وروى عن عطاء " أنه كان إذا صلى العتمة ورقد حرم عليه الطعام والشراب والجماع " ، وروى ابن عباس أنه كان يحرم ذلك عليهم من حين يصلون العتمة " وعن الضحاك " معاذ " أنه كان يحرم ذلك عليهم بعد النوم " وكذلك عن أصحاب ابن أبي ليلى محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : ثم إن رجلا من الأنصار لم يأكل ولم يشرب حتى نام ، فأصبح صائما فأجهده الصوم ، وجاء وقد أصاب امرأته بعد ما نام فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : عمر أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ونسخ به تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم .
والرفث المذكور هو الجماع لا خلاف بين أهل العلم فيه واسم الرفث يقع على الجماع وعلى الكلام الفاحش ويكنى به عن الجماع ، قال في قوله : ابن عباس فلا رفث ولا فسوق إنه مراجعة النساء بذكر الجماع ؛ قال العجاج :
عن اللغا ورفث التكلم
[ ص: 282 ] فأولى الأشياء بمعنى الآية هو الجماع نفسه ؛ لأن رفث الكلام غير مباح ، ومراجعة النساء بذكر الجماع ليس لها حكم يتعلق بالصوم لا فيما سلف ولا في المستأنف ، فعلم أن المراد هو ما كان محرما عليهم من الجماع فأبيح لهم بهذه الآية ونسخ به ما تقدم من الحظر
وقوله تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن بمعنى هن كاللباس لكم في إباحة المباشرة وملابسة كل واحد منهما لصاحبه ؛ قال النابغة الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى عطفه تثنت عليه فكانت لباسا
ويحتمل أن يريد باللباس الستر ؛ لأن اللباس هو ما يستر ، وقد سمى الله تعالى الليل لباسا ؛ لأنه يستر كل شيء يشتمل عليه بظلامه ، فإن كان المعنى ذلك ، فالمراد كل واحد منهما ستر صاحبه عن التخطي إلى ما يهتكه من الفواحش ، ويكون كل واحد منهما متعففا بالآخر مستترا به وقوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ذكر للحال التي خرج عليها الخطاب واعتداد بالنعمة علينا بالتخفيف بإباحة واستدعاء لشكره عليها . الجماع والأكل والشرب في ليالي الصومومعنى قوله : تختانون أنفسكم أي يستأثر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل والشرب بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله : تقتلون أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا ويحتمل أن يريد به كل واحد في نفسه بأنه يخونها ، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ، ويحتمل أن يريد به أنه يعمل عمل المستأثر له ، فهو يعامل نفسه بعمل الخائن لها ، والخيانة هي انتقاص الحق على جهة المساترة .
وقوله تعالى : فتاب عليكم يحتمل معنيين : أحدهما : قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم ، والآخر : التخفيف عنكم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى علم أن لن تحصوه فتاب عليكم يعني والله أعلم : خفف عنكم ، وكما قال عقيب ذكر حكم قتل الخطإ : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله يعني تخفيفه ؛ لأن قاتل الخطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه ، وقوله تعالى : وعفا عنكم يحتمل أيضا العفو عن الذنب الذي اقترفوه بخيانتهم لأنفسهم ، ثم لما أحدثوا التوبة منه عفا عنهم في الخيانة ، ويحتمل أيضا التوسعة والتسهيل بإباحة ما أباح من ذلك ؛ لأن العفو يعبر به في اللغة عن التسهيل ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : يعني تسهيله وتوسعته وقوله تعالى : أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله فالآن باشروهن إباحة للجماع المحظور كان قبل ذلك في ليالي الصوم ، والمباشرة هي إلصاق البشرة بالبشرة ، وهي في هذا الموضع [ ص: 283 ] كناية عن الجماع ؛ قال : " هي المواقعة والجماع " وقال في المباشرة مرة : " هي إلصاق الجلد بالجلد " ، وقال زيد بن أسلم : " المباشرة النكاح " ، وقال الحسن : " الجماع " وهو مثل قوله عز وجل : مجاهد ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد .
وقوله : وابتغوا ما كتب الله لكم قال عبد الوهاب عن أبيه عن قال : " الولد " ، وعن ابن عباس مجاهد والحسن والضحاك والحكم مثله ، وروى معاذ بن هشام قال : حدثني أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس وابتغوا ما كتب الله لكم قال ليلة القدر " وقال في قوله : قتادة وابتغوا ما كتب الله لكم قال : " الرخصة التي كتب الله لكم " ، قال : إذا كان المراد بقوله : أبو بكر فالآن باشروهن الجماع ، فقوله : وابتغوا ما كتب الله لكم لا ينبغي أن يكون محمولا على الجماع لما فيه من تكرار المعنى في خطاب واحد ، ونحن متى أمكننا استعمال كل لفظ على فائدة مجددة فغير جائز الاقتصار بها على فائدة واحدة ، وقد أفاد قوله : فالآن باشروهن إباحة الجماع ، فالواجب أن يكون قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم على غير الجماع ، ثم لا يخلو من أن يكون المراد به ليلة القدر على ما رواه عن أبو الجوزاء ، أو الولد على ما روي عنه وعن غيره ممن قدمنا ذكره ، أو الرخصة على ما روي عن ابن عباس ، فلما كان اللفظ محتملا لهذه المعاني ولولا احتماله لها لما تأوله قتادة السلف عليها وجب أن يكون محمولا على الجميع ، وعلى أن الكل مراد الله تعالى فيكون اللفظ منتظما لطلب ليلة القدر في رمضان ولاتباع رخصة الله تعالى ولطلب الولد ، فيكون العبد مأجورا على ما يقصده من ذلك ، ويكون الأمر بطلب الولد على معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ، وكما سأل تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة زكريا ربه أن يرزقه ولدا بقوله : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب
وقوله : وكلوا واشربوا إطلاق من حظر ، كقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وقوله : وإذا حللتم فاصطادوا ونظائر ذلك من الإباحة الواردة بعد الحظر ، فيكون حكم اللفظ مقصورا على الإباحة لا على الإيجاب ولا الندب .
وأما قوله : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال : قد اقتضت الآية إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، روي أن رجالا منهم حملوا ذلك على حقيقة الخيط الأبيض والأسود وتبين أحدهما من الآخر ، منهم أبو بكر حدثنا [ ص: 384 ] عدي بن حاتم محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد حصين بن نمير قال : وحدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ابن إدريس المعني عن حصين عن عن الشعبي قال : لما نزلت هذه الآية : عدي بن حاتم حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود قال : أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي ، فنظرت فلم أتبين ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال : إن وسادك إذا لعريض طويل إنما هو الليل والنهار قال : إنما هو سواد الليل وبياض النهار " . عثمان
قال : وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد اليماني قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا ابن أبي مريم عن أبي غسان محمد بن مطرف قال : أخبرنا أبو حازم عن قال : لما نزل قوله : سهل بن سعد وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر قال : فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، فأنزل الله بعد ذلك : من الفجر فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار .
