ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين قوله تعالى: "نؤته منها" مشروط بالمشيئة، أي نؤت من شئنا منها ما قدر له، بين ذلك قوله تعالى: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة، لأن من كانت نيته من عمله مقصورة على طلب الدنيا فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة الكلام في قوله: ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا.
وقرأ جمهور الناس "نؤته" و"نؤته" و"سنجزي" كلها بنون العظمة، وقرأ بالياء في الثلاثة، وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه. قال الأعمش في قول الله تعالى: ابن فورك وسنجزي الشاكرين إشارة إلى أنه ينعمهم بنعيم الدنيا لا أنهم يقصرون على الآخرة.
ثم ضرب تعالى المثل للمؤمنين بمن سلف من صالحي الأمم الذين لم يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم فقال: وكأين من نبي .. الآية، وفي "كأين" أربع لغات: "كأين" على وزن كعين بفتح العين، و "وكائن"، على وزن كاعن، و "كأين" على وزن كعين بسكون العين، و"كإن" على وزن كعن بكسر العين; وأكثر ما استعملت العرب في أشعارها التي على وزن كاعن، فمن ذلك قول الشاعر:
وكائن رددنا عنكم من مدجج يجيء أمام القوم يردي مقنعا
وقال جرير:
وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا
[ ص: 376 ] وقال آخر:
وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم
وقد جاء في اللغة التي ذكرتها أولا قول الشاعر:
كأين في المعاشر من أناس أخوهم فوقهم وهم كرام
وهذه اللغة هي أصل هذه اللفظة، لأنها كاف التشبيه دخلت على "أي" كما دخلت على "ذا" في قولك: لفلان كذا وكذا، وكما دخلت على "أن" في قولك: كأن زيدا أسد، لكن بقي لها معنى التشبيه في كأن، وزال عنها ذلك في كذا وكذا، وفي كأين، وصرفت العرب كأين في معنى "كم" التي هي للتكثير، وكثر استعمالهم للفظة حتى لعب فيها لسان العرب على اللغات الأربع التي ذكرت، وهذا كما لعب في قولهم:
لعمري حتى قالوا: رعملي، وكما قالوا: أطيب وأيطب، وكما قالوا: طبيخ في بطيخ، فعوملت الكاف وأي معاملة ما هو شيء واحد. فأما اعتلال لغة من قال: "كائن" على وزن فاعل; فإنهم أخذوا الأصل الذي هو "كأين" فقلبوا الياء قبل الهمزة ونقلت حركة كل واحد منهما إلى أختها، فجاء "كيأ" على وزن كيع، فحذفوا الياء الثانية المفتوحة تخفيفا، كما حذفوا الياء من ميت وهين ولين فقالوا، ميت وهين [ ص: 377 ] ولين، وكما حذفوا الياء الثانية من "أي" تخفيفا ومنه قول الفرزدق بن غالب التميمي:
تنظرت نصرا والسماكين أيهما علي من الغيث استهلت مواطره؟
فجاء "كيإ" على وزن كيع، فأبدلت هذه الياء الساكنة ألفا مراعاة للفتحة التي قبلها، كما قالوا: في يوجل ياجل، وكما أبدلوا الياء ألفا في "طاي"، وكما أبدلت في "آية" عند إذ أصلها عنده "أية" على وزن فعلة بسكون العين، فجاء "كاء" ثم كتب هذا التنوين نونا في المصحف; فأما قياس اللغة فحذفه في الوقف، فكما يقولون: مررت بزيد فكذلك يقولون "كأيي"، ووقف عليه سيبويه، كأي" بياء دون نون، وكذلك روى أبو عمرو" سورة بن المبارك عن ووقف سائر القراء بإثبات النون مراعاة لخط المصحف. قال الكسائي، ولو قيل إنه لما تصرف في الكلمة بالقلب صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة وصارت بمنزلة لام فاعل فأقرت في الوقف، لكان قولا، ويقوي ذلك أنهم لما حذفوا الكلام من قولهم: إمالا، جعلوها بالحذف ككلمة واحدة، فأجازوا الإمالة في ألف "لا" كما تجوز في التي من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال، فيوقف على "كأين" بالنون ولا يتوقف على النون إذا لم تقلب، كما لا تميل الألف من "لا" إذا لم يحذف فعلها. أبو علي:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وبهذه اللغة التي فيها هذا القلب قرأ وحده، وقرأ سائر السبعة باللغة التي هي الأصل، "كأين" ، وذهب ابن كثير في "كأين" إلى أنه فاعل من الكون، وقوله