ونحن نذكر ما ذكره في هذا الأصل وتتكلم عليه قال في كتابه الكبير المسمى "أبكار الأفكار" : المسألة الرابعة من النوع الرابع الذي سماه أبو الحسن الآمدي : إبطال التشبيه في بيان امتناع حلول الحوادث بذاته تبارك وتعالى
قال : "وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل [ ص: 19 ] النزاع ، فنقول : المراد بالحادث المتنازع فيه الموجود بعد العدم ، كان ذاتا قائمة بنفسها ، أو صفة لغيره كالأعراض ، وأما ما لا وجود له كالعدم ، أو الأحوال عند القائلين بها ، فإنها غير موصوفة بالوجود ولا بالعدم ، كالعالمية والقادرية والمريدية ونحو ذلك ، أو النسب والإضافات ، فإنها عند المتكلم أمور وهمية لا وجود لها ، فما تحقق من ذلك بعد أن لم يكن فيقال له : متجدد ، ولا يقال له : حادث" .
قال : "وعند هذا فنقول : العقلاء ، من أرباب الملل وغيرهم ، متفقون على استحالة قيام الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى [غير المجوس والكرامية فإنهم اتفقوا على جواز ذلك] .
غير أن الكرامية لم يجوزوا قيام كل حادث بذات الرب تعالى ، بل قال أكثرهم : هو ما يفتقر إليه في الإيجاد والخلق ، ثم اختلفوا في هذا الحادث فمنهم من قال : هو قوله "كن" ، ومنهم من قال : هو [ ص: 20 ] الإرادة ، فخلق الإرادة أو القول في ذاته يستند إلى القدرة القديمة ، لا أنه حادث بإحداث ، وأما خلق باقي المخلوقات فمستند إلى الإرادة أو القول ، على اختلاف مذهبهم ، فالمخلوق القائم بذاته يعبرون عنه بالحادث ، والخارج عن ذاته يعبرون عنه بالمحدث ، ومنهم من زاد على ذلك حادثين آخرين ، وهما السمع والبصر" .
قال : "وأجمعت الكرامية على أن ما قام بذاته من الصفات الحادثة لا يتجدد له منها اسم ، ولا يعود إليه منها حكم ، حتى لا يقال : إنه قائل بقول ، ولا مريد بإرادة ، بل قائل بالقائلية ، ومريد بالمريدية ، ولم يجوزوا عليه إطلاق اسم متجدد لم يكن فيما لا يزال ، بل قالوا أسماؤه كلها أزلية ، حتى في الخالق والرازق ، وإن لم يكن في الأزل خلق ولا رزق" .
[ ص: 21 ] قال : "وأما ما كان من الصفات المتجددة التي لا وجود لها في الأعيان ، فما كان منها حالا فقد اتفق المتكلمون على امتناع اتصاف الرب به ، غير أبي الحسين البصري فإنه قال : تتجدد عالميات لله تعالى بتجدد المعلومات ، وما كان من النسب والإضافات والتعلقات ، فمتفق بين أرباب العقول على جواز اتصاف الرب تعالى بها ، حتى يقال إنه موجود مع العالم بعد أن لم يكن ، وإنه خالق العالم بعد أن لم يكن . وما كان من الأعدام والسلوب . فإن كان سلب أمر يستحيل تقدير وجوده لله تعالى ، فلا يكون متجددا بالإجماع ، مثل كونه غير جسم ولا جوهر ولا عرض ، إلى غير ذلك . وإن كان سلب أمر لا يستحيل تقدير اتصاف الرب به كالنسب والإضافات ، فغير ممتنع أن يتصف به الرب تعالى بعد أن [ ص: 22 ] لم يكن بالاتفاق ، فإنه إذا كان الحادث موجودا صح أن يقال : الرب تعالى موجود مع وجوده ، وتنعدم هذه المعية عند فرض عدم ذلك الحادث فيتجدد له صفة سلب بعد أن لم تكن" .