قال : إذا كان قوله أبو بكر من الفجر مبينا فيه فلا إلباس على أحد في أنه لم يرد به حقيقة الخيط ، لقوله : من الفجر ويشبه أن يكون إنما اشتبه على عدي وغيره ممن حمل اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله : من الفجر وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة ، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار ، وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعا في لغة قريش ومن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية ، وأن ومن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة ؛ لأنه ليس كل العرب تعرف سائر لغاتها . عدي بن حاتم
وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسما للخيط حقيقة ولبياض النهار وسواد الليل مجازا ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة ، فلما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بمراد الله تعالى منه ، وأنزل الله تعالى بعد ذلك : من الفجر فزال الاحتمال وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار ، وقد كان ذلك اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية ، قبل الإسلام مشهورا ذلك عندهم ؛ قال أبو داود الإيادي :
ولما أضاءت لنا ظلمة ولاح من الصبح خيط أنارا
قد كاد يبدو أو بدت تباشره وسدف الخيط البهيم ساتره
فإن قيل : كيف شبه الليل بالخيط الأسود وهو مشتمل على جميع العالم ، وقد علمنا أن الصبح إنما شبه بالخيط ؛ لأنه مستطيل أو مستعرض في الأفق ، فأما الليل فليس بينه وبين الخيط تشابه ولا مشاكلة ؟ قيل له : إن الخيط الأسود هو السواد الذي في الموضع قبل ظهور الخيط الأبيض فيه ، وهو في ذلك الموضع مساو للخيط الأبيض الذي يظهر بعده ، فمن أجل ذلك سمي الخيط الأسود .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحديد ما حدثنا الوقت الذي يحرم به الأكل والشرب على الصائم محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد عن حماد بن زيد عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه قال : سمعت يخطب وهو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمرة بن جندب وحدثنا لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود محمد بن عيسى قال : حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن النعمان قال : حدثني قيس بن طلق عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر
فذكر في هذا الخبر الأحمر ، ولا خلاف بين المسلمين أن الفجر الأبيض المعترض في الأفق قبل ظهور الحمرة يحرم به الطعام والشراب على الصائم ؛ وقال صلى الله عليه وسلم : لعدي بن حاتم ولم يذكر الحمرة . إنما هو بياض النهار وسواد الليل
فإن قيل : قد روي عن قال : حذيفة ، قيل له : لا يثبت ذلك عن تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان نهارا إلا أن الشمس لم تطلع وهو مع ذلك من أخبار الآحاد ، فلا يجوز الاعتراض به على القرآن ، قال الله تعالى : حذيفة حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فأوجب الصوم والإمساك عن الأكل والشرب بظهور الخيط الذي هو بياض الفجر .
وحديث إن حمل على حقيقته كان مبيحا لما حظرته الآية ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة : عدي بن حاتم فكيف يجوز الأكل نهارا في الصوم مع تحريم الله تعالى إياه بالقرآن والسنة ؟ ولو ثبت حديث هو بياض النهار وسواد الليل من طريق النقل لم يوجب جواز الأكل في ذلك الوقت ؛ لأنه لم يعز الأكل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبر عن نفسه أنه أكل في ذلك الوقت لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكونه مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الأكل لا دلالة فيه على علم [ ص: 286 ] النبي صلى الله عليه وسلم بذلك منه وإقراره عليه ، ولو ثبت أنه صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره عليه احتمل أن يكون ذلك كان في آخر الليل قرب طلوع الفجر فسماه نهارا لقربه منه ، كما حدثنا حذيفة محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود عمرو بن محمد الناقد قال : حدثنا حماد بن خالد الخياط قال : حدثنا معاوية بن صالح عن يونس بن سيف عن الحارث بن زياد عن أبي رهم عن قال : العرباض بن سارية فسمى السحور غداء لقربه من الغداء . دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور في رمضان فقال : هلم إلى الغداء المبارك
كذلك لا يمتنع أن يكون سمى الوقت الذي تسحر فيه نهارا لقربه من النهار قال حذيفة فقد وضح بما تلونا من كتاب الله وتوقيف نبيه صلى الله عليه وسلم أن أول أبو بكر هو طلوع الفجر الثاني المعترض في الأفق ، وأن الفجر المستطيل إلى وسط السماء هو من الليل ، وقت الصوم والعرب تسميه ذنب السرحان .
