باب جلود الميتة إذا دبغت قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة والدم وقوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما يقتضي تحريم الميتة بجميع أجزائها ، وجلدها من أجزائها ؛ لأنه قد حله الموت بدلا من الحياة التي كانت فيه . إلا أن قوله : على طاعم يطعمه قد دل على الاقتصار بالتحريم على ما يتأتى فيه الأكل .
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في جلد الميتة بعد الدباغ بقوله : إنما حرم أكلها وقد اختلف الفقهاء في حكم جلد الميتة بعد الدباغ ، فقال وإنما حرم لحمها وأصحابه أبو حنيفة والحسن بن صالح وسفيان الثوري وعبيد الله بن الحسن العنبري والأوزاعي : " يجوز بيعه بعد الدباغ والانتفاع به " قال والشافعي : إلا جلد الكلب والخنزير . الشافعي
وأصحابنا لم يفرقوا بين جلد الكلب وغيره ، وجعلوه طاهرا بالدباغ إلا جلد الخنزير خاصة . وقال : " ينتفع بجلود الميتة في الجلوس عليها ويغربل عليها ولا تباع ولا يصلى عليها " . مالك
وقال : " لا بأس ببيع جلود الميتة قبل الدباغ إذا بينت أنها ميتة " . والحجة لمن طهرها وجعلها مذكاة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الآثار المتواترة من الوجوه المختلفة بألفاظ مختلفة كلها يوجب طهارتها والحكم بذكاتها ، فمنها حديث الليث بن سعد قال : ابن عباس وحديث أيما إهاب دبغ فقد طهر عن الحسن الجون بن قتادة عن سلمة بن المحبق : تبوك على بيت بفنائه قربة معلقة فاستسقى فقيل : إنها ميتة ، فقال : ذكاة الأديم دباغته . أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى في غزوة
وروى عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : زيد بن ثابت دباغ جلود الميتة طهورها وسماك عن عن عكرمة قالت : سودة بنت زمعة كانت لنا شاة فماتت فطرحناها ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما فعلت شاتكم ؟ فقلنا : رميناها ، فتلا قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية ، أفلا استمتعتم بإهابها فبعثنا إليها فسلخناها ودبغنا جلدها وجعلناه سقاء وشربنا فيه حتى صار شنا .
وقالت : أم سلمة فقال : ما على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها ميمونة مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة عن والزهري عبيد الله بن عبد الله عن عن ابن عباس قالت : ميمونة في غير ذلك من الأخبار ، كلها يوجب مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة لهم ميتة فقال : ألا دبغوا إهابها فانتفعوا به فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة ، فقال : إنما حرم من الميتة أكلها ، كرهت الإطالة بذكرها وهذه الأخبار كلها متواترة موجبة للعلم والعمل ، قاضية على الآية من وجهين : طهارة جلد الميتة [ ص: 143 ] بعد الدباغ
أحدهما : ورودها من الجهات المختلفة التي يمنع مثلها التواطؤ والاتفاق على الوهم أو الغلط .
والثاني : جهة تلقي الفقهاء إياها بالقبول واستعمالهم لها . فثبت بذلك أنها مستعملة مع آية تحريم الميتة وأن المراد بالآية تحريمها قبل الدباغ ، وما قدمنا من دلالة قوله : على طاعم يطعمه أن المراد بالآية فيما يتأتى فيه الأكل ، والجلد بعد الدباغ خارج عن حد الأكل ، فلم يتناوله التحريم ، ومع ذلك فإن هذه الأخبار لا محالة بعد تحريم الميتة ، لولا ذلك لما رموا بالشاة الميتة ولما قالوا : إنها ميتة ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليقول : فدل ذلك على أن تحريم الميتة مقدم على هذه الأخبار ، وأن هذه الأخبار مبينة أن الجلد بعد الدباغ غير مراد بالآية ، ولما وافقنا إنما حرم أكلها على جواز الانتفاع به بعد الدباغ فقد استعمل الأخبار الواردة في طهارتها ، ولا فرق في شيء منها بين افتراشها والصلاة عليها وبين أن تباع أو يصلى عليها ، بل في سائر الأخبار أن دباغها ذكاتها ، ودباغها طهورها . مالك
وإذا كانت مذكاة لم يختلف حكم الصلاة عليها وبيعها وحكم افتراشها والجلوس عليها كسائر جلود الحيوان المذكاة ، ألا ترى أنها قبل الدباغ باقية على حكم التحريم في امتناع جواز الانتفاع بها من سائر الوجوه كالانتفاع بلحومها ؟ فلما اتفقنا على خروجها عن حكم الميتة بعد الدباغ فيما وصفنا ثبت أنها مذكاة طاهرة بمنزلة ذكاة الأصل .