مردود، إذ يلزم عنه إعراب الكلمة ولم يعربها أحد من يونس بن حبيب العرب. وأما اللغة التي هي "كأين" على وزن "كعين" فهي قراءة ابن محيصن والأشهب العقيلي، وتعليل هذه اللغة أنه علل الأصل الذي هو "كأين" بالتعليل المتقدم، فلما جاء "كيأ" على وزن كيع، ترك هؤلاء إبدال الياء الساكنة ألفا كما تقدم في التعليل الأول، وقلبوا الكلمة فجعلوها "كأين" على وزن كعين، وحسن هذا من وجهين: أحدهما أن التلعب والتصرف في [ ص: 378 ] هذه الكلمة مهيع، والثاني أنهم راجعوا الأصل الذي هو تقديم الهمزة على الياء. وأما اللغة التي هي "كإن" على وزن "كعن" فهي قراءة ابن محيصن أيضا، حكاها عنه وقرأها أبو عمرو الداني، إلا أنه سهل الهمزة ياء فقرأ "كي" في جميع القرآن، وتعليل هذه اللغة أنهم حذفوا الألف من "كائن" الممدودة على وزن كاعن بعد ذلك التصرف كله تخفيفا، وهذا كما قالوا: أم والله، يريدون: أما، وكما قالوا على لسان الضب : الحسن بن أبي الحسن
لا أشتهي أن أردا إلا عرادا عردا
وصليانا بردا وعنكثا ملتبدا
أرادوا: عاردا وباردا، فحذفوا تخفيفا، وهذا كثير في كلامهم، و "كأين" في هذه الآية في موضع رفع بالابتداء، وهي بمنزلة "كم" وبمعناها تعطي في الأغلب التكثير.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو "قتل" بضم القاف وكسر التاء مخففة، وقرأ الباقون: "قاتل معه"، بألف بين القاف والتاء، وقرأ ونافع "قتل" بضم القاف وكسر التاء مشددة على التكثير. قتادة:
وقوله تعالى: "قتل" قال فيه جماعة من المفسرين منهم إنه مستند إلى ضمير "نبي"، والمعنى عندهم: أن النبي قتل. قال الطبري: في قوله: ابن عباس وما كان لنبي أن يغل النبي يقتل; فكيف لا يخان، وإذا كان هذا فـ "ربيون" مرتفع بالظرف بلا خلاف.
وقوله: "معه ربيون" على هذا التأويل يجوز أن يكون صفة لـ "نبي"، ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي أسند إليه "قتل" فإن جعلته صفة أضمرت [ ص: 379 ] للمبتدإ الذي هو "كأين" خبرا تقديره في آخر الكلام: مضى أو ذهب أو فقد "فما وهنوا"، وإن جعلت معه "ربيون" حالا من الضمير فخبر المبتدإ في قوله: "قتل"، وإذا جعلته صفة فالضمير في "معه" عائد على "نبي"، وإذا جعلته حالا فالضمير في "معه" عائد على الضمير ذي الحال، وعلى كلا الوجهين من الصفة أو الحال فـ "معه ربيون" متعلق في الأصل بمحذوف، وليس متعلقا بـ "قتل". وقال وجماعة معه: إن "قتل" إنما هو مستند إلى قوله: "ربيون" وهم المقتولون، قال الحسن بن أبي الحسن الحسن لم يقتل نبي في حرب قط. وسعيد بن جبير:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فعلى هذا القول يتعلق قوله: "معه" بـ "قتل"، وهذه الجملة: "قتل معه ربيون" هي خبر الابتداء. ويتصور في قراءة من قرأ "قاتل" جميع ما ذكرته من التقديرات في قراءة "قتل". وأما قراءة "قتل" فقال قتادة أبو الفتح: لا يحسن أن يسند الفعل إلا إلى الربيين، لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد، فإن قيل: يستند إلى "نبي" مراعاة لمعنى "كم" فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله: "من نبي"، ودل"الضمير المفرد في "معه" على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد، فخرج الكلام على معنى "كم"، قال أبو الفتح: وهذه القراءة تقوي قول من قال من السبعة: إن"قتل" بتخفيف التاء أو "قاتل" إنما يستند إلى الربيين. ورجح استناد "قتل" إلى النبي بدلالة نازلة الطبري محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا لما قيل: قتل محمد، فضرب المثل بنبي قتل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإذا لم يسند الفعل إلى "نبي" فإنما يجيء معنى الآية: تثبيت المؤمنين بعد من قتل منهم فقط، وترجيح حسن، ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله تعالى: الطبري أفإن مات أو قتل وحجة من قرأ: "قاتل" أنها أعم في المدح لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي.
