قوله تعالى : ولا الهدي ولا القلائد أما الهدي فإنه يقع على كل ما يتقرب به من الذبائح والصدقات قال النبي صلى الله عليه وسلم : ، فسمى الدجاجة والبيضة هديا ، وأراد به الصدقة . وكذلك قال أصحابنا فيمن قال : " ثوبي هذا هدي " أن عليه أن يتصدق به . إلا أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة ، ثم الذي يليه كالمهدي شاة ، ثم الذي يليه كالمهدي دجاجة ، ثم الذي يليه كالمهدي بيضة الحرم وذبحه فيه ، قال الله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة ؛ وقال تعالى : من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقال : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وأقله شاة عند جميع الفقهاء ؛ فاسم الهدي إذا أطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم .
وقوله : ولا الهدي أراد به ؛ وفيه دلالة على النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم ، وإحلال استباحته لغير ما سيق إليه من القربة ، وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدي إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هديا من جهة نذر أو غيره . وظاهره يمنع جواز الأكل من هدي المتعة والقران لشمول الاسم له ، إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه . حظر الأكل من الهدايا نذرا كان أو واجبا من إحصار أو جزاء صيد
وأما قوله عز وجل : ولا القلائد فإن معناه : لا تحلوا القلائد . وقد روي في تأويل القلائد وجوه عن السلف ، فقال : " أراد الهدي المقلد " . قال ابن عباس : هذا يدل على أن أبو بكر ، والذي يقلد الإبل والبقر ، والذي لا يقلد الغنم ، فحظر تعالى من الهدي ما يقلد ومنه ما لا يقلد . وقال إحلال الهدي مقلدا وغير مقلد : " كانوا إذا أحرموا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر مجاهد الحرم ، فكان ذلك أمنا لهم ، فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا " . وروي نحوه عن في تقليد الناس لحاء شجر الحرم . قتادة
وقال بعض أهل العلم : " أراد به قلائد الهدي بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها " . وروي عن أنه قال : " يقلد الهدي بالنعال ، فإذا لم توجد فالجفاف تقور ثم يجعل في أعناقها ثم يتصدق بها " . وقيل : هو صوف يفتل فيجعل في أعناق الهدي . الحسن
قال : قد دلت الآية على أن أبو [ ص: 293 ] بكر ، وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك ، وإن لم يوجبه بالقول ، فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به . تقليد الهدي قربة
وقد دل أيضا على أن لاحتمال اللفظ لها ، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في البدن التي نحر بعضها قلائد الهدي يجب أن يتصدق بها بمكة وأمر بنحر بعضها ، وقال له : عليا وذلك دليل على أنه تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا ، فإنا نعطيه من عندنا . لأن قوله : لا يجوز ركوب الهدي ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه ؛ ولا الهدي ولا القلائد قد تضمن ذلك كله . وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها ، وهو قوله تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد فلولا كتعلقها بالشهر الحرام ما تعلق بالهدي والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي لله تعالى وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الإخبار عما فيها من المنافع وصلاح الناس وقوامهم .
وروى الحكم عن قال : لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان : مجاهد لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد نسختها : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فإن جاءوك فاحكم بينهم الآية نسختها : وأن احكم بينهم بما أنزل الله قال : يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون بها أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر أبو بكر الحرم ليأمنوا به ، ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدي ؛ لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين بعدهم .
وروى عن مالك بن مغول في قوله تعالى : عطاء ولا القلائد قال : كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا ، فنزلت : لا تحلوا شعائر الله قال : يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية ؛ لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل ، إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر أبو بكر الحرم ، ثم نسخ ذلك من قبل أن الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام .
وأما المشركون فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا ، والمسلمون قد استغنوا عن ذلك ، فلم يبق له حكم ، وبقي حكم قلائد الهدي ثابتا .
وقد حدثنا عبد الله بن [ ص: 294 ] محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا قال : أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن بيان قال : لم تنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية الشعبي يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله .
وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا الحسين بن أبي الربيع قال : أخبرنا قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر في قوله تعالى : قتادة لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام الآية ، قال : منسوخ ؛ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
وروى عن يزيد بن زريع سعيد عن في قوله تعالى : قتادة جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية ، وكان الرجل إذا لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه ، وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناوله ولم يقربه ، وكان الرجل إذا لقي الهدي مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه ، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر تمنعه من الناس ، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء شجر الحرم فمنعت الناس عنه .
وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد الله قال : حدثنا عن عبد الله بن صالح معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن في قوله تعالى : ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قال : كان المسلمون والمشركون يحجون البيت جميعا ، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعد هذا : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقال تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر
وقد روى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال : سألت هل نسخ من " المائدة" شيء ؟ فقال : لا . وهذا يدل على أن قوله تعالى : الحسن ولا آمين البيت الحرام إنما أريد به المؤمنون عند ؛ لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله : الحسن فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقوله أيضا : ولا الشهر الحرام حظر القتال فيه منسوخ بما قدمنا إلا أن يكون عند هذا الحكم ثابتا على نحو ما روي عن الحسن . عطاء