمر فوق العقل ، ويقول بعضهم ما كان يقوله التلمساني لشيخ أهل الوحدة ، يقول : ثبت عندنا في الكشف [ ص: 187 ] ما يناقض صريح النقل ويقولون : لمن أراد أن يسلك سبيلهم : دع العقل والنقل ، أو اخرج من العقل والنقل .

وينشدون فيهم :


مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أقدامه يسجد العقل     هم معشر حلوا النظام وحرقوا
السياج فلا فرض لديهم ولا نقل

وهؤلاء مقلدون لمشايخهم متبعون لهم فيما يخرجون به عن شريعة الرسول ، وما ابتدعوه مما لم يأذن به الله باتخاذ البدع عبادات ، واستحلال المحرمات كتقليد بعض النصارى لشيوخهم ، وإذا اعترض على أحد منهم يقولون : الشيخ يسلم له حاله ، ولا يعترض عليه كما يقول النصارى لشيوخهم ومن هؤلاء من يقول نحن أولاد الله ، [ ص: 188 ] ويقول : المسيح هو ولد الله ، وينطق أيضا ، بلفظ الشهوة ، فيقول إنهم أولاد شهوة ، ويقول : إنه زوج مريم ، كما يقول ذلك من يقوله من النصارى .

وغاية ما عندهم أنهم يحكون عن شيوخهم نوعا من خرق العادات ، قد يكون كذبا ، وقد يكون صدقا ، وإذا كانت صدقا فقد يكون من أحوال أولياء الشيطان كالسحرة والكهان ، وقد يكون من أحوال أولياء الرحمن ، وإذا كانت من أحوال أولياء الرحمن لم يكن في ذلك ما يوجب تقليد الولي في كل ما يقوله ، إذ الولي لا يجب أن يكون معصوما ، ولا يجب اتباعه في كل ما يقوله ، ولا الإيمان بكل ما يقوله .

وإنما هذا من خصائص الأنبياء الذين يجب الإيمان بكل ما يقولونه فيجب تصديقهم في كل ما يخبرون به من الغيب ، وطاعتهم فيما أوجبوه على الأمم ، ومن كفر بشيء مما جاءوا به فهو كافر ، ومن سب نبيا واحدا وجب قتله ، وليس هذا لغير الأنبياء من الصالحين .

فهؤلاء المبتدعة الغلاة المشركون القائلون بنوع من الحلول هم [ ص: 189 ] مضاهئون للنصارى بقدر ما شابهوهم فيه ، وخالفوا فيه دين المسلمين ومنهم من تكون موافقته لدين المسلمين أكثر ، وأما الغلاة منهم فموافقتهم للنصارى أكثر ، ومنهم من هو أكفر من النصارى ، ولما كان مستند النصارى هو ما ينقلونه إما عن الأنبياء ، وإما عن غيرهم ممن يوجبون اتباعه كانوا إذا أوردوا على علمائهم ما يقتضي امتناع ذلك قالوا هكذا في الكتاب ، وبهذا نطق الكتاب وهذه الكتب جاءت بها الرسل ، يعنون المؤيدين بالمعجزات ، ويعنون بالرسل الحواريين فاعتصامهم بها إنما هو لما ظنوه مذكورا في الكتب الإلهية ، وإن رأوه مخالفا لصريح المعقول .

ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك ، لعلمهم بأن العقل الصريح متى تصور دينهم علم أنه باطل ، فدعوى المدعين أنا إنما قلنا أب وابن وروح قدس لتصحيح القول بأن الله حي ناطق كذب ظاهر ، وهم يعلمون أنه كذب ، وتصحيح القول بأن الله حي متكلم ، لا يقف على هذه العبارة ، بل يمكنه تصحيح ذلك بالأدلة الشرعية والسمعية والعقلية ، والتعبير عنه بالعبارات البينة كما يقوله المسلمون وغيرهم بدون قولنا أب وابن وروح قدس .

