قال الله (تعالى): وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ؛ روي عن أنه قال: " الحسن ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم . لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم؛ وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله؛ فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأنزل الله؛
قال : وأظن ذلك غلطا من الراوي; لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ؛ إذ لا خلاف بين أهل العلم أن اليتيم لا يجب إعطاؤه ماله قبل البلوغ؛ وإنما غلط الراوي بآية أخرى؛ وهو ما حدثنا أبو بكر محمد بن بكر قال: حدثنا قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ؛ عن جرير ؛ عن عطاء ؛ سعيد بن جبير قال: لما أنزل الله (تعالى) ابن عباس ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ؛ و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ؛ الآية؛ انطلق من كان عنده يتيم؛ فعزل طعامه من طعامه؛ وشرابه من شرابه؛ فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله؛ أو يفسد؛ فاشتد ذلك عليهم؛ فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأنزل الله (تعالى): ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ؛ فخلطوا طعامهم بطعامهم؛ وشرابهم بشرابهم؛ فهذا هو الصحيح في ذلك؛ وأما قوله (تعالى): عن وآتوا اليتامى أموالهم ؛ فليس من هذا في شيء; لأنه معلوم أنه لم يرد به إيتاءهم أموالهم في حال اليتم؛ وإنما يجب ؛ وأطلق اسم الأيتام عليهم لقرب عهدهم باليتم؛ كما سمى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل؛ في قوله (تعالى): الدفع إليهم بعد البلوغ؛ وإيناس الرشد فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ؛ والمعنى مقاربة البلوغ؛ ويدل على ذلك قوله (تعالى) - في نسق الآية -: فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ؛ والإشهاد عليه لا يصح قبل البلوغ؛ فعلم أنه أراد بعد البلوغ؛ وسماهم يتامى لأحد معنيين؛ إما لقرب عهدهم بالبلوغ؛ أو لانفرادهم عن آبائهم؛ مع أن العادة في أمثالهم ضعفهم عن التصرف لأنفسهم؛ والقيام بتدبير أمورهم على الكمال؛ حسب تصرف المتحنكين الذين قد جربوا الأمور؛ واستحكمت آراؤهم؛ وقد روى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى يسأله عن ابن عباس ؟ فكتب إليه: "إذا أونس منه الرشد انقطع عنه يتمه"؛ وفي بعض الألفاظ: "إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد"؛ فأخبر اليتيم: متى ينقطع يتمه أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ؛ إذا لم يستحكم رأيه؛ ولم يؤنس منه رشده؛ فجعل بقاء ضعف الرأي [ ص: 339 ] موجبا لبقاء اسم اليتيم عليه. ابن عباس
واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه؛ وعلى المرأة المنفردة عن زوجها؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة؛ وقال الشاعر: "تستأمر اليتيمة في نفسها"؛
إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى
إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخا؛ أو كهلا؛ لا يسمى يتيما؛ وإن كان ضعيف العقل؛ ناقص الرأي؛ فلا بد من اعتبار قرب العهد بالصغر؛ والمرأة الكبيرة المسنة تسمى "يتيمة"؛ من جهة انفرادها عن زوج؛ والرجل الكبير المسن لا يسمى يتيما؛ من جهة انفراده عن أبيه؛ وإنما كان كذلك لأن الأب يلي على الصغير؛ ويدبر أمره؛ ويحوطه؛ فيكنفه؛ فسمي الصغير يتيما لانفراده عن أبيه الذي هذه حاله؛ فما دام على حال الضعف ونقصان الرأي يسمى يتيما؛ بعد البلوغ؛ وأما المرأة فإنما سميت يتيمة لانفرادها عن الزوج الذي هي في حباله؛ وكنفه؛ فهي؛ وإن كبرت؛ فهذا الاسم لازم لها; لأن وجود الزوج لها في هذه الحال بمنزلة الأب للصغير؛ في أنه هو الذي يلي حفظها؛ وحياطتها؛ فإذا انفردت عمن هذه حاله معها سميت "يتيمة"؛ كما سمي الصغير يتيما لانفراده عمن يدبر أمره؛ ويكنفه؛ ويحفظه؛ ألا ترى إلى قوله (تعالى): الرجال قوامون على النساء ؟ كما قال: وأن تقوموا لليتامى بالقسط ؛ فجعل الرجل قيما على امرأته؛ كما جعل ولي اليتيم قيما عليه؛ وقد روى ؛ علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: وجابر بن عبد الله وهذا هو الحقيقة في اليتيم؛ وبعد البلوغ يسمى يتيما مجازا؛ لما وصفنا؛ وما ذكرنا من دلالة اسم اليتيم على الضعيف - على ما روي عن "لا يتم بعد حلم"؛ - يدل على صحة قول أصحابنا فيمن ابن عباس : "إنها جائزة للفقراء من اليتامى"; لأن اسم اليتيم يدل على ذلك؛ ويدل عليه ما حدثنا أوصى ليتامى بني فلان؛ وهم لا يحصون عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا قال: أخبرنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر في قوله - عز وجل -: الحسن؛ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ؛ قال: "السفهاء ابنك السفيه؛ وامرأتك السفيهة"؛ قال: وقوله: قياما : قيام عيشك؛ وقد ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فسمى اليتيم ضعيفا. "اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم والمرأة"؛