قلت : قد ذكر أن لفظ "الحادث" مرادهم به الموجود بعد العدم ، سواء كان قائما بنفسه كالجوهر ، أو صفة لغيره كالأعراض ، وسمي ما ليس بموجود كالأحوال والسلوب والإضافات متجددات ، وهذا الفرق أمر اصطلاحي ، وإلا فلا فرق بين معنى المتجدد ومعنى الحادث .
وأيضا فإن "الأحوال" عند القائلين بها ، منهم من يقول بوجودها ، وقالوا : يصح أن تكون معلومة تبعا لغيرها ، وأن يكون وجودها تبعا لغيرها .
وخالفوا أبا هاشم في قوله : ليست معلومة ولا مجهولة ، ولا موجودة ولا معدومة .
وأيضا فالنسب والإضافات عند الفلاسفة قد تكون وجودية ، وأما المذاهب فيقال : لفظ "الحوادث" "والمتجددات" في لغة العرب يتناول أشياء كثيرة ، وربما أفهم أو أوهم في العرف [ ص: 23 ] استحالات كالأمراض والغموم والأحزان ونحوها ، إذا قيل : فلان حدث به حادث . وكثير منهم يعبر بالأحداث عن المعاصي والذنوب ونحو ذلك ، كما قد عرف هذا .
وأما مورد النزاع أنه : هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته ، إما من باب الأفعال كالاستواء إلى غيره والاستواء عليه ، والإتيان والمجيء والنزول ونحو ذلك ، وإما من باب الأقوال والكلمات ، وإما من باب الأحوال كالفرح والغضب والإرادات والرضا والضحك ونحو ذلك ، وإما من باب العلوم والإدراكات كالسمع والبصر والعلم بالموجود بعد العلم بأنه سيوجد . وإذا كان كذلك فقوله : "إن العقلاء من أرباب الملل وغيرهم متفقون على استحالة ذلك غير أن الكرامية ..... إلى آخره" ليس بنقل مطابق .
أما أهل الملل فلا يضاف إليهم من حيث هم أرباب ملة إلا ما ثبت عن صاحب الملة ، صلوات الله عليه وسلامه ، أو ما أجمع عليه أهل العلم ، وأما ما قاله بعض أهل الملة برأيه أو استنباطه ، مع منازعة غيره له ، فلا يجوز إضافته إلى الملة .
ومن المعلوم أنه لا يمكن أحد أن ينقل عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا عن إخوانه المرسلين كموسى وعيسى صلوات الله عليهما ، ما يدل على قول النفاة لا نصا ولا ظاهرا ، بل الكتب الإلهية [ ص: 24 ] المتواترة عنهم والأحاديث المتواترة عنهم تدل على نقيض قول النفاة وتوافق قول أهل الإثبات .
وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتابعون لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين أرباب المذاهب المشهورة ، وشيوخ المسلمين المتقدمين ، لا يمكن أحد أن ينقل نقلا صحيحا عن أحد منهم بما يوافق قول النفاة ، بل المنقول المستفيض عنهم يوافق قول أهل الإثبات ، فنقل مثل هذا عن أهل الملة خطأ ظاهر .
ولكن أهل الكلام والنظر من أهل الملة تنازعوا في هذا الأصل لما حدث في أهل الملة مذهب الجهمية نفاة الصفات ، وذلك بعد المائة الأولى ، في أواخر عصر التابعين ، ولم يكن قبل هذا يعرف في أهل الملة من يقول بنفي الصفات ، ولا بنفي الأمور الاختيارية القائمة بذاته .
فلما حدث هذا القول وقالت به المعتزلة ، وقالوا : لا تحل به الأعراض والحوادث ، وأرادوا بذلك أنه لا تقوم به صفة كالعلم والقدرة ، ولا فعل كالخلق والاستواء ، أنكر أئمة السلف ذلك عليهم كما هو متواتر معروف .