ومما يبين ذلك الوجه الثاني : وهو أن النصارى - المقرون بأن [ ص: 190 ] هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح - مختلفون في تفسير هذا الكلام ، فكثير منهم يقول الأب هو الوجود ، والابن هو الكلمة ، وروح القدس هو الحياة .

ومنهم من يقول : بل الأب هو الوجود ، والابن هو الكلمة ، وروح القدس هو القدرة .

وبعضهم يقول : إن الأقانيم الثلاثة : جواد حكيم قادر ، فيجعل الأب هو الجواد ، والابن هو الحكيم ، وروح القدس هو القادر ، ويزعمون أن جميع الصفات تدخل تحت هذه الثلاثة ، ويقولون : إنا استدللنا على وجوده بإخراجه الأشياء من العدم إلى الوجود ، وذلك من جوده .

وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا ، ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم ، فيقولون : موجود حي عالم ، أو موجود عالم قادر ، كما يقول بعضهم : ناطق ، ومنهم من يقول موجود حي حكيم ، ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم ، وهم متفقون على أن المتحد بالمسيح والحال فيه هو أقنوم الكلمة ، وهو الذي يسمونه الابن دون الأب ، ومن أنكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول : إن المسيح - عليه السلام - عبد مرسل ، كسائر الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - ، فوافقهم على لفظ : الأب ، والابن ، وروح القدس ، ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد .

[ ص: 191 ] كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية : فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه ، علم أنهم صدقوا أولا باللفظ لأجل اعتقادهم مجيء الشرع به ، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب ، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء - عليهم السلام - ، وعلم بذلك أن أصل قولهم : الأب ، والابن ، وروح القدس ، لم يكن لأجل تصحيح القول بأن الله موجود حي ناطق الذي علموه أولا بالعقل .

يوضح هذا الوجه الثالث : وهو قولهم إنما لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها ، إن كان المتكلم بهذا طائفة معينة من النصارى ، فيقال لهؤلاء : القول بالأب ، والابن ، وروح القدس ، موجود عند النصارى قبل وجودكم ، وقبل نظركم هذا واستدلالكم ، فلا يجوز أن يكون نظركم هو الموجب لقول النصارى هذا ، وإن كان المراد به أن جميع النصارى من حين قالوا هذا الكلام نظروا واستدلوا حتى قالوا ذلك فهذا كذب بين ، فإن هذا الكلام يقول النصارى إنهم تلقوه من الإنجيل ، وأن المسيح - عليه السلام - قال : عمدوا الناس باسم الأب ، والابن ، وروح القدس .

[ ص: 192 ] والمسيح والحواريون لم يأمروهم بهذا النظر الموجب لهذا القول ، ولا جعل المسيح هذا القول موقوفا عندهم على هذا البحث ، فعلم أن جعلهم هذا القول ناشئا عن هذا البحث قول باطل يعلمون هم بطلانه .

الوجه الرابع : إن هذا القول : إن كان المسيح لم يقله فلا يجوز أن يقال ، ولو عنى به الإنسان معنى صحيحا فإن هذه العبارة إنما يفهم منها عند الإطلاق المعاني الباطلة ، ولهذا يوجد كثير من عوام النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله ، البنوة المعروفة في المخلوقات ، ويقولون : إن مريم زوجة الله وهذا لازم لعامة النصارى ، وإن لم يقولوه فإن الذي يلد لابد له من زوجة .

ولهذا قال - تعالى - :

أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم .

وجعل الرب والد المولود أنكر في العقول من إثبات صاحبة له سواء فسرت الولادة بالولادة المعروفة ، أو بالولادة العقلية التي يقولها علماء النصارى ، فإن من أثبت صاحبة له يمكنه تأويل ذلك ، كما تأولوا هم الولد ، ويقولون : إن الأب ولدت منه الكلمة ،ومريم ولد منها الناسوت واتحد الناسوت باللاهوت ، فكما أن الأب أب باللاهوت لا بالناسوت ، ومريم أم للناسوت لا للاهوت ، فكذلك هي صاحبة للأب بالناسوت ، واللاهوت زوج مريم ، بلاهوته ، كما أنه أب للمسيح [ ص: 193 ] بلاهوته ، وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة ، فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة ، وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت ، فلأي شيء لا تجعل هي صاحبة وزوجة للاهوت فإن المسيح عندهم اسم لمجموع اللاهوت والناسوت ، وهو عندهم إله تام وإنسان تام ، فلاهوته من الله ، وناسوته من مريم ، فهو من أصلين : لاهوت وناسوت ، فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه ، فلماذا لا تكون أمه زوجة أبيه بهذا الاعتبار ، مع أن المصاحبة قبل البنوة ؟ فكيف يثبت الفرع الملزوم بدون ثبوت الأصل اللازم ؟

وليس في ذلك من المحال على أصلهم إلا ما هو من جنس إثبات بنوة المسيح ، وأقل امتناعا ، وإن كان المسيح - عليه السلام - قال هذا الكلام ، فقد علمنا أن المسيح - عليه السلام - وغيره من الأنبياء معصومون لا يقولون : إلا الحق ، وإذا قالوا قولا فلابد له من معنى صحيح .

ويمتنع أن يريدوا بقولهم ما يمتنع بطلانه بسمع أو عقل فإذا كانت العقول ، ونصوص الكتب المتقدمة مع نصوص القرآن تناقض ما ابتدعته النصارى في المسيح ، علم أن المسيح لم يرد معنى باطلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول .

، بل نقول في الوجه الخامس : إن صحت هذه العبارة عن المسيح [ ص: 194 ] المعصوم عليه الصلاة والسلام ، فإنه أراد بذلك ما يناسب سائر كلامه ، وفي الموجود في كتبهم تسمية الرب أبا وتسمية عباده أبناء ، كما يذكرون أنه قال في التوراة ليعقوب : " إسرائيل " " أنت ابني بكري " ، وقال لداود في الزبور : " أنت ابني وحبيبي " ، وفي الإنجيل في غير موضع يقول المسيح : " أبي وأبيكم " كقوله إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فيسميه أبا لهم كما يسميهم أبناء له ، فإن كان هذا صحيحا ، فالمراد بذلك أنه الرب المربي الرحيم ، فإن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، والابن هو المربى المرحوم ، فإن تربية الله لعبده أكمل من تربية الوالدة لولدها فيكون المراد بالأب الرب ، والمراد بالابن عنده المسيح الذي رباه .

وأما روح القدس : فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي عندهم ، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم ، بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء الصالحين .

[ ص: 195 ] والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح بروح القدس ، كما قال - تعالى - :

وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس .

في موضعين من البقرة .

وقال - تعالى - :

ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس .

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت : إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه وقال : اللهم أيده بروح القدس كما تقدم ذكره هذا كله مبسوطا .

وروح القدس : قد يراد بها الملك المقدس كجبريل ، ويراد بها الوحي ، والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته ، وقد يكونان متلازمين ، فإن الملك ينزل بالوحي ، والوحي ينزل به الملك ، والله - تعالى - يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى ، كما قال - تعالى - : عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - :

فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها .

[ ص: 196 ] في موضعين من سورة " براءة " .

وقال الله - تعالى - :

فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها .

وقال - تعالى - :

إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا .

وقال - تعالى - :

لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه .

وقال الله - تعالى - :

ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده .

وقال - تعالى - :

يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق .

وقال :

وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ ص: 197 ] وإذا كان روح القدس معروفا في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر أو وحيا وتأييدا مع الملك ، وبدون الملك ليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به كان المعصوم إن كان قال : عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس مراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به ، فيكون ذلك أمرا لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول .

فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي عندهم ، ويوافق القرآن ، ويوافق العقل ، أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول .

وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف ، ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره ، بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة المألوفة في خطاب المسيح ، وخطاب سائر الأنبياء .

