باب قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : أكد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه ، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة عنه فيه ، وأجمع أبو بكر السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه ، وإن كان قد تعرض أحوال من التقية يسع معها السكوت . فمما ذكره الله تعالى حاكيا عن لقمان : يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور يعني والله أعلم : واصبر على ما ساءك من المكروه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وإنما حكى الله تعالى لنا ذلك عن عبده لنقتدي به وننتهي إليه . وقال تعالى فيما مدح به سالف الصالحين من الصحابة : التائبون العابدون إلى قوله : الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وقال تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود محمد بن العلاء وهناد بن السري قالا : حدثنا [ ص: 155 ] عن أبو معاوية عن الأعمش إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد ، وعن عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبي سعيد الخدري . من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان
وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو الأحوص أبو إسحاق عن ابن جرير عن قال : سمعت رسول الله يقول : جرير . فأحكم الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله . وربما ظن من لا فقه له أن ذلك منسوخ أو مقصور الحكم على حال دون حال ، وتأول فيه قول الله تعالى : ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وليس التأويل على ما يظن هذا الظان لو تجردت هذه الآية عن قرينة ؛ وذلك لأنه قال : عليكم أنفسكم يعني : احفظوها لا يضر كم من ضل إذا اهتديتم ؛ ومن الاهتداء اتباع أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا ، فلا دلالة فيها إذا على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد روي عن السلف في تأويل الآية أحاديث مختلفة الظاهر وهي متفقة في المعنى ، فمنها ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن عن إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت قيس بن أبي حازم على المنبر يقول : يا أيها الناس إني أراكم تتأولون هذه الآية : أبا بكر يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ؛ فأخبر إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقابه أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه لا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . أبو بكر
وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عن هشيم أبي بشر عن في هذه الآية : سعيد بن جبير لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال : ( يعني من أهل الكتاب ) ، وقال أبو عبيد : وحدثنا حجاج عن عن ابن جريج في هذه الآية قال : ( من مجاهد اليهود والنصارى ومن ضل من غيرهم ) .
فكأنهما ذهبا إلى أن هؤلاء قد أقروا بالجزية على كفرهم فلا يضرنا [ ص: 156 ] كفرهم ؛ لأنا أعطيناهم العهد على أن نخليهم وما يعتقدون ولا يجوز لنا نقض عهدهم بإجبارهم على الإسلام ، فهذا لا يضرنا الإمساك عنه . وأما ما لا يجوز الإقرار عليه من المعاصي والفسوق والظلم والجور ، فهذا على كل المسلمين تغييره والإنكار على فاعله على ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الذي قدمنا . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال : حدثنا عن ابن المبارك عتبة بن أبي حكيم قال : حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال : حدثنا أبو أمية الشعباني قال : سألت فقلت : يا أبا ثعلبة الخشني كيف تقول في هذه الآية أبا ثعلبة عليكم أنفسكم ؟ فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : وهذا لا دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر ؛ لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة ، وفرض النهي عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السلام : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر ، الصبر فيه كقبض على الجمر للعامل فيها مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قال : وزادني غيره قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذكر كان فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب للتقية ولتعذر تغييره . فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه
وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان ، قال الله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد روي فيه وجه آخر ، وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا أبو مسهر عن عباد الخواص قال : حدثني يحيى بن أبي عمرو الشيباني ، أن أبا الدرداء وكعبا كانا جالسين بالجابية ، فأتاهما آت فقال : لقد رأيت اليوم أمرا كان حقا على من يراه أن يغيره فقال رجل : إن الله تعالى يقول : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال : إن هذا لا يقول شيئا ، ذب عن محارم الله تعالى كما تذب عن عائلتك حتى يأتي تأويلها . فانتبه لها كعب فقال : متى يأتي تأويلها ؟ فقال : إذا هدمت كنيسة أبو الدرداء دمشق وبني [ ص: 157 ] مكانها مسجد فذلك من تأويلها ، وإذا رأيت الكاسيات العاريات فذلك من تأويلها ؛ وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها ، فذلك من تأويلها . قال أبو مسهر : وكان هدم الكنيسة بعهد الوليد بن عبد الملك ؛ أدخلها في مسجد دمشق وزاد في سعته بها .
