[ ص: 15 ] أحدها: أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهيان، أحدهما مقبول والآخر مردود، كان هذا قدحا في مبادئ العلوم كلها، وحينئذ لا يوثق بحكم البديهة. والمثبتون يقولون: هذا كلام باطل لوجوه:
الثاني: أنه إذا جوز ذلك، فالتمييز بين النوعين: إما أن يكون بقضايا بديهية، أو نظرية مبنية على البديهية، وكلاهما باطل، فإنا إذا جوزنا أن يكون في البديهيات ما هو باطل، لم يمكن العلم بأن تلك البديهية المميزة بين ما هو صحيح من البديهيات الأولى، وما هو كاذب مقبول التمييز، حتى يعلم أنها من القسم الصحيح، وذلك لا يعلم إلا ببديهية أخرى مبينة مميزة، وتلك لا يعلم أنها من البديهيات الصحيحة إلا بأخرى، فيفضي إلى التسلسل الباطل، أو ينتهي الأمر إلى بديهية مشتبهة لا يحصل بها التمييز، فلا يبقى طريق يعلم به الحق من الباطل، وذلك يقدح في التمييز، والنظريات موقوفة على البديهيات، فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة: فيها حق وباطل، كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك، وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل، وهذا جامع كل سفسطة.
وبتقدير ثبوت السفسطة، لا تكون لنا عقليات يثبت بها شيء، فضلا عن أن تعارض الشرعيات.
[ ص: 16 ] الثالث: أن قول القائل: إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود، تمتنع الإشارة الحسية إليه، ممنوع.
الرابع: أنه بتقدير التسليم بكون المقدمة جدلية، فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة، لم ينتفع العقل بتلك القضية، إلا أن تكون معلومة له بالبديهة الصحيحة، فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل، وكان تسليم الوهم إنما يجعل القضية جدلية لا برهانية، وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية.
الخامس: أن قول القائل: وهذا أول المسألة، فإن المثبتين يقولون: ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه، أو لا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك. إن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي ما لا يمكن الإشارة الحسية إليه،
فإذا قيل لهم: حكم الوهم والخيال مقبول في الحسيات دون العقليات. والمراد بالعقليات موجودات خارجة قائمة بأنفسها لا يمكن الإشارة الحسية إليها.
قالوا: إبطالكم لحكم الفطرة الذي سميتموه الوهم والخيال، موقوف على ثبوت هذه العقليات، وثبوتها موقوف على إبطال هذا [ ص: 17 ] الحكم، وإذا لم يثبت هذا إلا بعد هذا، ولا هذا بعد هذا، كان هذا من الدور الممتنع.
السادس: أن يقال: إن أردتم بالعقليات ما يقوم بالقلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها، فليس الكلام هنا في هذه، ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية، إن أردتم بالعقليات موجودات خارجة لا يمكن الإشارة الحسية إليها، فلم قلتم: إن هذا موجود، فالنزاع في هذا، ونحن نقول: إن بطلان هذا معلوم بالبديهة.
السابع: أن يقال: الوهم والخيال يراد به ما كان مطابقا وما كان مخالفا، فأما المطابق، مثل توهم الإنسان لمن هو عدوه أنه عدوه، وتوهم الشاة أن الذئب يريد أكلها، وتخيل الإنسان لصورة ما رآه في نفسه بعد مغيبه، ونحو ذلك، فهذا الوهم والخيال حق، وقضاياه صادقة، وأما غير المطابق: فمثل أن يتخيل الإنسان أن في الخارج ما لا وجود له في الخارج، وتوهمه ذلك مثل من يتوهم فيمن يحبه أنه يبغضه، ومثل ما يتوهم الإنسان أن الناس يحبونه ويعظمونه، والأمر بالعكس، والله لا يحب كل [مختال] فخور، فالمختال الذي يتخيل في نفسه أنه عظيم، فيعتقد في نفسه أكثر مما يستحقه، وأمثال ذلك.
قالوا: وإذا كان الأمر كذلك، فلم قلتم: إن حكم الفطرة بأن الموجودين إما متباينان وإما متحايثان من حكم الوهم والخيال الباطل، ونحن نقول: إنه من حكم الوهم والخيال المطابق؟
[ ص: 18 ] فإذا قلتم: إن العقل دل على أنه باطل، كان الشأن في المقدمات التي ينبني عليها ذلك، وتلك المقدمات أضعف في الفطرة من هذه المقدمات، فكيف يدفع الأقوى بالأضعف؟
الثامن: أن المثبتين قالوا: بل المقدمات المعارضة لهذا الحكم هي من الوهم والخيال الباطل، مثل إثبات الكليات في الخارج، وتصور النفي والإثبات المطلقين ثابتين في الخارج، وتصور الأعداد المجردة ثابتة في الخارج، فإن هذه المتصورات كلها لا تكون إلا في الذهن، ومن اعتقد أنها ثابتة في الخارج فقد توهم وتخيل ما لا حقيقة له، وجعل هذا التوهم والخيال الباطل مقدمة في دفع القضايا البديهية.
التاسع: أن يقال: لا نسلم أن في الفطرة قضايا تستلزم نتائج تناقض ما حكمت به أولا كما يدعونه، فإن هذا مبني على أن المقدمات المستلزمة ما يناقض الحكم الأول مقدمات صحيحة، وليس الأمر كذلك، كما سنبينه إن شاء الله تعالى، فإن هذه المقدمات هي النافية لعلو الله على خلقه ومباينته لعباده، والمقدمات المستلزمة لهذا ليست مسلمة، فضلا عن أن تكون بديهية.
الوجه العاشر: أن الذين جعلوا هذه القضايا من حكم الوهم الباطل هم طائفة من نفاة الصفات الجهمية، من المتكلمين، والمتفلسفة، ومن تلقى ذلك عنهم، وهذا معروف في كتب ابن سينا ومن اتبعه من أهل المنطق.
[ ص: 19 ] وكثير من أهل المنطق، وغيره، يخالف كابن رشد الحفيد فيما ذكره في هذا الباب في الإلهيات والمنطقيات، ويذكر أن مذاهب الفلاسفة المتقدمين بخلاف ما ذكره، وأما الأساطين قبله فالنقل عنهم مشهور بخلافهم في هذا الباب. ابن سينا