أما تفسير النصارى بأن الابن مولود قديم أزلي هو العلم أو كلمة [ ص: 198 ] الله ، فتفسير للفظ بما لم يستعمل هذا اللفظ فيه ، لا في كلام أحد من الأنبياء ولا لغة أحد من الأنبياء ، وكذلك تفسير روح القدس بحياة الله ، فالذي فسر النصارى به ظاهر كلام المسيح هو تفسير لا تدل عليه لغة المسيح وعادته في كلامه ، ولا لغة غيره من الأنبياء والأمم ، بل المعروف في لغته وكلامه وكلام سائر الأنبياء تفسيره بما فسرناه ، وبذلك فسره أكابر علماء النصارى .

وأما ضلال النصارى المحرفون لمعاني كتب الله عز وجل ، فسروه بما يخالف معناه الظاهر وينكره العقل والشرع .

وتمام هذا بالوجه السادس : وهو أن النصارى لما كان عندهم في الكتب تسمية المسيح - عليه السلام - ابنا ، وتسمية غيره من الأنبياء ابنا ، كقوله ليعقوب : أنت ابني بكري ، وتسمية الحواريين أبناء قالوا هو ابنه بالطبع ، وغيره هو ابنه بالوضع ، فجعلوا لفظ الابن مشتركا بين معنيين وأثبتوا لله طبعا ، جعلوا المسيح ابنه باعتبار ذلك الطبع ، وهذا يقرر قول من يفهم منهم أنه ابنه البنوة المعروفة في المخلوقين ، وأن مريم زوجة الله .

وكذلك جعلوا روح القدس مشتركة بين حياة الله وبين روح القدس التي تنزل على الأنبياء والصالحين ، ومعلوم أن الاشتراك على [ ص: 199 ] خلاف الأصل وأن اللفظ إذا استعمل في عدة مواضع كان جعله حقيقة متواطئا في القدر المشترك أولى من جعله مشتركا اشتراكا لفظيا بحيث يكون حقيقة في خصوص هذا ، أو يكون مجازا في أحدهما ، فإن المجاز والاشتراك على خلاف الأصل ، هذا إن قدر أن لفظ الابن وروح القدس استعمل في نطق الله وحياته كما يزعم النصارى فكيف إذا لم يوجد في كلام الأنبياء أنهم قالوا لفظ الابن ، ولفظ روح القدس ، وأرادوا به شيئا من صفات الله لا كلامه ولا حياته ولا علمه ولا غير ذلك ، بل لم يوجد استعمال لفظ الابن في كلام الأنبياء إلا في شيء مخلوق ، ولم يوجد استعمال روح القدس كما هو من صفات الله القائمة به ، ونحن إذا فسرنا الأب وروح القدس ببنوة التربية ، وروح القدس بما ينزل على الأنبياء كنا قد جعلنا اللفظ مفردا متواطئا وهم يحتاجون أن يجعلوا اللفظ مشتركا أو مجازا في أحد المعنيين ، فكان تفسيرهم مخالفا لظاهر اللغة التي خوطبوا بها ، ولظاهر الكتب التي بأيديهم وتفسيرنا موافقا لظاهر لغتهم ، وظاهر الكتب التي بأيديهم ، وحينئذ فقد تبين أنه ليس معهم بالتثليث لا حجة سمعية ولا عقلية ، بل هو باطل شرعا وعقلا .

ويؤيد هذا الوجه السابع : وهو أنهم في أمانتهم أثبتوا من [ ص: 200 ] المعاني ولفظ الأقانيم وغير ذلك ما لا تدل عليه الكتب التي بأيديهم البتة ، بل فهموا منها معنى باطلا ، وضموا إليه معاني باطلة من عند أنفسهم ، فكانوا محرفين لكتب الله في ذلك ، مفترين على الله الكذب ، وهذا مبسوط في موضع آخر .