وهذا أيضا على معنى الحديث الأول في الاقتصار على إنكار المنكر بالقلب دون اليد واللسان للتقية والخوف على النفس ولعمري إن أيام عبد الملك والحجاج والوليد وأضرابهم كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول واليد لتعذر ذلك والخوف على النفس .
وقد حكي أن الحجاج لما مات قال : ( اللهم أنت أمته فاقطع سنته فإنه أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله عز وجل ، يرجل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة ، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل ) ثم قال الحسن : ( هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط ) وقال الحسن : ( خرج الحجاج يوم الجمعة بالهاجرة فما زال يعبر مرة عن أهل عبد الملك بن عمير الشام يمدحهم ومرة عن أهل العراق يذمهم حتى لم نر من الشمس إلا حمرة على شرف المسجد ، ثم أمر المؤذن فأذن فصلى بنا الجمعة ، ثم أذن فصلى بنا العصر ، ثم أذن فصلى بنا المغرب ، فجمع بين الصلوات يومئذ ) .
فهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان .
وقد كان فقهاء التابعين وقراؤهم خرجوا عليه مع ابن الأشعث إنكارا منهم لكفره وظلمه وجوره ، فجرت بينهم تلك الحروب المشهورة وقتل منهم من قتل ووطئهم بأهل الشام حتى لم يبق أحد ينكر عليه شيئا يأتيه إلا بقلبه .
وقد روى في ذلك ما حدثنا ابن مسعود جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج عن عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، أنه ذكر عنده هذه الآية : عبد الله بن مسعود عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال : لم يجئ تأويلها بعد ، إن القرآن أنزل حين أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، وكان منه آي وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب من الجنة والنار ، قال : فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض [ ص: 158 ] فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإذا اختلفت القلوب والأهواء ولبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرأ ونفسه عند ذلك جاء تأويل هذه الآية .
قال : يعني أبو بكر عبد الله بقوله : ( لم يجئ تأويلها بعد ) أن الناس في عصره كانوا ممكنين من تغيير المنكر لصلاح السلطان والعامة وغلبة الأبرار للفجار ، فلم يكن أحد منهم معذورا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان ، ثم إذا جاء حال التقية وترك القبول وغلبت الفجار سوغ السكوت في تلك الحال مع الإنكار بالقلب ؛ وقد يسع السكوت أيضا في الحال التي قد علم فاعل المنكر أنه يفعل محظورا ولا يمكن الإنكار باليد ويغلب في الظن بأنه لا يقبل إذا قتل ، فحينئذ يسع السكوت . وقد روي نحوه عن في تأويل الآية . وحدثنا ابن مسعود جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا قال : أخبرنا هشيم يونس عن عن الحسن في هذه الآية : ابن مسعود عليكم أنفسكم قال : قولوها ما قبلت منكم ، فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم . فأخبر أنه في سعة من السكوت إذا ردت ولم تقبل ، وذلك إذا لم يمكنه تغييره بيده ؛ لأنه لا يجوز أن يتوهم عن ابن مسعود إباحته ترك النهي عن المنكر مع إمكان تغييره . ابن مسعود
حدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عن إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حذيفة بن اليمان . قال والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمكم الله بعقاب من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم أبو عبيد : وحدثنا حجاج عن حمزة الزيات عن أبي سفيان عن قال : جاء رجل إلى أبي نضرة فقال : إني أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين ، قال : وما هما ؟ قال : لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر ، قال : لقد طمست سهمين من سهام الإسلام ، إن شاء الله غفر لك وإن شاء عذبك . قال عمر بن الخطاب أبو عبيد : وحدثنا محمد بن يزيد عن جويبر عن قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى كتبهما الله عز وجل . قال الضحاك أبو عبيد : أخبروني عن قال : حدثت سفيان بن عيينة بحديث ابن شبرمة : ( من فر من اثنين فقد مر ، ومن فر من ثلاثة لم يفر ) فقال : أما أنا فأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا ، لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما أو ينهاهما . ابن عباس
وذهب في ذلك إلى قوله تعالى : ابن عباس فإن يكن منكم مائة صابرة [ ص: 159 ] يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين وجائز أن يكون ذلك أصلا فيما يلزم من تغيير المنكر . وقال في قوله تعالى : مكحول عليكم أنفسكم إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك حينئذ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت ، والله الموفق .