ولم يشرط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم؛ وظاهره يقتضي وجود دفعه إليهم بعد البلوغ؛ أونس منه الرشد؛ أو لم يؤنس؛ إلا أنه قد شرطه في قوله (تعالى): حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم [ ص: 340 ] منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ؛ فكان ذلك مستعملا عند ما بينه وبين خمس وعشرين سنة؛ فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد وجب دفع المال إليه؛ لقوله (تعالى): أبي حنيفة وآتوا اليتامى أموالهم ؛ فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة؛ على مقتضاه؛ وظاهره؛ وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد؛ لاتفاق أهل العلم أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه؛ وهذا وجه شائع؛ من قبل أن فيه استعمال كل واحدة من الآيتين على مقتضى ظواهرهما على فائدتهما؛ ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال كان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأسا؛ وهو قوله (تعالى): وآتوا اليتامى أموالهم ؛ من غير شرط لإيناس الرشد فيه; لأن الله (تعالى) أطلق إيجاب دفع المال من غير قرينة؛ ومتى وردت آيتان؛ إحداهما خاصة؛ مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم؛ والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة؛ وأمكننا استعمالهما على فائدتهما؛ لم يجز لنا الاقتصار بهما على فائدة إحداهما؛ وإسقاط فائدة الأخرى؛ ولما ثبت بما ذكرنا وجوب دفع المال إليه؛ لقوله (تعالى): وآتوا اليتامى أموالهم ؛ وقال - في نسق التلاوة -: فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ؛ دل ذلك على أنه جائز الإقرار بالقبض؛ إذ كان قوله: فأشهدوا عليهم ؛ قد تضمن جواز ؛ وفي ذلك دلالة على نفي الحجر وجواز التصرف; لأن المحجور عليه لا يجوز إقراره؛ ومن وجب الإشهاد عليه فهو جائز الإقرار. الإشهاد على إقرارهم بقبضها
وأما قوله (تعالى): ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ؛ فإنه روي عن ؛ مجاهد وأبي صالح: "الحرام بالحلال"؛ أي: لا تجعل بدل رزقك الحلال حراما؛ تتعجل بأن تستهلك مال اليتيم فتنفقه؛ أو تتجر فيه لنفسك؛ أو تحبسه وتعطيه غيره؛ فيكون ما تأخذه من مال اليتيم خبيثا حراما؛ وتعطيه مالك الحلال الذي رزقك الله (تعالى)؛ ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها؛ وهذا يدل على أن ولي اليتيم لا يجوز له أن يستقرض مال اليتيم من نفسه؛ ولا يستبدله فيحبسه لنفسه ويعطيه غيره؛ وليس فيه دلالة على أنه لا يجوز له التصرف فيه بالبيع والشراء لليتيم; لأنه إنما حظر عليه أن يأخذه لنفسه؛ ويعطي اليتيم غيره؛ وفيه الدلالة على أنه ليس له أن يشتري من مال اليتيم لنفسه بمثل قيمته سواء; لأنه قد حظر عليه استبدال مال اليتيم لنفسه؛ فهو عام في سائر وجوه الاستبدال؛ إلا ما قام دليله؛ وهو أن يكون ما يعطي اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه؛ على قول ؛ لقوله (تعالى): أبي حنيفة ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ؛ وقال ؛ سعيد بن المسيب ؛ [ ص: 341 ] والزهري ؛ والضحاك ؛ في قوله: والسدي ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ؛ قال: "لا تجعلوا الزائف بدل الجيد؛ والمهزول بدل السمين"؛ وأما قوله: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ؛ فإنه روي عن ؛ مجاهد : "لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم؛ مضيفين لها إلى أموالكم"؛ فنهوا عن خلطها بأموالهم على وجه الاستقراض؛ لتصير دينا في ذمته؛ فيجوز لهم أكلها؛ وأكل أرباحها. والسدي
قوله (تعالى): إنه كان حوبا كبيرا ؛ قال ؛ ابن عباس ؛ والحسن ؛ ومجاهد : "إثما كبيرا"؛ وفي هذه الآية دلالة على وجوب وقتادة ; لأن الأمر بدفعها مطلق؛ متوعد على تركه؛ غير مشروط فيه مطالبة الأيتام بأدائها؛ ويدل على أن تسليم أموال اليتامى؛ بعد البلوغ؛ وإيناس الرشد؛ إليهم؛ وإن لم يطالبوا بأدائها ؛ لقوله (تعالى): من له عند غيره مال فأراد دفعه إليه؛ أنه مندوب على الإشهاد عليه فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ؛ والله الموفق.