باب نكاح الملاعن للملاعنة  
قال  أبو حنيفة   ومحمد   : ( إذا أكذب الملاعن نفسه وجلد الحد أو جلد حد القذف في غير ذلك وصارت المرأة بحال لا يجب بينها وبين زوجها إذا قذفها لعان ، فله أن يتزوجها ) ؛ وروي نحو ذلك عن  سعيد بن المسيب   وإبراهيم   والشعبي   وسعيد بن جبير   . 
وقال  أبو يوسف   والشافعي   : ( لا يجتمعان أبدا ) ؛ وروي عن  علي   وعمر   وابن مسعود  مثل ذلك . وهذا محمول عندنا على أنهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن . 
وروي عن  سعيد بن جبير   : ( أن فرقة اللعان لا تبينها منه ، وأنه إذا أكذب نفسه في العدة ردت إليه امرأته ) ؛ وهو قول شاذ لم يقل به أحد غيره ، وقد مضت السنة ببطلانه حين فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين ، والفرقة لا تكون إلا مع البينونة . ويحتج للقول الأول بعموم الآي المبيحة لعقود المناكحات ، نحو قوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم  وقوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء  وقوله : وأنكحوا الأيامى منكم  
ومن جهة النظر أنا قد بينا أن هذه الفرقة متعلقة بحكم الحاكم ، وكل فرقة تعلقت بحكم الحاكم فإنها لا توجب تحريما مؤبدا ، والدليل على ذلك أن سائر الفرق التي تتعلق بحكم الحاكم لا يوجب تحريما مؤبدا مثل فرقة العنين وخيار الصغيرين وفرقة الإيلاء عند مخالفنا ، وكذلك سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم في الأصول هذه سبيلها . 
فإن قيل : سائر الفرق التي ذكرت لا يمنع التزويج في الحال وإن تعلقت بحكم الحاكم ، وهذه الفرقة تحظر تزويجها في الحال عند الجميع ، فكما جاز أن يفارق سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم من هذا الوجه جاز أن يخالفها في إيجابها التحريم مؤبدا . 
قيل له : من الفرق المتعلقة بحكم الحاكم ما يمنع التزويج في الحال ولا توجب مع ذلك تحريما مؤبدا ، مثل فرقة العنين  [ ص: 156 ] إذا لم تكن نفي من طلاقها إلا واحدة قد أوجبت تحريما حاظرا لعقد النكاح في الحال ، ولم توجب . مع ذلك تحريما مؤبدا ؛ وكذلك الزوج الذمي إذا أبى الإسلام وقد أسلمت امرأته ففرق الحاكم بينهما منع ذلك من نكاحها بعد الفرقة ولا توجب تحريما مؤبدا ، فلم يجب من حيث حظرنا تزويجها بعد الفرقة أن توجب به تحريما مؤبدا . 
وأيضا لو كان اللعان يوجب تحريما مؤبدا لوجب أن يوجبه إذا تلاعنا عند غير الحاكم ؛ لأنا وجدنا سائر الأسباب الموجبة للتحريم المؤبد فإنها توجبه بوجودها غير مفتقرة فيه إلى حاكم ، مثل عقد النكاح الموجب لتحريم الأم والوطء الموجب للتحريم والرضاع والنسب ، كل هذه الأسباب لما تعلق بها تحريم مؤبد لم تفتقر إلى كونها عند الحاكم ، فلما لم يتعلق تحريم اللعان إلا بحكم الحاكم وهو أن يتلاعنا بأمره بحضرته ثبت أنه لا يوجب تحريما مؤبدا . وأيضا لو أكذب نفسه قبل الفرقة بعد اللعان لجلد الحد ولم يفرق بينهما ،  وأبو يوسف  لا يخالفنا في ذلك لزوال حال التلاعن وبطلان حكمه بالحد الواقع به وجب مثله بعد الفرقة لزوال المعنى الذي من أجله وجبت الفرقة وهو حكم اللعان فإن قيل : لو كان كذلك لوجب أنه إذا أكذب نفسه بعد الفرقة وجلد الحد أن يعود النكاح وتبطل الفرقة لزوال المعنى الموجب لها ، كما لا يفرق بينهما إذا أكذب نفسه بعد اللعان قبل الفرقة . 
قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأنا إنما جعلنا زوال حكم اللعان علة لارتفاع التحريم الذي تعلق به لا لبقاء النكاح ولا لعود النكاح ، فعلى أي وجه بطل لم يعد إلا بعقد مستقبل ؛ إلا أن الفرقة قد تعلق بها تحريم غير البينونة ، وذلك التحريم إنما يرتفع بارتفاع حكم اللعان ، كما أن الطلاق الثلاث توجب البينونة وتوجب أيضا مع ذلك تحريما لا يزول إلا بزوج ثان يدخل بها ، فإذا دخل بها الزوج الثاني ارتفع التحريم الذي أوجبه الطلاق الثلاث ولم يعد نكاح الزوج الأول إلا بعد فراق الزوج الثاني وانقضاء العدة وإيقاع عقد مستقبل . ودليل آخر ، وهو أن التحريم الواقع بالفرقة لما كان متعلقا بحكم اللعان وجب أن يرتفع بزوال حكمه ، والدليل على ارتفاع حكم اللعان إذا أكذب نفسه وجلد الحد أنه معلوم أن اللعان حد على ما بينا فيما سلف وبمنزلة الجلد في قاذف الأجنبيات ، وممتنع أن يجتمع عليه حدان في قذف واحد ، فإيقاع الجلد لذلك القذف مخرج للعان من أن يكون حدا ومزيل لحكمه في إيجاب التحريم لزوال السبب الموجب له . 
فإن قيل : فهذا الذي ذكرت يبطل حكم اللعان لامتناع  [ ص: 157 ] اجتماع الحدين عليه بقذف واحد ، فواجب إذا جلد الزوج حدا في قذفه لغيرها أن لا يبطل حكم اللعان فيما بينهما فلا يتزوج بها قيل له : إذا صار محدودا في قذف فقد خرج من أن يكون من أهل اللعان ، ألا ترى أنه لو قذف امرأة له أخرى لم يلاعن وكان عليه الحد عندنا ؟ فالعلة التي ذكرنا في إكذابه نفسه فيما لاعن عليه امرأته وإن كانت غير موجودة في هذه فجائز قياسها عليها بمعنى آخر وهو خروجه من أن يكون من أهل اللعان . 
فإن احتجوا بما روى  محمد بن إسحاق  عن  الزهري  عن  سهل بن سعد  في قصة المتلاعنين ، قال  الزهري   : ( فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا ) ، وبما حدثنا محمد بن بكر  قال : حدثنا  أبو داود  قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح  قال : حدثنا  ابن وهب  عن عياض بن عبد الله الفهري  وغيره عن  ابن شهاب  عن  سهل بن سعد  في هذه القصة قال : ( فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وكان ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم قال سهل   : ( حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا ) وبحديث  ابن عمر  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا سبيل لك عليها ، فإنها لو كانت تحل له بحال لبين كما بين الله تعالى حكم المطلقة ثلاثا في إباحتها بعد زوج غيره قيل له : أما حديث  الزهري  الأول فإنه قول  الزهري  ، وقوله : ( مضت السنة ) ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سنها ولا أنه حكم بها ، وأما قول  سهل بن سعد   : ( فمضت السنة من بعد في المتلاعنين أنهما لا يجتمعان أبدا ) ليس فيه أيضا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مضت بذلك ؛ والسنة قد تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وقد تكون من غيره ، فلا حجة في هذا . 
وأيضا فإنه قال في المتلاعنين ، وهذا يصفه حكم يتعلق به وهو بقاؤهما على حكم التلاعن وكونهما من أهل اللعان ، فمتى زالت الصفة بخروجهما من أن يكونا من أهل اللعان زال الحكم ، كقوله تعالى ما على المحسنين من سبيل  وقوله لا ينال عهدي الظالمين  ونحو ذلك من الأحكام المعلقة بالصفات ، ومتى زالت الصفة زال الحكم فإن قيل : قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المتلاعنان لا يجتمعان أبدا قيل له : ما نعلم أحدا روى ذلك بهذا اللفظ ، وإنما روي ما ذكرنا في حديث  سهل بن سعد  وهو أصل الحديث . فإن صح هذا اللفظ فإنما أخذه الراوي من حديث سهل  وظن أن هذه العبارة مبينة عما في حديث سهل  ، ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفد نفي النكاح بعد زوال حكم اللعان على النحو الذي بينا ، وأما قوله لا سبيل لك عليها فإنه لا يفيد تحريم النكاح وإنما هو إخبار بوقوع  [ ص: 158 ] الفرقة لأنه لا يصح إطلاق القول بأنه لا سبيل لأحد على الأجنبيات ولا يفيد ذلك تحريم العقد . 
فإن قيل : قوله ( لا سبيل لك عليها ) ينفي جواز العقد ؛ إذ كان جوازه يوجب أن يكون له عليها سبيل . قيل له : ليس كذلك لأنا قد نقول لا سبيل لك على الأجنبية ولا نريد به أنه لا يجوز له تزويجها فيصير لك عليها سبيل بالتزويج . 
وإنما نريد أنه لا يملك بضعها في الحال ، فإذا تزوجها فإنما صار له عليها سبيل برضاها وعقدها ، ألا ترى أن قوله : ما على المحسنين من سبيل  لم يمنع أن يصير عليهم سبيل في العقود المقتضية لإثبات الحقوق والسبيل عليه برضاه ؟ فكذلك قوله ( لا سبيل لك عليها ) إنما أفاد أنه لا سبيل لك عليها إلا برضاها . 
				
						
						