وقد اختلف أهل العلم في حكم ، فذكر الشاك في الفجر في الإملاء أن أبو يوسف قال : " يدع الرجل السحور إذا شك في الفجر أحب إلي ، فإن تسحر فصومه تام " وهو قولهم جميعا في الأصل ، وقال : " إن أكل فلا قضاء عليه " وحكى أبا حنيفة عن ابن سماعة عن أبي يوسف " أنه إن أكل وهو شاك قضى يوما " وقال أبي حنيفة : " ليس عليه في الشك قضاء " ، وقال أبو يوسف عن الحسن بن زياد : " أنه إن كان في موضع يستبين الفجر ويرى مطلعه من حيث يطلع ليس هناك علة فليأكل ما لم يستبن له الفجر ، وهو قول الله تعالى : أبي حنيفة وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " وقال : وقال : " إن كان في موضع لا يرى فيه الفجر أو كانت مقمرة وهو يشك في الفجر فلا يأكل ، وإن أكل فقد أساء ، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع قضى ، وإلا لم يقض ، وسواء كان في سفر أو حضر " ، وهذا قول أبو حنيفة زفر ، وبه نأخذ . وأبي يوسف
وكذلك روي عنهم في الشك في غيبوبة الشمس على هذا الاعتبار ، قال : وينبغي أن يكون رواية الأصل ورواية الإملاء في كراهيتهم الأكل عند الشك في الفجر محمولين على ما رواه أبو بكر ؛ لأنه فسر ما أجملوه في الروايتين الأخريين ؛ ولأنها موافقة لظاهر الكتاب ، وقد روي عن الحسن بن زياد أنه بعث رجلين لينظرا له طلوع الفجر في الصوم فقال أحدهما : قد طلع ، وقال الآخر : لم يطلع ، فقال : " اختلفتما فأكل " ، وكذلك روي عن ابن عباس وذلك في حال أمكن فيها الوصول إلى معرفة طلوع الفجر من طريق المشاهدة ؛ وقال تعالى : [ ص: 287 ] ابن عمر حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فأباح الأكل إلى أن يتبين ، والتبين إنما هو حصول العلم الحقيقي ، ومعلوم أن ذلك إنما أمروا به في حال يمكنهم فيها الوصول إلى العلم الحقيقي بطلوعه .
وأما إذا كانت ليلة مقمرة أو ليلة غيم أو في موضع لا يشاهد مطلع الفجر ، فإنه مأمور بالاحتياط للصوم ؛ إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع ، فالواجب عليه الإمساك استبراء لدينه ؛ لما حدثنا قال : حدثنا شعبة يزيد بن أبي مريم السلولي قال : سمعت أبا الجوزاء السعدي قال : قلت للحسن بن علي : ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كان يقول : . دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن يونس أبو شهاب : حدثنا ابن عون عن قال : سمعت الشعبي ولا أسمع أحدا بعده يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : النعمان بن بشير . إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور متشابهات ؛ وسأضرب في ذلك مثلا : إن الله حمى حمى وإن حمى الله ما حرم ، وإنه من يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه ، وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : أخبرنا إبراهيم بن موسى الرازي عيسى قال : حدثنا زكريا عن عامر قال : سمعت يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بهذا الحديث ، قال : النعمان بن بشير ، فهذه الأخبار تمنع من الإقدام على المشكوك فيه أنه من المباح أو المحظور ، فوجب استعمالها . وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام
فمن شك فلا سبيل له إلى تبين طلوع الفجر في أول ما يطلع حتى يكون مستبرئا لدينه وعرضه مجتنبا للريبة غير مواقع لحمى الله تعالى ، فاستعملنا قوله حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فيمن يمكنه معرفة طلوعه في أول أحواله ؛ فهذا مذهب أصحابنا وحجاجه فيما ذكرنا ، وقال : " أكره أن يأكل إذا شك في الفجر ، وإن أكل فعليه القضاء " وقال مالك بن أنس : " يتسحر الرجل ما شك حتى يرى الفجر " . الثوري
