قال : "مسألة في تعجيزهم عن أبو حامد فنقول: هذا إنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث ، من حيث إنه لا يخلو عن الحوادث ، وكل حادث فيفتقر إلى محدث. فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما لا أول لوجوده ، مع أنه لا يخلو عن الحوادث، فلم يمتنع أن يكون الأول جسما: إما الشمس وإما الفلك الأقصى وإما غيره ؟ فإن قيل : لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين بالكمية، وإلى الهيولى والصورة بالقسمة المعنوية، وإلى أوصاف يختص بها لا محالة، حتى يباين سائر [ ص: 285 ] الأجسام ، وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام ، وواجب الوجود واحد لا يقبل القسمة بهذه الوجوه . إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم
قلنا: وقد أبطلنا هذا عليكم ، وبينا أنه لا دليل لكم عليه، سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولا، وقد تكلمنا عليه وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجود له، لم يبعد تقدير مركب لا مركب له، وتقدير موجودات لا موجد لها، إذ نفي العدد والتثنية بنيتموه على نفي التركيب، ونفي التركيب على نفي الماهية ، سوى الوجود وما هو الأساس الأخير فقد استأصلناه وبينا تحكمكم فيه .
فإن قيل : الجسم إن لم يكن له نفس لا يكون فاعلا ، وإن كان له نفس فنفسه علة له، فلا يكون الجسم أولا .
قلنا: أنفسنا ليست علة لوجود أجسامنا ، ولا نفس الفلك بمجردها علة لوجود جسمه عندكم ، بل هما يوجدان بعلة سواهما ، فإذا جاز وجودهما قديما جاز أن لا يكون لهما علة . [ ص: 286 ]
فإن قيل : كيف اتفق اجتماع النفس والجسم ؟
قلنا: هو كقول القائل: كيف اتفق وجود الأول؟ فيقال: هذا سؤال عن حادث، فأما ما لم يزل موجودا فلا يقال: كيف اتفق؟ فكذلك الجسم ونفسه ، إذا لم يزل كل واحد منهما موجودا لم يبعد أن يكون صانعا .
فإن قيل : لأن الجسم -من حيث إنه جسم- لا يخلق غيره ، والنفس المتعلقة بالجسم لا تفعل إلا بواسطة الجسم ، ولا يكون الجسم واسطة للنفس في خلق الأجسام ، ولا في إبداع النفوس ، والأشياء لا تناسب الأجسام .
قلنا: ولم لا يجوز أن يكون في النفوس نفس تختص بخاصية تتهيأ بها لأن توجد الأجسام وغير الأجسام منها، فاستحالة ذلك لا تعرف ضرورة، ولا برهان يدل عليه، إلا أنه لم يشاهد من هذه الأجسام المشاهدة ، وعدم المشاهدة لا يدل على الاستحالة، فقد [ ص: 287 ] أضافوا إلى الموجود الأول ما لا يضاف إلى موجود أصلا ، ولم يشاهد من غيره ، وعدم المشاهدة من غيره لا يدل على استحالته منه، فكذا في نفس الجسم والجسم .
فإن قيل : الفلك الأقصى أو الشمس ، أو ما قدر من الأجسام، فهو متقدر بمقدار يجوز أن يزيد عليه وينقص منه، فيفتقر اختصاصه بذلك المقدار الجائز إلى مخصص، فلا يكون أولا .
قلنا: بم تنكرون على من يقول : إن ذلك الجسم يكون على مقدار يجب أن يكون عليه لنظام الكل ، ولو كان أصغر منه أو أكبر لم يجز ، كما أنكم قلتم: إن المعلول الأول يفيض الجرم الأقصى منه، متقدرا بمقدار ، وسائر المقادير بالنسبة إلى ذات المعلول الأول متساوية ، ولكن يعين بعض المقادير ليكون النظام متعلقا به، فيوجب المقدار الذي وقع ولم يجز خلافه. فكذلك إذا قدر غير معلول . بل لو أثبتوا في المعلول الأول -الذي هو علة الجرم الأقصى عندهم- [ ص: 288 ] مبدأ للتخصيص، مثل إرادة مثلا لم ينقطع السؤال ، إذ يقال: ولم أراد هذا المقدار دون غيره؟ كما ألزموه على المسلمين في إضافتهم الأشياء إلى الإرادة القديمة ، وقد قلبنا عليهم ذلك في تعين جهة حركة السماء ، وفي تعيين نقطتي القطبين. فإذا ظهر أنهم مضطرون إلى تجويز تمييز الشيء عن مثله في الوقوع بعلة، فتجويزه بغير علة كتجويزه بعلة، إذ لا فرق بين أن يتوجه السؤال في نفس الشيء فيقال: لم اختص بهذا القدر؟ وبين أن يتوجه في العلة فيقال: ولم خصص هذا القدر عن مثله؟ فإن أمكن دفع السؤال عن العلة بأن هذا المقدار ليس مثل غيره، إذ النظام مرتبط به دون غيره، أمكن دفع السؤال عن نفس الشيء ، ولم يفتقر إلى علة ، وهذا لا مخرج عنه، فإن هذا المقدار المعين الواقع، إن كان مثل الذي لم يقع، فالسؤال متوجه : أنه كيف ميز الشيء عن مثله؟ خصوصا على أصلهم. وهم ينكرون الإرادة المميزة ، وإن لم تكن مثلا له فلا [ ص: 289 ] يثبت الجواز ، بل يقال: وقع كذلك قديما ، كما وقعت العلة القديمة بزعمهم" .
قال: "وليستمد الناظر في هذا الكتاب مما أوردناه لهم من توجيه السؤال في الإرادة القديمة ، وقلبنا ذلك عليهم في نقطة القطب وجهة حركة الفلك. وتبين بهذا أن من لا يصدق بحدوث الأجسام فلا يقدر على إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم [أصلا]" .