الوجه الثامن : أن قولهم بالأقانيم مع بطلانه في العقل والشرع لم ينطق به عندهم كتاب ، ولم يوجد هذا اللفظ في شيء من كتب الأنبياء التي بأيديهم ولا في كلام الحواريين ، بل هي لفظة ابتدعوها ، ويقال : إنها رومية ، وقد قيل : الأقنوم في لغتهم معناه الأصل ، ولهذا يضطربون في تفسير الأقانيم تارة يقولون : أشخاص ، وتارة خواص وتارة صفات وتارة جواهر وتارة يجعلون الأقنوم اسما للذات والصفة معا ، وهذا تفسير حذاقهم .

الوجه التاسع : قولهم في المسيح - عليه السلام - إنه خالق ، قول مع بطلانه في الشرع والعقل ، قول لم ينطق به شيء من النبوات التي عندهم ، ولكن يستدلون على ذلك بما لا يدل عليه كما سنبينه إن شاء الله - تعالى - .

الوجه العاشر : قولهم في تجسد اللاهوت - أيضا - هو قول مع بطلانه في العقل والشرع قول لا يدل عليه شيء من كلام المعصوم من النبيين والمرسلين

[ ص: 201 ] الوجه الحادي عشر : إنا نقول : لا ريب أن الله حي عالم قادر متكلم ، وللمسلمين على ذلك من الدلائل العقلية التي دل الرسول عليها وأرشد إليها فصارت معروفة بالعقل مدلولا عليها بالشرع ما هو مبسوط في موضعه ، وأنتم مع دعواكم أنكم تثبتون ذلك بالعقل ، لم تذكروا على ذلك دليلا عقليا .

فقولكم لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب ، كلام قاصر من وجوه :

أحدها : أنكم لم تروا حدوث جميع المخلوقات ، وإنما رأيتم حدوث ما يشهد حدوثه كالسحاب والمطر والحيوان والنبات ونحو ذلك ، فأين دليلكم على حدوث سائر الأشياء ؟

الثاني : أنه كان ينبغي أن تقولوا لما علم حدوث المحدثات ، أو حدوث المخلوقات أو حدوث ما سوى الله ونحو ذلك مما يبين أن المحدث ما سوى الله ، فأما إطلاق حدوث جميع الأشياء فباطل ، فإن الله يسمى عندكم وعند جمهور المسلمين شيئا من الأشياء ، وهذا بخلاف قوله - تعالى - : قل الله خالق كل شيء .

فإن هذا التركيب يبين أن الخالق غير المخلوق خلاف قول القائل حدوث الأشياء .

[ ص: 202 ] الثالث : أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث ، علم فطري ضروري ، ولهذا قال الله - تعالى - : في القرآن :

أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون .

قال جبير بن مطعم : لما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع ، يقول - تعالى - : أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم الخالقون لأنفسهم .

ومعلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث إلا بمحدث أحدثه .

[ ص: 203 ] وإن حدوث الحادث بلا محدث أحدثه معلوم البطلان بضرورة العقل وهذا أمر مركوز في بني آدم حتى الصبيان ، لو ضرب الصبي ضربة فقال : من ضربني ؟ فقيل : ما ضربك أحد ، لم يصدق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل .

ولهذا لو جوز مجوز أن يحدث كتابة أو بناء أو غراس ونحو ذلك من غير محدث لذلك ، لكان عند العقلاء إما مجنونا وإما مسفسطا كالمنكر للعلوم البديهية والمعارف الضرورية ، وكذلك معلوم أنه لم يحدث نفسه ، فإن كان معدوما قبل حدوثه لم يكن شيئا فيمتنع أن يحدث غيره فضلا عن أن يحدث نفسه .

فقولكم لم يكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب ، تعليل باطل فإن علمنا بأن حدوثها لم يكن من ذواتها ليس لأجل ما فيها من التضاد والتقلب ، بل سواء كانت متماثلة أو مختلفة أو متضادة ، نحن نعلم بصريح العقل أن المحدث لا يحدث نفسه ، وهذا من أظهر المعارف وأبينها للعقل ، كما يعلم أن العدم لا يخلق موجودا ، وأن المحدث للحوادث الموجودة لا يكون معدوما .

