وقد أفاد قوله : إنما المشركون نجس منعهم عن دخول المسجد إلا لعذر ، إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس وقوله تعالى : فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا قد تنازع معناه أهل العلم ، فقال مالك : { لا يدخل المشرك والشافعي المسجد الحرام } قال : [ ص: 279 ] { ولا غيره من المساجد إلا لحاجة من نحو الذمي يدخل إلى الحاكم في المسجد للخصومة } . وقال مالك : { يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة } . وقال أصحابنا : { يجوز للذمي دخول سائر المساجد } ، وإنما معنى الآية على أحد وجهين : إما أن يكون النهي خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول الشافعي مكة ، وسائر المساجد ؛ لأنهم لم تكن لهم ذمة ، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وهم مشركو العرب ، أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ؛ ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها فيما روى أبو بكر عن الزهري حميد بن عبد الرحمن عن أن أبي هريرة بعثه فيمن يؤذن يوم النحر أبا بكر بمنى : أن لا يحج بعد العام مشرك ، فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشرك , فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه إلى المشركين : أبو بكر يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس الآية ، وفي حديث حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ عنه سورة براءة نادى : ولا يحج بعد العام مشرك ، وفي ذلك دليل على المراد بقوله : علي فلا يقربوا المسجد الحرام ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة : وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء وإنما كانت خشية العيلة لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج ؛ لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج ، فدل ذلك على أن مراد الآية الحج .
ويدل عليه اتفاق المسلمين على بعرفة والمزدلفة ، وسائر أفعال الحج ، وإن لم يكن في المسجد ، ولم يكن منع المشركين من الحج والوقوف أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع ، ثبت أن مراد الآية هو الحج دون قرب المسجد لغير الحج ؛ لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما في سائر المشركين ، وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصا في ذلك دون قرب المسجد ، والذي في الآية النهي عن قرب المسجد ، فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه .
وقد روى عن حماد بن سلمة حميد عن عن الحسن : عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبة في المسجد ، فقالوا : يا رسول الله قوم أنجاس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه ليس على الأرض من أنجاس شيء إنما أنجاس الناس على أنفسهم . وروى يونس عن عن الزهري : أن سعيد بن المسيب أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام لقول الله تعالى : فلا يقربوا المسجد الحرام قال : فأما وفد أبو بكر ثقيف فإنهم جاءوا بعد فتح مكة [ ص: 280 ] إلى النبي صلى الله عليه وسلم والآية نزلت في السنة التي حج فيها ، وهي سنة تسع ، فأنزلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد ، وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا يمنع الكافر من دخول المسجد . وأما أبو بكر أبو سفيان فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتجديد الهدنة ، وذلك قبل الفتح ، وكان أبو سفيان مشركا حينئذ ، والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب المسجد الحرام ، ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المساجد .
فإن قيل : لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك ، لقوله تعالى : فلا يقربوا المسجد الحرام ولما روى زيد بن يثيع عن رضي الله عنه أنه نادى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم : علي لا يدخل الحرم مشرك . قيل له : إن صح هذا اللفظ فالمراد أن لا يدخله للحج .
وقد روي في أخبار عن أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك ، وكذلك في حديث علي ، فثبت أن المراد دخول أبي هريرة الحرم للحج . وقد روى عن شريك أشعث عن عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : جابر بن عبد الله لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا أن يكون عبدا أو أمة يدخله لحاجة فأباح دخول العبد والأمة للحاجة لا للحج ، وهذا يدل على أن الحر الذمي له دخوله لحاجة ، إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر ، وإنما خص العبد والأمة ، والله أعلم بالذكر ؛ لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحج . وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا : أخبرنا عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج أنه سمع أبو الزبير يقول في قوله تعالى : جابر بن عبد الله إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام إلا أن يكون عبدا أو واحدا من أهل الذمة فوقفه على أبو الزبير ، وجائز أن يكونا صحيحين فيكون جابر قد رفعه تارة ، وأفتى بها أخرى . جابر
وروى عن ابن جريج قال : لا يدخل المشرك وتلا قوله تعالى : عطاء فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ؛ قال : المسجد الحرام الحرم كله . قال عطاء . ابن جريج :
وقال لي مثل ذلك . قال عمرو بن دينار : والحرم كله يعبر عنه بالمسجد ، إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد ، وقال الله تعالى : أبو بكر والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد والحرم كله مراد به ، وكذلك قوله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق قد أريد به الحرم كله ؛ لأنه في أي الحرم نحر البدن أجزأه ، فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى : فلا يقربوا المسجد الحرام الحرم كله للحج ، إذ [ ص: 281 ] كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم كله في حكم المسجد لما وصفنا ، فعبر عن الحرم بالمسجد ، وعبر عن الحج بالحرم . ويدل على أن المراد بالمسجد هاهنا الحرم قوله تعالى : إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ومعلوم أن ذلك كان بالحديبية ، وهي على شفير الحرم ؛ وذكر المسور بن مخرمة أن بعضها من الحل وبعضها من الحرم . ومروان بن الحكم
فأطلق الله تعالى عليها أنها عند المسجد الحرام ، وإنما هي عند الحرم ، وإطلاقه تعالى اسم النجس على المشركين يقتضي اجتنابهم ، وترك مخالطتهم ، إذ كانوا مأمورين باجتناب الأنجاس . وقوله تعالى : بعد عامهم هذا فإن ذكر أن المراد العام الذي حج فيه قتادة فتلا أبو بكر الصديق سورة براءة ، وهو لتسع مضين من الهجرة ، وكان بعده حجة الوداع سنة عشر . قوله تعالى : علي وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء فإن العيلة الفقر ، يقال : عال يعيل إذا افتقر ؛ قال الشاعر :
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وقال مجاهد : كانوا خافوا انقطاع المتاجر بمنع المشركين ، فأخبر الله تعالى أنه يغنيهم من فضله فقيل : إنه أراد الجزية المأخوذة من المشركين ، وقيل : أراد الإخبار بإبقاء المتاجر من جهة المسلمين ؛ لأنه كان عالما أن وقتادة العرب ، وأهل بلدان العجم سيسلمون ، ويحجون فيستغنون بما ينالون من منافع متاجرهم عن حضور المشركين ، وهو نظير قوله تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد الآية ، فأخبر تعالى عما في حج البيت والهدي والقلائد من منافع الناس ومصالحهم في دنياهم ودينهم ، وأخبر في قوله : وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله عما ينالون من الغنى بحج المسلمين ، وإن كانوا قليلين في وقت نزول الآية . وإنما علق الغنى بالمشيئة لمعنيين كل واحد منهما جائز أن يكون مرادا :أحدهما : أنه لما كان منهم من يموت ، ولا يبلغ . هذا الغنى الموعود به علقه بشرط المشيئة ، والثاني : لينقطع الآمال إلى الله في إصلاح أمور الدنيا والدين ، كما قال الله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين