[ ص: 207 ] وأما قولكم : ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين : شيء حي ، وشيء غير حي ، فوصفناه بأجل القسمين فقلنا إنه حي لننفي الموت عنه .
فيقال : لا ريب أن ، ودلت على ذلك آياته كمخلوقاته ، التي هي آياته الفعلية ، قال - تعالى - : الله حي كما نطقت بذلك كتبه المنزلة التي هي آياته القولية
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .
أي القرآن حق ، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله :
قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد .
. فالله - تعالى - يري عباده من آياته المشاهدة المعاينة الفعلية ، ما يبين صدق آياته المنزلة المسموعة القولية
قال - تعالى - : الله لا إله إلا هو الحي القيوم
[ ص: 208 ] وقال - تعالى - : وتوكل على الحي الذي لا يموت .
كثيرة : والدلائل على حياته
منها : أنه قد ثبت أنه عالم ، والعلم لا يقوم إلا بحي ، وثبت أنه قادر مختار يفعل بمشيئته ، والقادر المختار لا يكون إلا حيا .
ومنها : أنه خالق الأحياء وغيرهم ، والخالق أكمل من المخلوق ، فكل كمال ثبت للمخلوق فهو من الخالق ، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه ، وكماله أكمل منه .
. والمتفلسفة القائلون بالموجب بالذات يسلمون هذا ، ويقولون : كمال المعلول مستفاد من علته فإذا كان خالقا للأحياء كان حيا بطريق الأولى والأحرى
ومنها : أن الحي أكمل من غير الحي ، كما قال - تعالى - :
وما يستوي الأحياء ولا الأموات .
فلو كان الخالق غير حي لزم أن يكون الممكن المحدث المخلوق أكمل من الواجب القديم الخالق ، فيكون أنقص الموجودين أكمل من أكملها ، وهذا الوجه يتناول ما ذكروه من الدليل ، وإن كانوا لم يبينوه بيانا تاما ، لكن قولهم قلنا إنه حي لننفي الموت عنه .
[ ص: 209 ] كلام مستدرك فإن الله موصوف بصفات الكمال الثبوتية كالحياة والعلم والقدرة ، فيلزم من ثبوتها سلب صفات النقص ، وهو سبحانه لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية ، فإن العدم المحض والسلب الصرف لا مدح فيه ولا كمال ، إذ كان المعدوم يوصف بالعدم المحض ، والعدم نفي محض لا كمال فيه ، إنما الكمال في الوجود .
ولهذا جاء كتاب الله - تعالى - على هذا الوجه فيصف سبحانه نفسه بالصفات الثبوتية صفات الكمال وبصفات السلب المتضمنة للثبوت كقوله :
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .
فنفي أخذ السنة والنوم يتضمن كمال حياته وقيوميته ، إذ النوم أخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون مع كمال الراحة ، كما لا يموتون .
والقيوم : القائم المقيم لما سواه ، فلو جعلت له سنة أو نوم لنقصت حياته وقيوميته ، فلم يكن قائما ولا قيوما ، كما ضرب الله المثل لبني إسرائيل ، لما سألوا موسى : هل ينام ربك ؟ فأرقه ثلاثا ، ثم أعطاه قوارير فأخذه النوم فتكسرت .
[ ص: 210 ] بين بهذا المثل أن خالق العالم لو نام لنفد العالم ، ثم قال - تعالى - :
له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه .
فإنكاره ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات وما في الأرض ، وأنه ليس له شريك ، فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه وقبل شفاعته كان مشاركا له إذ صارت شفاعته سببا لتحريك المشفوع إليه ، بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه .
ثم قال - تعالى - :
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء .
فنفى أن يعلم أحد شيئا من علمه إلا بمشيئته ليس إلا أنه منفرد بالتعليم ، فهو العالم بالمعلومات ، ولا يعلم أحد شيئا إلا بتعليمه ، كما قالت الملائكة :
لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ثم قال - تعالى - :
وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما
[ ص: 211 ] أي لا يكرثه ولا يثقل عليه ، فبين بذلك كمال قدرته ، وأنه لا يلحقه أدنى مشقة ، ولا أيسر كلفة في حفظ المخلوقات ، كما قال - تعالى - في الآية الأخرى :
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب .
بين بذلك كمال قدرته وأنه لا يلحقه اللغوب في الأعمال العظيمة مثل خلقه السماوات والأرض ، كما يلحق المخلوق اللغوب إذا عمل عملا عظيما ، واللغوب : الانقطاع والإعياء ، وهذا باب واسع مبسوط في موضع آخر .
والمقصود هنا أنه موصوف بصفات الكمال التي يستحقها بذاته ويمتنع اتصافه بنقائضها ، وإذا وصف بالسلوب ، فالمقصود هو إثبات الكمال ، وهؤلاء قالوا : قد وصفناه بالحياة لننفي عنه الموت ، كما قالوا : هو شيء لننفي العدم عنه ، والحياة صفة كمال يستحقها بذاته ، والموت مناقض لها ، فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت ، بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت ، فينفي عنه الموت لأنه حي ، لا يثبت له الحياة لنفي الموت ، وكذلك لتثبت له أنه شيء موجود ، وذلك يستلزم نفي العدم عنه ، لا أن إثبات وجوده لأجل نفي العدم ، بل نفي العدم عنه [ ص: 212 ] لأجل وجوده ، كما أن نفي الموت عنه لأجل حياته ، وكذلك قولهم : قلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وذلك لننفي العدم عنه ، لكن كان مرادهم والله أعلم - وإن كانت عبارتهم قاصرة - إثبات الوجود ، ونفي العدم ، وإثبات الحياة ونفي الموت .