فصل قد تضمنت هذه الآية الدلالة على جواز أهل الذمة بعضهم على بعض ؛ وذلك لأنها قد اقتضت جواز شهادتهم على المسلمين وهي على شهادة أهل الذمة أجوز فقد دلت الآية على جواز شهادتهم على أهل الذمة في الوصية في السفر ؛ ولما نسخ منها جوازها على المسلمين بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله : واستشهدوا شهيدين من رجالكم نفى بذلك جواز شهادة أهل الذمة عليهم ، ونسخ بذلك قوله : أو آخران من غيركم وبقي حكم دلالتها في جوازها على أهل الذمة في الوصية في السفر .
وإذا كان حكمها باقيا في جوازها على أهل الذمة في الوصية في السفر اقتضى ذلك جوازها عليهم في سائر الحقوق ؛ لأن كل من يجيزها على أهل الذمة في الوصية في السفر ومنع جوازها على المسلمين في ذلك أجازها على أهل الذمة في سائر الحقوق .
فإن قال قائل : فإن ابن أبي ليلى والثوري يجيزون شهادة والأوزاعي أهل الذمة على وصية المسلم في السفر على ما روي عن أبي موسى ، ولا يجيزونها على الذمي [ ص: 164 ] في سائر الحقوق . قيل له : قد بينا أنها منسوخة على المسلمين باقية على وشريح أهل الذمة في سائر الحقوق . وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم قول أصحابنا وعثمان البتي ؛ وقال والثوري ابن أبي ليلى والأوزاعي والحسن وصالح : ( تجوز شهادة أهل كل ملة بعضهم على بعض ولا تجوز على ملة غيرها ) . والليث
وقال مالك : ( لا تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض ) . وما ذكرنا من دلالة الآية يقتضي تساوي شهادات أهل الملل بقوله تعالى : والشافعي أو آخران من غيركم يعني غير المؤمنين المبدوء بذكرهم ، ولم تفرق بين الملل . ومن حيث اقتضت جواز شهادة أهل الملل على وصية المسلم في السفر ، وهي دالة أيضا على جواز شهادتهم على الكفار في ذلك مع اختلاف مللهم .
ومما يوجب جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض من جهة السنة ، ما روى عن مالك عن نافع : أن ابن عمر اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلا وامرأة منهم زنيا ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما .
وروى عن الأعمش عبد الله بن مرة عن قال : البراء بن عازب . مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم ، فقال : ما شأن هذا ؟ فقالوا : زنى ، فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى عن جابر أن الشعبي اليهود برجل وامرأة زنيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ائتوني بأربعة منكم يشهدون فشهد أربعة منهم ، فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم وعن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قال : ( يجوز شهادة الشعبي أهل الكتاب بعضهم على بعض ) ، وعن شريح وعمر بن عبد العزيز مثله . والزهري
وقال : خالف ابن وهب معلميه في رد شهادة مالك النصارى بعضهم على بعض ، وكان ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة يجيزونها . وقال ابن أبي عمران من أصحابنا : سمعت يقول : جمعت هذا الباب فما وجدت عن أحد من المتقدمين رد شهادة يحيى بن أكثم النصارى بعضهم على بعض إلا من ربيعة ، فإني وجدت عنه ردها ووجدت عنه إجازتها . قال : قد ذكرنا حكم الآية على الوجوه التي رويت فيها عن أبو بكر السلف وما نسخ منها وما هو منها ثابت الحكم ، فلنذكر الآية على سياقها مع بيان حكمها على ما اقتضاه ترتيبها على السبب الذي نزلت فيه ، فنقول وبالله التوفيق : أن قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم يعتوره معنيان :
أحدهما : شهادة بينكم شهادة اثنين ذوي عدل منكم ؛ فحذف ذكر الشهادة .
