الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 213 ] ثم قالوا : ورأينا الحي ينقسم قسمين : حيا ناطقا ، وحيا غير ناطق فوصفناه بأفضل الوصفين ، فقلنا : إنه ناطق لننفي الجهل عنه .

فيقال لهم : لا ريب أن الرب سبحانه موصوف بأنه حي عليم قدير متكلم مختار ، لكن قولهم : فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه يقتضي أنكم أردتم النطق المناقض للجهل ، وهذا هو العلم ، فإن العلم يناقض الجهل لم تريدوا بذلك النطق الذي هو العبارة والبيان ، ولم تريدوا بذلك ما جعله بعض النظار كلاما ، وهي معاني قائمة بالنفس ليست من جنس العلوم ، ولا من جنس الإرادات ، وحينئذ فيقال لكم : ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر ، فكل حي فله شعور بحسبه .

وكلما قويت الحياة قوي شعورها ، وشعور الحيوان قد يعبر عنه بلفظ العلم ، كما يقول الناس : علم الفهد والبازي والكلب ، ويقال : كلب معلم وغير معلم وبازي معلم .

[ ص: 214 ] وقال - تعالى - :

وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله فقتل فكل ولا ريب أن العلم صفة كمال ، فالعالم أكمل من الجاهل ، والدلائل الدالة على علم الله كثيرة ، مثل أنه سبحانه خالق كل شيء بإرادته .

والإرادة تستلزم تصور المراد فلابد أن يعلم المخلوقات قبل أن يخلقها .

وكل ما وجد في الخارج فهو موجود وجودا معينا يمتاز به عن غيره ، فإذا خلقها كذلك فلابد أن يعلمها علما مفصلا يمتاز به كل معلوم عما سواه ، ولو قدر أنه علمها على وجه كلي فقط لم يكن علم منها شيئا ، [ ص: 215 ] لأن الكلي إنما يكون كليا في الأذهان ، وأما ما هو موجود في الخارج فهو معين مختص بعينه ليس بكلي .

وكل واحد من الأفلاك معين ، فلو لم يعلم إلا الكليات لم يكن عالما بشيء من الموجودات ، وقد بسط في غير هذا الموضع تمام الكلام على هذا وبين فساد شبه نفاة ذلك بما ادعوه من لزوم التغيير أو التكثر ، وبين أنه لا يلزم من ثبوت علم الله بالأشياء كلها على وجه التفصيل محذور ينفيه دليل صحيح .

فإن التكثر فيما يقوم به من المعاني هو مدلول الأدلة العقلية والسمعية فإنه عالم قادر حي ، وليس العلم هو القدرة ، ولا القدرة هي الحياة ولا الصفة هي الموصوف ، ومن جعل كل صفة هي الأخرى ، وجعل الصفات هي الموصوف ، فهو قول في غاية السفسطة .

وأيضا فإنه خالق العالمين من الملائكة والجن والإنس ، وجاعلهم علماء ، فيمتنع أن يجعل غيره عالما من ليس هو في نفسه بعالم ، فإن العلم صفة كمال ، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم ، وكل كمال للمخلوق فهو من الخالق ، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق ، وأيضا فإن في الممكنات المحدثة المخلوقة ما هو عالم ، والواجب القديم الخالق أكمل من الممكن المحدث ، فيمتنع أن يتصف بالكمال الموجود [ ص: 216 ] الناقص الخسيس دون الموجود الكامل الشريف ، وهذا يتناول معنى حجتهم .

وأيضا فإنه حي ، والحياة مستلزمة لجنس العلم ، وإذا كانت حياته أكمل من كل حياة فعلمه أكمل من كل علم ، لكن يقال لكم : كما أنه حي عالم فهو أيضا قادر ، فما ذكرتم بأن الموجودات أو الأحياء تنقسم إلى قادر وغير قادر ، فيجب أن يوصف بأجل القسمين ، وهو القدرة .

لا سيما ودلائل كونه قادرا أظهر من دلائل كونه عالما ، فإن نفس كونه خالقا فاعلا يستلزم كونه قادرا ، فإن الفعل بدون القدرة ممتنع حتى إذا قيل : إن الجماد يفعل فإنما يفعل بقوة فيه كالقوى الطبيعية التي في الأجسام الطبيعية ، فيمتنع في خالق العالم أن لا يكون له قوة ، ولا قدرة ، قال - تعالى - :

إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين .

وقال - تعالى - :

أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة .

وفي صحيح البخاري حديث الاستخارة : اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب

[ ص: 217 ] وكثير من نظار المسلمين المصنفين في أصول الدين الذين يقيمون الدليل على كونه قادرا قبل كونه عالما وحيا ، ويقولون : العلم بذلك أسبق في السلوك الاستدلالي النظري لدلالة الأحداث والفعل على قدرة المحدث الفاعل فيجب أن يثبتوا له صفة القدرة مع العلم .