ويدل على ذلك أيضا أن التحريم متعلق بكونها مأكولة ، وإذا خرج عن حد الأكل صار بمنزلة الثوب والخشب ونحو ذلك . ويدل على ذلك أيضا موافقة إيانا على جواز مالك لامتناع أكله ، وذلك موجود في الجلد بعد الدباغ فوجب أن يكون حكمه حكمها . الانتفاع بشعر الميتة وصوفها
فإن قيل : إنما جاز ذلك في الشعر والصوف ؛ لأنه يؤخذ منه في حال الحياة . قيل له : ليس يمتنع أن يكون ما ذكرنا علة الإباحة ، وكذلك ما ذكرت ، فيكون للإباحة علتان : إحداهما : أنه لا يتأتى فيه الأكل ، والأخرى : أنه يؤخذ منه في حال الحياة فيجوز الانتفاع به ؛ لأن موجبهما حكم واحد . ومتى عللناه بما وصفناه وجب قياس الجلد عليه .
وإذا عللته بما وصفت كان مقصور الحكم على المعلول ، وقد روى الحكم عن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : عبد الله بن عكيم فاحتج بذلك من حظر جلد الميتة بعد الدباغ وغير جائز معارضة الأخبار الواردة في الإباحة [ ص: 144 ] بهذا الخبر من وجوه : قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب
أحدها : أن الأخبار التي قدمناها في حيز التواتر الموجب للعلم ، وحديث ورد من طريق الآحاد ، وقد روى عبد الله بن عكيم عاصم بن علي عن عن قيس بن الربيع عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : " كتب إلينا عبد الله بن عكيم أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " فذكر في هذا الحديث أن عمر بن الخطاب كتب إليهم بذلك ، فلا يجوز معارضة الأخبار التي قدمنا بمثله . عمر
ومن جهة أخرى أنهما لو تساويا في النقل لكان خبر الإباحة أولى لاستعمال الناس له وتلقيهم إياه بالقبول .
ووجه آخر : وهو أن خبر لو انفرد عن معارضة الأخبار التي قدمنا لم يكن فيه ما يوجب تحريم الجلد بعد الدباغ ؛ لأنه قال : " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " وهو إنما يسمى إهابا قبل الدباغ ، والمدبوغ لا يسمى إهابا وإنما يسمى أديما فليس إذا في هذا الخبر ما يوجب تحريمه بعد الدباغ . عبد الله بن عكيم
وأما قول في إباحة بيع جلد الميتة قبل الدباغ فقول خارج عن اتفاق الفقهاء لم يتابعه عليه أحد ، ومع ذلك هو مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم : الليث بن سعد ؛ لأنه قبل الدباغ يسمى إهابا . لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب
والبيع من وجوه الانتفاع ، فوجب أن يكون محظورا بقوله : قال لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب : فإن قال قائل : قوله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر يدل على أن التحريم مقصور على الأكل دون البيع قيل له : فينبغي أن تجيز بيع لحمها بقوله : إنما حرم من الميتة أكلها فإذا لم يجز بيع اللحم مع قوله : " إنما حرم أكلها " كذلك حكم الجلد قبل الدباغ فإن قال قائل : منعت بيع اللحم بقوله : " إنما حرم أكلها " قيل له : وامنع بيع الجلد بقوله : إنما حرم أكلها حرمت عليكم الميتة ؛ لأنه لم يفرق بين الجلد واللحم وإنما خص من جملته المدبوغ منه دون غيره .
وأيضا فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإذا كان الجلد محرم الأكل قبل الدباغ كتحريم اللحم ، وجب أن لا يجوز بيعه كبيع اللحم نفسه وكبيع سائر المحرمات لأعيانها كالخمر والدم ونحوهما . لعن الله
وأما فيلحقه الدباغ ويطهر إذا كان ميتة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : جلد الكلب وقال : أيما إهاب دبغ فقد طهر ولم يفرق بين الكلب وغيره ولأنه تلحقه الذكاة عندنا لو ذبح لكان طاهرا . دباغ الأديم ذكاته
فإن قيل : إذا كان نجسا في حال الحياة كيف يطهر بالدباغ ؟ قيل له : كما يكون جلد الميتة نجسا ويطهره الدباغ ؛ لأن الدباغ ذكاته كالذبح .
؛ لأنه محرم العين بمنزلة الخمر والدم [ ص: 145 ] فلا تعمل فيه الذكاة ، ألا ترى أنه لا يجوز الانتفاع به في حال الحياة والكلب يجوز الانتفاع به في حال الحياة ؟ فليس هو محرم العين ، والله أعلم . وأما الخنزير فلا تلحقه الذكاة