وقال عبيد الله بن الحسن : " إن أكل شاكا في الفجر فلا شيء عليه " وأما قول من قال : " إنه يأكل شاكا من غير اعتبار منه بحال إمكان التبين في حال طلوعه أو تعذر ذلك عليه " فذلك إغفال منه ؛ لأن ضريرا لو كان في موضع ليس بحضرته من يعرفه طلوع الفجر لم يجز له الإقدام على الأكل بالشك وهو لا يأمن أن يكون قد أصبح ، وكذلك من كان [ ص: 288 ] في بيت مظلم لا يأمن طلوع الفجر لم يجز له الإقدام على الأكل بالشك ، فإن أجاز هذا وألغى الشك لزمه إلغاء الشك في كل موضع والإقدام على كل ما لا يأمن أن يكون محظورا من وطء أو غيره ، وفي استعمال ذلك مخالفة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب الشبهات وترك الريب إلى اليقين ومخالفة إجماع المسلمين ؛ لأنهم لا يختلفون أنه غير جائز له الإقدام على وطء امرأة لا يعرفها وهو شاك في أنها زوجته ، وكذلك من طلق إحدى نسائه بعينها ثلاثا ونسيها فغير جائز له الإقدام على وطء واحدة منهن باتفاق الفقهاء إلا بعد العلم بأنها ليست المطلقة . والشافعي
وأما القول بإيجاب القضاء على من أكل شاكا في الفجر ، فإنه كما لا يبيح له الإقدام على المشكوك فيه فكذلك لا يوجب عليه القضاء بالشك ؛ لأنه إذا كان الأصل براءة الذمة من الفرض فلا جائز إلزامه بالشك ، والذي تضمنته هذه الآية من الحكم من عند قوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله : من الخيط الأسود من الفجر نسخ تحريم الجماع والأكل والشرب في ليالي الصوم بعد العتمة أو بعد النوم وفيها الدلالة على ؛ لأن الحظر المتقدم إنما كان ثبوته بالسنة لا بالقرآن ، ثم نسخ بالإباحة المذكورة في القرآن وفيها الدلالة على أن نسخ السنة بالقرآن لما فيه من إباحة الجماع من أول الليل إلى آخره مع العلم بأن المجامع في آخر الليل إذا صادف فراغه من الجماع طلوع الفجر يصبح جنبا ، ثم حكم مع ذلك بصحة صومه بقوله : الجنابة لا تنافي صحة الصوم ثم أتموا الصيام إلى الليل وفيها حث على بقوله : طلب الولد وابتغوا ما كتب الله لكم مع تأويل من تأوله واحتمال الآية له وفيها الدلالة على أن لأن ليلة القدر في رمضان قد تأوله على ذلك ، فلولا أنه محتمل له لما جاز أن يتأول عليه وفيها الندب إلى ابن عباس لتأويل من تأوله على ما بينا فيما سلف وفيها الدلالة على أن الترخص برخصة الله بقوله : آخر الليل إلى طلوع الفجر الثاني أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله : حتى يتبين لكم فثبت أن الليل إلى طلوع الفجر وأن ما بعد طلوعه فهو من النهار .
وفيها الدلالة على إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يحصل له الاستبانة واليقين بطلوع الفجر ، وأن الشك لا يحظر عليه ذلك ؛ إذ غير جائز وجود الاستبانة مع الشك ؛ وهذا فيمن يصل إلى الاستبانة وقت طلوعه ، وأما من لا يصل إلى ذلك لساتر أو ضعف بصره أو نحو ذلك فغير داخل في هذا الخطاب لما بينا آنفا قبل [ ص: 289 ] هذا الفصل .
وورود لفظ الإباحة بعد الحظر دليل على أنه لم يرد به الإيجاب ؛ لأن ذلك حكم لفظ الإطلاق إذا كان وروده بعد الحظر ، على نحو ما ذكرنا من نظائره في قوله : وإذا حللتم فاصطادوا وقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ومع ذلك فليس يمتنع أن يكون بعض الأكل والشرب مندوبا وهو وقد حدثنا ما يكون في آخر الليل على جهة السحور قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا إبراهيم الحربي قال : حدثنا مسدد عن أبو عوانة عن قتادة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنس . تسحروا فإن في السحور بركة
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد عن عبد الله بن المبارك موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن أبي قيس مولى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عمرو بن العاص أهل الكتاب أكلة السحور . إن فصلا بين صيامكم وصيام
وحدثنا قال : حدثنا عبد الباقي أحمد بن عمرو الزئبقي قال : حدثنا عبد الله بن شبيل قال : حدثنا عبد الله بن سعيد عن عن أبيه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ابن عمر فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السحور ، ليس يمتنع أن يكون مراد الله بقوله : نعم غداء المؤمن السحور وإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر في بعض ما انتظمه أكلة السحور ، فيكون مندوبا إليها بالآية .