الثانية لعلم المخاطبين بالمراد ؛ ويحتمل : عليكم شهادة بينكم ؛ فهو أمر بإشهاد اثنين ذوي عدل ، كقوله تعالى في الدين : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فأفاد الأمر بإشهاد شاهدين عدلين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين على وصية [ ص: 165 ] المسلم في السفر . وكان نزولها على السبب الذي تقدم ذكره من رواية في قصة ابن عباس تميم الداري وعدي بن بداء ، فذكر بعض السبب في الآية ثم قال : إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فجعل شرط قبول شهادة الذميين على الوصية أن تكون في حال السفر . وقوله : حين الوصية قد تضمن أن يكون الشاهدان هما الوصيين ؛ لأن الموصي أوصى إلى ذميين ، ثم جاءا فشهدا بوصية ، فضمن ذلك جواز شهادة الوصيين على وصية الميت . ثم قال : فأصابتكم مصيبة الموت يعني قصة الميت الموصي . قال : تحبسونهما من بعد الصلاة يعني لما اتهمهما الورثة في حبس شيء من مال الميت وأخذه ؛ على ما رواه في قصة عكرمة ، وعلى ما قاله تميم الداري في استحلافه الذميين ما خانا ولا كذبا . فصارا مدعى عليهما ، فلذلك استحلفا لا من حيث كانا شاهدين ، ويدل عليه قوله تعالى : أبو موسى فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله يعني فيما أوصى به الميت وأشهدهما عليه .
ثم قال تعالى : فإن عثر على أنهما استحقا إثما يعني ظهور شيء من مال الميت في أيديهما بعد ذلك ، وهو جام الفضة الذي ظهر في أيديهما من مال الميت فزعما أنهما كانا اشترياه من مال الميت . ثم قال تعالى : فآخران يقومان مقامهما يعني في اليمين لأنهما صارا في هذه الحال مدعيين للشرى ، فصارت اليمين على الورثة ، وعلى أنه لم يكن للميت إلا وارثان فكانا مدعى عليهما ، فلذلك استحلفا ، ألا ترى أنه قال : من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما يعني أن هذه اليمين أولى من اليمين التي حلف بها الوصيان أنهما ما خانا ولا بدلا لأن الوصيين صارا في هذه الحال مدعيين وصار الوارثان مدعى عليهما ، وقد كانا برئا في الظاهر بديا بيمينهما فمضت شهادتهما على الوصية ، فلما ظهر في أيديهما شيء من مال الميت صارت أيمان الوارثين أولى .
وقد اختلف في تأويل قوله تعالى : الأوليان فروي عن قال : معنى الأوليان بالميت يعني الورثة ، وقيل : الأوليان بالشهادة وهي الأيمان في هذا الموضع ؛ وليس في الآية دلالة على إيجاب اليمين على الشاهدين فيما شهدا به ، وإنما أوجبت اليمين عليهما لما ادعى الورثة عليهما الخيانة وأخذ شيء من تركة الميت ، فصار بعض ما ذكر في هذه الآيات من الشهادات أيمانا . سعيد بن جبير
وقال بعضهم: الشهادة على الوصية كالشهادة على الحقوق ، لقوله تعالى : شهادة بينكم لا محالة أريد بها شهادات الحقوق ، لقوله : اثنان ذوا عدل منكم [ ص: 166 ] أو آخران من غيركم وقوله بعد ذلك : فيقسمان بالله لا يحتمل غير اليمين ، ثم قال : فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا يعني بها اليمين ؛ لأن هذه أيمان الوارثين ، وقوله : أحق من شهادتهما يحتمل من يمينهما ويحتمل من شهادتهما ؛ لأن الوصيين قد كان منهما شهادة ويمين وصارت يمين الوارث أحق من شهادة الوصيين ويمينهما لأن شهادتهما لأنفسهما غير جائزة ويميناهما لم توجب تصحيح دعواهما في شراء ما ادعيا شراه من الميت . ثم قال تعالى : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني والله أعلم : بالشهادة على الوصية وأن لا يخونوا ولا يغيروا ، يعني أن ما حكم الله تعالى به من ذلك من الأيمان وإيجابها تارة على الشهود فيما ادعي عليهما من الخيانة وتارة على الورثة فيما ادعى الشهود من شرى شيء من مال الميت ، وأنهم متى علموا ذلك أتوا بالشهادة على وصية الميت على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ولا يقتصروا على أيمانهم ولا يبرئهما ذلك من أن يستحق عليهم ما كتموه وادعوا شراه إذا حلف الورثة على ذلك ؛ والله أعلم .