قوله عز وجل : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم لا يخلو قوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة من أن يكون وجود هذه الأفعال منهم شرطا في زوال القتل عنهم ، ويكون قبول ذلك ، والانقياد لأمر الله تعالى فيه هو الشرط دون وجود الفعل ؛ ومعلوم أن ، ولا خلاف أنهم لو قبلوا أمر الله في فعل الصلاة والزكاة ، ولم يكن الوقت وقت صلاة أنهم مسلمون وأن دماءهم محظورة ، فعلمنا أن شرط زوال القتل عنهم هو قبول أوامر الله ، والاعتراف بلزومها دون فعل الصلاة والزكاة ، ولأن إخراج الزكاة لا يلزم بنفس الإسلام إلا بعد حول ، فغير جائز أن يكون إخراج الزكاة شرطا في زوال القتل ، وكذلك فعل الصلاة ليس بشرط فيه ، وإنما شرطه قبول هذه الفرائض والتزامها والاعتراف بوجوبها . وجود التوبة من الشرك شرط لا محالة في زوال القتل
فإن قيل : لما قال الله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فشرط مع التوبة فعل الصلاة والزكاة ، ومعلوم أن التوبة إنما هي الإقلاع عن الكفر والرجوع إلى الإيمان فقد عقل بذكره التوبة التزام هذه الفرائض ، والاعتراف بها ؛ إذ لا تصح التوبة إلا به ، ثم لما شرط مع التوبة الصلاة والزكاة دل على أن هو اعتقاد الإيمان بشرائطه وفعل الصلاة والزكاة ، فأوجب ذلك قتل تارك الصلاة والزكاة في وقت وجوبهما ، [ ص: 271 ] وإن كان معتقدا للإيمان معترفا بلزوم شرائعه . قيل له : لو كان فعل الصلاة والزكاة من شرائط زوال القتل لما زال القتل عمن أسلم في غير وقت الصلاة ، وعمن لم يؤد زكاته مع إسلامه ، فلما اتفق الجميع على زوال القتل عمن وصفنا أمره بعد اعتقاده للإيمان للزوم شرائعه ثبت بذلك أن فعل الصلاة والزكاة ليس من شرائط زوال القتل ، وأن شرطه إظهار الإيمان ، وقبول شرائعه ، ألا ترى أن قبول الإيمان ، والتزام شرائعه لما كان شرطا في ذلك لم يزل عنه القتل عند إخلاله ببعض ذلك . المعنى المزيل للقتل
وقد كانت الصحابة سبت ذراري مانعي الزكاة ، وقتلت مقاتلتهم ، وسموهم أهل الردة لأنهم امتنعوا من التزام الزكاة وقبول وجوبها فكانوا مرتدين بذلك ؛ لأن من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله ، وعلى ذلك أجرى حكمهم مع سائر الصحابة حين قاتلوهم . ويدل على أنهم مرتدون بامتناعهم من قبول فرض الزكاة ما روى أبو بكر الصديق عن معمر عن الزهري قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أنس العرب كافة فقال : يا عمر أتريد أن تقاتل أبا بكر العرب كافة فقال : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر محمدا رسول الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة منعوني دماءهم وأموالهم . والله لو منعوني عقالا مما كانوا يعطون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه . إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن
وروى عن مبارك بن فضالة قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت الحسن العرب عن الإسلام إلا أهل المدينة ، فنصب لهم الحرب فقالوا : فإذا نشهد أن لا إله إلا الله ونصلي ولا نزكي ، فمشى أبو بكر ، والبدريون إلى عمر ، وقالوا : دعهم فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدوا فقال : والله لو منعوني عقالا مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وقال الله تعالى : أبي بكر فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم والله لا أسأل فوقهن ، ولا أقصر دونهن فقالوا له : يا نحن نزكي ، ولا ندفعها إليك ، فقال : لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضعها مواضعها ، وروى أبا بكر عن حماد بن زيد أيوب عن مثله ، وروى محمد بن سيرين عن الزهري