وكذلك يقولون : إن الحي لما كان ينقسم إلى سميع ، وغير سميع ، وبصير ، وغير بصير ، وصفناه بأشرف القسمين ، وهو السميع والبصير .

وكذلك في النطق إذا أريد به البيان والعبارة ، ولم يرد به مجرد العلم ، أو معنى من جنس العلم فإن الحي ينقسم إلى متكلم ، ومبين معبر عما في نفسه ، وإلى ما ليس كذلك ، فيجب أن تصفوه بأشرف القسمين ، وهو الكلام المبين المعبر عنه عما في النفس من المعاني .

ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال أنه لو لم يوصف بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما لوصف بضد ذلك ، كالموت والجهل والعجز والصمم والبكم والخرس ، ومعلوم وجوب تقدسه عن هذه النقائص ، بل هذا معلوم بالضرورة العقلية ، فإنه أكمل الموجودات ، وأجلها وأعظمها ، ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه ، وجاعل كل ما سواه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما ، فيمتنع أن يكون هو شيئا عاجزا جاهلا أصم أبكم أخرس ، بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلا ، فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء .

[ ص: 218 ] ولبعض الملاحدة من المتفلسفة ومن اتبعهم هنا سؤال مشهور وهو : أنه إنما يلزم إذا لم يتصف بصفات الكمال أن يوصف بأضدادها إذا كان قابلا لها ، فأما إذا لم يكن قابلا لها لم يلزم .

قالوا : هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة ، وهو عدم الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كعدم الحياة والسمع والبصر .

والكلام عن الحيوان الذي هو القابل له ، فإذا لم يكن قابلا له كالجماد ، فلا يسمى مع عدم الحياة والسمع والبصر والكلام ميتا ولا أصم ولا أعمى ولا أخرس .

وجواب ذلك من أوجه :

أحدها : أنه إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال ، وإما أن لا يكون .

فإن لم يكن قابلا لزم أن يكون أنقص ممن قبلها ، ولم يتصف [ ص: 219 ] بها ، فالجماد أنقص من الحيوان الذي لم يتصف بعد بصفات كماله ، وإن كان قابلا لها لزم إذا عدمها أن يتصف بأضدادها .

وهؤلاء قد يقولون : في إثباتها تشبيه له بالحيوان ، فيقال لهم : وفي نفيها تشبيه له بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان ، فإذا لم يكن في نفيها تشبيه له بالجماد ، فكذلك لا يكون في إثباتها تشبيه له بالحيوان ، وإن كان في ذلك تشبيه بالحيوان فهو محذور ، فالمحذور في تشبيهه بالجماد أعظم وإن لم يكن مثل هذا التشبيه محذورا في ذلك ، فأن لا يكون محذورا في هذا بطريق الأولى .

الوجه الثاني : أن جعلهم سلب الموت والصمم والبكم عن الجماد لزعمهم أنه غير قابل لها اصطلاح محض ، فإنه موجود في كلام الله تسمية الجماد ميتا ، كما قال - تعالى - في الأصنام :

أموات غير أحياء .

الوجه الثالث : أنه يكفي عدم هذه الصفات ، فإن مجرد عدم الحياة والعلم والقدرة صفة نقص سواء قدر الموصوف قابلا لها أو غير قابل ، بل إذا قدر أنه غير قابل لها كان ذلك أبلغ في النقص .

فعلم أن نفي هذه الصفات عنه ، ونفي قبولها يوجب أن يكون أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الذي يقبلها ، وإن لم يتصف بها .

الوجه الرابع : أن الكمال في الوجود ، والنقص في العدم ، فنفس [ ص: 220 ] ثبوت هذه الصفات كمال ، ونفس نفيها نقص ، وإن لم يتصف بها لزم نقصه ، وأن يكون المفعول أكمل من الفاعل ، وأن يكون المحدث الممكن المخلوق أكمل من القديم الأزلي الواجب الوجود الخالق ، وهذا ممتنع في بداية العقول ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لبيان بعض الطرق التي بها تعرف صفات الرب ، وبيان أن هؤلاء القوم من أجهل أهل الملل بالرب .

والطرق التي يعرف بها كماله فيها العقلية والسمعية ، وأن القوم عندهم من ألفاظ الأنبياء ما لم يفهموا كثيرا منه وما حرفوا كثيرا منه ، وعندهم من المعقول في ذلك ما يفضلهم اليهود فيه ، لكن اليهود ، وإن كانوا أعلم منهم ، فهم أعظم عنادا وكبرا وجحدا للحق ، والنصارى أجهل وأضل من اليهود لكن هم أعبد وأزهد وأحسن أخلاقا ، ولهذا كانوا أقرب مودة للذين آمنوا من اليهود والمشركين .

التالي السابق


الخدمات العلمية