فصل فيما كان في غزوة خيبر من الأحكام الفقهية فمنها ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من محاربة الكفار ومقاتلتهم في الأشهر الحرم الحديبية في ذي الحجة ، فمكث بها أياما ، ثم سار إلى خيبر في المحرم ، كذلك قال عن الزهري عروة ، عن مروان ، وكذلك قال والمسور بن مخرمة : خرج في أول سنة سبع من الهجرة . ولكن في الاستدلال بذلك نظر ؛ فإن خروجه كان في أواخر المحرم ، لا في أوله ، وفتحها إنما كان في صفر . الواقدي
وأقوى من هذا الاستدلال بيعة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند الشجرة بيعة الرضوان على القتال ، وألا يفروا ، وكانت في ذي القعدة ، ولكن لا دليل في ذلك ؛ لأنه إنما بايعهم على ذلك لما بلغه أنهم قد قتلوا عثمان وهم يريدون قتاله ، فحينئذ بايع الصحابة ، ولا خلاف في جواز إذا بدأ العدو ، إنما الخلاف أن يقاتل فيه ابتداء ، فالجمهور جوزوه وقالوا : تحريم القتال فيه منسوخ ، وهو مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله . القتال في الشهر الحرام
وذهب عطاء وغيره إلى أنه ثابت غير منسوخ ، وكان عطاء يحلف بالله ما يحل القتال في الشهر الحرام ، ولا نسخ تحريمه شيء .
وأقوى من هذين الاستدلالين الاستدلال بحصار النبي صلى الله عليه وسلم للطائف ؛ فإنه خرج إليها في أواخر شوال ، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، فبعضها كان في ذي [ ص: 302 ] القعدة ، فإنه ( مكة لعشر بقين من رمضان ، وأقام بها بعد الفتح تسع عشرة يقصر الصلاة ) ، فخرج إلى فتح هوازن ، وقد بقي من شوال عشرون يوما ، ففتح الله عليه هوازن ، وقسم غنائمها ، ثم ذهب منها إلى الطائف فحاصرها بضعا وعشرين ليلة ، وهذا يقتضي أن بعضها في ذي القعدة بلا شك .
وقد قيل : إنما حاصرهم بضع عشرة ليلة . قال : وهو الصحيح بلا شك ، وهذا عجيب منه ، فمن أين له هذا التصحيح والجزم به ؟ وفي " الصحيحين " عن ابن حزم في قصة أنس بن مالك الطائف قال : ( ) وذكر الحديث ، فهذا الحصار وقع في ذي القعدة بلا ريب ، ومع هذا فلا دليل في القصة ؛ لأن غزو فحاصرناهم أربعين يوما فاستعصوا وتمنعوا الطائف كان من تمام غزوة هوازن ، وهم بدءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال ، ولما انهزموا دخل ملكهم وهو مالك بن عوف النضري مع ثقيف في حصن الطائف محاربين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان غزوهم من تمام الغزوة التي شرع فيها ، والله أعلم .
وقال الله تعالى في سورة المائدة ، وهي من آخر القرآن نزولا ، وليس فيها منسوخ : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ) [ المائدة : 2 ] .
وقال في سورة البقرة : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله ) [ البقرة : 217 ]
فهاتان آيتان مدنيتان بينهما في النزول نحو ثمانية أعوام ، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ناسخ لحكمهما ، ولا أجمعت الأمة على نسخه ، ومن استدل على نسخه بقوله تعالى : [ ص: 303 ] ( وقاتلوا المشركين كافة ) [ التوبة : 36 ] ونحوها من العمومات ، فقد استدل على النسخ بما لا يدل عليه ، ومن استدل عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عامر في سرية إلى أوطاس في ذي القعدة ، فقد استدل بغير دليل ؛ لأن ذلك كان من تمام الغزوة التي بدأ فيها المشركون بالقتال ، ولم يكن ابتداء منه لقتالهم في الشهر الحرام .