أما المقام الأول: فإن وأن الخلق كلهم إذا حزبهم شدة أو حاجة في أمر وجهوا قلوبهم إلى الله يدعونه ويسألونه، وأن هذا أمر متفق عليه بين الأمم التي لم تغير فطرتها، لم يحصل بينهم بتواطؤ واتفاق. ولهذا يوجد هذا في فطرة الأعراب والعجائز والصبيان، من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين، ومن لم يقرأ كتابا ولم يتلق مثل هذا عن معلم ولا أستاذ. وهذا القدر ما زال يذكره المصنفون في هذا الباب، من أهل الكلام والحديث وغيرهم. المثبتين قالوا: إنهم يعلمون بالبديهة امتناع وجود موجودين لا يكون أحدهما ساريا في الآخر ولا مباينا له بالجهة، وأنه لا يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه، بل قد يقولون: إن علمهم بأن الله فوق العالم علم ضروري فطري،
قالوا: وإذا كان مما يجيز هؤلاء الذين لم يتواطؤوا بثبوته عندهم كانوا صادقين، فإنه يمتنع على الجمع الكثير الكذب من غير تواطؤ، وبمثل هذا علم ثبوت ما يخبر به أهل التواتر مما يعلم بالحس والضرورة، فإن المخبر إذا لم يكن خبره مطابقا، فإما أن يكون متعمدا للكذب، وإما أن يكون مخطئا، وتعمد الكذب يمتنع في العادة على الجمع الكثير من غير تواطؤ، والخطأ على الجمع الكثير ممتنع في [ ص: 13 ] الأمور الحسية والضرورية. قالوا: وهذا بخلاف إثبات موجودين ليس أحدهما داخلا في الآخر، ولا خارجا عنه، فإن هذا لا تقوله إلا طائفة يذكرون أنهم علموا ذلك بالنظر لا بالضرورة، وقد تلقاه بعضهم عن بعض، فهو قول تواطؤوا عليه، ولهذا لا يقول ذلك من لم ينظر في كلام النفاة.