[ ص: 380 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين، وعلى قراءة "قتل" إسناده إلى "نبي".
وأجمع السبعة وجماعة من الناس على كسر الراء من "ربيون"، وقرأ رضي الله عنه علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبو رجاء وعمرو بن عبيد "ربيون" بضم الراء، وروى وعطاء بن السائب: عن قتادة "ربيون" بفتح الراء، قال ابن عباس الفتح في الراء لغة ابن جني: تميم، وكلها لغات. واختلف الناس في معنى "ربيون" فقال الربيون: الألوف من الناس والجمع الكثير، وقال ابن مسعود: ربيون: جموع كثيرة، وقاله ابن عباس: الحسن وقتادة ولقول وعكرمة. عبد الله بن مسعود "إنهم الألوف" قال بعض المفسرين: هم عشرة آلاف فصاعدا، أخذ ذلك من بناء الجمع الكثير في قولهما: هم الألوف، وهذا في الربيين أنهم الجماعات الكثيرة هو من الربة بكسر الراء وهي الجماعة الكثيرة، قاله وابن عباس: وقال: إن قوله تعالى: ( قتل معه ربيون ) منسوبون إليها، قال يونس بن حبيب، قطرب: جماعة العلماء على قول يونس، وقال يقال: إن الربة عشرة آلاف، وروي عن الزجاج: وعن ابن عباس وغيرهما أنهم قالوا: "ربيون" معناه: علماء، وقال الحسن بن أبي الحسن فقهاء علماء، قال أيضا: علماء صبر، وهذا القول هو على النسبة إلى الرب، إما لأنهم مطيعون له، أو من حيث هم علماء بما شرع، ويقوى هذا القول في قراءة من قرأ "ربيون" بفتح الراء، وأما في ضم الراء وكسرها فيجيء على تغيير النسب، كما قالوا في النسبة إلى الحرم: حرمي بكسر الحاء، وإلى البصرة، بصري بكسر الباء، وفي هذا نظر، وقال الحسن: الربانيون : الولاة، والربيون: الرعية الأتباع للولاة. ابن زيد:
[ ص: 381 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
كأن هذا من حيث هم مربوبون.
وقال اشتقاق "ربي" من ربا الشيء يربو إذا كثر، فسمي بذلك الكثير العلم. النقاش:
قال أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف.
وقال ربي بكسر الراء منسوب إلى الرب، لكن كسرت راؤه إتباعا للكسرة والياء اللتين بعد الراء، وروي بضم الراء كذلك لكنهم ضموها كما قيل: دهري بضم الدال في النسب إلى الدهر. مكي:
وقرأ جمهور الناس "فما وهنوا" بفتح الهاء، وقرأ الأعمش والحسن وأبو السمال: "وهنوا" بكسر الهاء، وهما لغتان بمعنى، يقال: وهن بكسر الهاء يوهن ووهن بفتح الهاء يهن. وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضا "وهنوا" بإسكان الهاء، وهذا على طلب الخفة كما قالوا: في نعم وبئس إلى غير ذلك من الأمثلة، وقد تقدم معنى الوهن في قوله آنفا "ولا تهنوا". والضمير في قوله: "فما وهنوا" عائد على جميع الربيين في قول من أسند "قتل" إلى "نبي"، ومن أسنده إلى "الربيين" قال في هذا الضمير: إنه يعود على من بقي منهم، إذ المعنى يفهم نفسه.
وقوله تعالى: "وما ضعفوا" معناه: لم يكتسبوا من العجز والإلقاء باليد ما ينبئ عن ضعفهم .وقوله تعالى :"وما استكانوا": ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون فوزنه افتعلوا، استكنوا، فمطلت فتحة الكاف فحدث من مطلها ألف. وذهبت طائفة إلى أنه مأخوذ من كان يكون، فوزنه على هذا الاشتقاق استفعلوا أصله استكونوا، نقلت حركة الواو إلى الكاف وقلبت ألفا، كما فعلوا في قولك: استعانوا واستقاموا، والمعنى: أنهم لم يضعفوا ولا كانوا قريبا من ذلك، كما تقول: ما فعلت كذا ولا [ ص: 382 ] كدت، فتحذف لأن الكلام يدل على أن المراد: وما كدت أن أفعل، ومحبة الله تعالى للصابرين ما يظهر عليهم من نصره وتنعيمه.