عبيد الله بن عبد الله عن قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبي هريرة ، وارتد من ارتد من أبو بكر العرب ، بعث لقتال من ارتد عن الإسلام ، فقال له أبو بكر : يا عمر ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبا بكر فقال : لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه فأخبر جميع هؤلاء الرواة أن الذين ارتدوا من أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا فعلوا ذلك عصموا [ ص: 272 ] مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ؟ العرب إنما كان ردتهم من جهة امتناعهم من أداء الزكاة ، وذلك عندنا على أنهم امتنعوا من أداء الزكاة على جهة الرد لها وترك قبولها ، فسموا مرتدين من أجل ذلك ، وقد أخبر أيضا في حديث أبو بكر الصديق أنه يقاتلهم على ترك الأداء إليه ، وإن كانوا معترفين بوجوبها ؛ لأنهم قالوا بعد ذلك نزكي ، ولا نؤديها إليك ، فقال : لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك ضربان من الدلالة : الحسن
أحدهما : أن ، فثبت أن من أدى صدقة مواشيه إلى الفقراء أن الإمام لا يحتسب له بها ، وأنه متى امتنع من دفعها إلى الإمام قاتله عليها ، وكذلك قال أصحابنا في صدقات المواشي . وأما زكاة الأموال فإن النبي صلى الله عليه وسلم مانع الزكاة على وجه ترك التزامها والاعتراف بوجوبها مرتد ، وأن مانعها من الإمام بعد الاعتراف بها يستحق القتال وأبا بكر قد كانوا يأخذونها كما يأخذون صدقات المواشي ، فلما كان أيام وعمر خطب الناس فقال : هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل الأداء إلى أرباب الأموال ، وصاروا بمنزلة الوكلاء للإمام في أدائها . وهذا الذي فعله عثمان في مانعي الزكاة بموافقة الصحابة إياه كان من غير خلاف منهم بعدما تبينوا صحة رأيه واجتهاده في ذلك . ويحتج من أوجب أبو بكر بهذه الآية ، وزعم أنها توجب قتل المشرك إلا أن يؤمن ، ويقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة . وقد بينا المعنى في قوله تعالى : قتل تارك الصلاة ، ومانع الزكاة عامدا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأن المراد قبول لزومهما ، والتزام فرضهما دون فعلهما . وأيضا فليس في الآية ما ادعوا من الدلالة على ما ذهبوا إليه ، من قبل أنها إنما أوجبت قتل المشركين ، ومن تاب من الشرك ، ودخل في الإسلام والتزم فروضه ، وأقر بها فهو غير مشرك باتفاق ، فلم تقتض الآية قتله ؛ إذ كان حكمها مقصورا في إيجاب القتل على من كان مشركا وتارك الصلاة ، ومانع الزكاة ليس بمشرك فإن قالوا : إنما أزال القتل عنه بشرطين ، أحدهما : التوبة ، وهي الإيمان ، وقبول شرائعه ، والوجه الثاني : فعل الصلاة ، وأداء الزكاة . قيل : له : إنما أوجب بديا قتل المشركين بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين فمتى زالت عنهم سمة الشرك فقد وجب زوال القتل ، ويحتاج في إيجابه إلى دلالة أخرى من غيره .
فإن قال : هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر الشرطين في الآية . قيل له : ليس الأمر على ما ظننت ؛ وذلك [ ص: 273 ] لأن الله تعالى إنما جعل هذين القربين من فعل الصلاة وإيتاء الزكاة شرطا في وجوب تخلية سبيلهم ؛ لأنه قال : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وذلك بعد ذكره القتل للمشركين بالحصر ، فإذا زال القتل بزوال سمة الشرك فالحصر والحبس باق لترك الصلاة ، ومنع الزكاة لأن من ترك الصلاة عامدا ، وأصر عليه ، ومنع الزكاة جاز للإمام حبسه ، فحينئذ لا يجب تخليته إلا بعد فعل الصلاة وأداء الزكاة ، فانتظمت الآية حكم إيجاب . قتل المشرك ، وحبس تارك الصلاة ومانع الزكاة بعد الإسلام حتى يفعلهما