فإن قيل : قد تضمنت الآية لا محالة الرخصة في إباحة الأكل ، وهو ما كان منه في أول الليل لا على وجه السحور ، فكيف يجوز أن ينتظم لفظ واحد ندبا وإباحة ؟ قيل له : لم يثبت ذلك بظاهر الآية ، وإنما استدللنا عليه بظاهر السنة ، فأما ظاهر اللفظ فهو إطلاق إباحة على ما بينا .
وفيها الدلالة على أن ، بقوله عز وجل : الغاية قد لا تدخل في الحكم المقدر بها حتى يتبين لكم الخيط الأبيض وحال التبين غير داخلة في إباحة الأكل فيها ولا مرادة بها ؛ ثم قال الله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل فجعل الليل غاية الصيام ولم تدخل فيه ، وقد دخلت في بعض المواضع وهو قوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا والغاية مرادة في إباحة الصلاة بعدها ، وكذلك قوله تعالى : وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين قد دخلت الغاية في المراد ؛ وذلك أصل في أن الغاية قد تدخل في حال ولا تدخل في أخرى وأنها تحتاج إلى دلالة في إسقاط حكمها أو إثباته .
وأما قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل فإن عطفه على ما تقدم ذكره من إباحة الجماع [ ص: 290 ] والأكل والشرب يدل على أن هو الإمساك عن هذه الأمور التي ذكر إباحتها ليلا ، وقد تقدم بيان ذلك مع ما يقتضيه الصوم الشرعي من المعاني التي بعضها إمساك وبعضها شرط لكون الإمساك صوما شرعيا . الصوم المأمور به
وفي قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل دلالة على أن أنه غير جائز له الأكل بعد ذلك ، وأن عليه أن يمسك عما يمسك عنه الصائم ؛ لأن هذا الإمساك ضرب من الصيام ؛ وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم من حصل مفطرا لغير عذر فسمى الإمساك بعد الأكل صوما . بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال : من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يأكل فليتم صومه
فإن قيل : إذا لم يكن ذلك صوما شرعيا لم يتناوله اللفظ ؛ لأن قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل المراد به الصوم الشرعي لا الصوم اللغوي ، قيل له : هذا عندنا صوم شرعي قد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم مع إيجابه القضاء ، ووجوب القضاء لا يخرجه من أن يكون صوما مندوبا إليه مستحقا للثواب عليه .
وفيه الدلالة على أن أن عليه أن يتم صومه ويجزيه من فرضه ما لم يفعل ما ينافي صحة الصوم من أكل أو شرب أو جماع . من أصبح في رمضان غير ناو للصوم
فإن قيل : الذي يقتضيه الظاهر الأمر بإتمام الصوم والإتمام يطلق فيما قد صح الدخول فيه ، وهو لم يدخل فيه حتى يلحقه الخطاب بالإتمام ؟ قيل له : لما أصبح ممسكا عما يجب على الصائم الإمساك عنه فقد حصل له الدخول في الصوم لما بينا من أن الإمساك قد يكون صوما شرعيا وإن لم يحصل به قضاء فرض ولا تطوع ؛ ويدل على أن ذلك صوم مع عدم النية اتفاق جميع فقهاء الأمصار على أن من أصبح في غير رمضان ممسكا عما يمسك عنه الصائم غير ناو للصوم أنه جائز له أن يبتدئ نية التطوع ، ويجزيه .
ولو لم يكن ما مضى صوما يتعلق به حكم الصوم الشرعي لما جاز أن يثبت له حكم الصوم بإيجاد النية بعده ، ألا ترى أنه لو أكل أو شرب ثم أراد أن ينوي صياما تطوعا لم يصح له ذلك ؟ فثبت بما وصفنا صحة دلالة قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل على جواز نية صيام رمضان في بعض النهار ؛ والله تعالى أعلم بالصواب .