قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم هو نهي عن ؛ لأنه معطوف على قوله : حلق الرأس في الإحرام للحاج والمعتمر جميعا وأتموا الحج والعمرة لله قد اقتضى ، لاحتمال اللفظ للأمرين ، كقوله تعالى : حظر حلق بعضنا رأس بعض وحلق كل واحد رأس نفسه ولا تقتلوا أنفسكم اقتضى النهي عن قتل كل واحد منا لنفسه ولغيره . فيدل ذلك على أن المحرم محظور عليه حلق رأس غيره ، ومتى فعله لزمه الجزاء ، ويدل على أن ؛ لأنه عموم في كل من عليه حلق وهدي في وقت واحد ، فيحتج فيمن حلق قبل أن يذبح أن عليه دما لمواقعته المحظور في تقديم الحلق على الهدي . وقد اختلفوا في الذبح مقدم على الحلق في القران والتمتع ؟ فقال المحصر هل عليه حلق أم لا أبو حنيفة : " لا حلق عليه " . وقال ومحمد في إحدى الروايتين : " يحلق ، فإن لم يحلق فلا شيء عليه " وروي عنه أنه لا بد من الحلق . ولم يختلفوا في أبو يوسف ، المرأة تحرم تطوعا بغير إذن زوجها ، أن للزوج والمولى أن يحللاهما بغير حلق ولا تقصير ، وذلك بأن يفعل بهما أدنى ما يحظره الإحرام من طيب أو لبس . وهذا يدل على أن الحلق غير واجب على المحصر ؛ لأن هذين بمنزلة المحصر ، وقد جاز لمن يملك إحلالهما أن يحللهما بغير حلق ، ولو كان الحلق واجبا وهو ممكن لكان عليه أن يحلل العبد بالحلق والمرأة بالتقصير . وأيضا فالحلق إنما ثبت نسكا مرتبا على قضاء المناسك ، ولم يثبت على غير هذا الوجه ، فغير جائز إثباته نسكا إلا عند قيام الدلالة ؛ إذ قد ثبت أن الحلق في الأصل ليس بنسك ؛ ويقاس بهذه العلة على العبد والمرأة أن المولى والزوج لما جاز لهما إحلال العبد والمرأة بغير حلق ولا تقصير إذا لم يفعلا سائر المناسك التي رتب عليها الحلق ، وجب أن يجوز لسائر المحصرين الإحلال بغير حلق لهذه العلة ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم والعبد يحرم بغير إذن مولاه حين أمرها برفض العمرة قبل استيعاب أفعالها : لعائشة فلم يأمرها بالحلق ولا بالتقصير حين لم تستوعب أفعال العمرة ، فدل ذلك على أن من جاز له الإحلال من إحرامه قبل قضاء المناسك فليس عليه الإحلال بالحلق . وفيه دليل على أن انقضي [ ص: 344 ] رأسك وامتشطي ودعي العمرة واغتسلي وأهلي بالحج كترتيب سائر أفعال المناسك بعضها على بعض ، وقد احتج الحلق مرتب على قضاء المناسك محمد لذلك بأنه لما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق . ويحتمل ذلك من قوله وجهين :
أحدهما : أن يكون مراده المعنى الذي ذكرنا أن الحلق مرتب على قضاء المناسك ، فلما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق . ويحتمل أنه لما كان الحلق إذا وجب في الإحرام كان نسكا ، وقد سقط عن المحصر سائر المناسك ، وجب أن يسقط عنه الحلق .
فإن قيل : إنما سقط عنه سائر المناسك لتعذر فعلها ، والحلق غير متعذر فعليه فعله . قيل له : هذا غلط ؛ لأن المحصر لو أمكنه الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار ولم يمكنه الوصول إلى البيت ولا الوقوف بعرفة لا يلزمه الوقوف بالمزدلفة ولا رمي الجمار مع إمكانهما ؛ لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما . كذلك لما كان الحلق مرتبا على أفعال أخر ، لم يكن فعله قبلهما نسكا فقد سقط بما ذكرنا اعتراض السائل لوجودنا مناسك يمكنه فعلها ، ولم تلزمه مع ذلك عند كونه محصرا . فإن احتج محتج بقوله : لأبي يوسف ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فجعل بلوغه محله غاية لزوال الحظر ، وواجب أن يكون حكم الغاية بضد ما قبلها ، فيكون تقديره : " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فإذا بلغ فاحلقوا " وذلك يقتضي وجوب الحلق . قيل له : هذا غلط ؛ لأن الإباحة هي ضد الحظر كما أن الإيجاب ضده ، فليست في صرفه إلى أحد الضدين وهو الإيجاب بأولى من الآخر وهو الإباحة . وأيضا فإن ارتفاع الحظر غير موجب لفعل ضده على جهة الإيجاب ، وإنما الذي يقتضيه زوال الحظر بقاء الشيء على ما كان عليه قبله فيكون بمنزلته قبل الإحرام ، فإن شاء حلق وإن شاء ترك ؛ ألا ترى أن زوال حظر البيع بفعل الجمعة وزوال حظر الصيد بالإحلال لم يقتض إيجاب البيع ولا الاصطياد وإنما اقتضى إباحتهما ؟ ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي يوسف ثلاثا ، ودعا للمقصرين مرة ، وذلك في عمرة رحم الله المحلقين الحديبية عند الإحصار ؛ فدل ذلك على أنه نسك ، وإذا كان نسكا وجب فعله كما يجب عند قضاء المناسك لغير المحصر . والجواب : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتد عليهم الحلق والإحلال قبل الطواف بالبيت ، فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال [ ص: 345 ] توقفوا رجاء أن يمكنهم الوصول وأعاد عليهم القول ؛ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فنحر هديه وحلق رأسه ، فلما رأوه كذلك حلق بعض وقصر بعض ، فدعا للمحلقين لمبالغتهم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ومسارعتهم إلى أمره ، ولما قيل له : يا رسول الله دعوت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة فقال : ومعنى ذلك أنهم لم يشكوا أن الحلق أفضل من التقصير ، فاستحقوا من الثواب بعلمهم لذلك ما لم يستحقه الآخرون . إنهم لم يشكوا
فإن قيل : فكيفما جرى الأمر فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحلق وأمره على الوجوب ، ودعاؤه للفريقين من المحلقين والمقصرين دليل على أنه نسك ، وما ذكرته من أن القوم كرهوا الحلق قبل الوصول إلى البيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم به ، ليس بناف وجه الدلالة منه على كونه نسكا . فإنه يقال : قد روى المسور بن مخرمة قصة ومروان بن الحكم الحديبية فقالا فيه : فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أحلوا وانحروا وذكر في بعض الأخبار الحلق . فنستعمل اللفظين ، فنقول : ما حل به من شيء فهو حلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : أحلوا وقوله : المقصد به الإحلال لا تعيينه بالحلق دون غيره ، وإنما استحقوا الثواب لإحلالهم وائتمارهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الحلق أفضل من التقصير لجدهم واجتهادهم في متابعة أمره صلى الله عليه وسلم والله أعلم بالصواب . احلقوا