الوجه الرابع : أنكم ذكرتم حجة على أنها لم تحدث نفسها ، وهي [ ص: 204 ] حجة ضعيفة ولم تذكروا حجة على أنها حدثت ، بلا محدث ، لا أنفسها ولا غيرها ، فإن كان امتناع كونها أحدثت نفسها محتاجا إلى دليل ، فكذلك امتناع حدوثها ، بلا محدث ، وإن كان معلوما ببديهة العقل ، وهو من العلوم الضرورية ، فكذلك الآخر ، فذكر الدليل على أحدهما دون الآخر خطأ لو كنتم ذكرتم دليلا صحيحا ، فكيف إذا كان الدليل باطلا ؟ ومن يكون مبلغهم من العلم بالأدلة العقلية التي يثبتون بها العلم بالصانع وصفاته هذا المبلغ ؟ ثم يريدون مع ذلك أن يثبتوا معاني عقلية ويزعمون أنها موافقة لفهمهم الباطل من الكتب الإلهية ، فهم ممن قال الله فيهم :

والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( 39 ) أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

الوجه الثاني عشر : قولكم : فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة ، إذ هو الخالق لكل شيء ، لننفي عنه العدم .

فيقال لهم : لا ريب أن الله كما وصف نفسه بقوله - تعالى - :

ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

وقوله : فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [ ص: 205 ] أي مثلا يستحق أن يسمى بأسمائه ، وقوله - تعالى - :

قل هو الله أحد ( 1 ) الله الصمد ( 2 ) لم يلد ولم يولد ( 3 ) ولم يكن له كفوا أحد . .

وقد دل على ذلك العقل ، فإن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر يجب لأحدهما ما يجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ، ويجوز عليه ما يجوز عليه ، فلو كان للخالق مثل للزم أن يشتركا فيما يجب ، ويجوز ويمتنع .

والخالق يجب له الوجود والقدم ، ويمتنع عليه العدم ، فيلزم أن يكون المخلوق واجب الوجود قديما أزليا لم يعدم قط ، وكونه محدثا مخلوقا يستلزم أن يكون كان معدوما ، فيلزم أن يكون موجودا معدوما قديما محدثا ، وهو جمع بين النقيضين يمتنع في بداية العقول ، وأيضا فالمخلوق يمتنع عليه القدم ، ويجب له سابقة العدم ، فلو وجب للخالق القديم ما يجب له ، لوجب كون الواجب للقدم واجب الحدوث بعد العدم وهذا جمع بين النقيضين ، فالعقل الصريح يجزم بأن الله ليس كمثله شيء ، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر لكن أنتم لم تذكروا على ذلك حجة ، ( بل قلتم إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة ، إذ هو الخالق لكل شيء فلم تذكروا حجة ) على أنه خالق كل شيء ، إذ كان عمدتكم على ما شهدتم حدوثه وليس ذلك كل شيء ، ولم تذكروا [ ص: 206 ] حجة مع كونه خالق كل شيء على أنه ليس كمثله شيء ، بل قلتم لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها لما فيها من التضاد والتقلب فقلنا : إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء ، وذلك لننفي العدم عنه ، ودليلكم لو دل على العلم بالصانع لم يدل إلا على أنه خالق فكيف إذا لم يدل ؟

ولا ريب أن الخالق سبحانه يجب أن يكون موجودا لا معدوما ، وهذا معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى دليل عند جمهور العقلاء والنظار وإن كان بعضهم أثبت وجوده بالدليل النظري ، لكن ليس في دليلكم ما يدل على أنه ليس كالأشياء المخلوقة ، وقولكم : إذ هو الخالق لكل شيء يتضمن أنه خالق لكل ما سواه ، ليس فيه بيان نفي للمماثلة عنه ، ولكن بينتم بهذا الكلام جهلكم بالدلائل العقلية كجهلكم بالكتب المنزلة ، وكذلك أخبر - تعالى - عن أهل النار بأنهم يقولون :

وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .

التالي السابق


الخدمات العلمية